الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
جهود صلاح الدين في ضم دمشق
الحلقة: السادسة و الستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ يوليو 2020


بعد أن استتبَّ الوضع الداخلي في مصر، تجهَّز صلاح الدين للزَّحف نحو بلاد الشام بعد خمسة أشهر من وفاة نور الدين محمود، وقد خرج من القاهرة في «شهر صفر عام 570هـ» شهر أيلول عام 1174م على رأس سبعمئة جندي، ورافقه: سيف الدين طغتكين، وتقي الدين عمر، وعز الدين فروخشاه، وعهد إلى أخيه العادل بإدارة شؤون مصر أثناء غيابه، كما احتاط للمحافظة عليها ، فوزَّع بعض عساكره على ثغورها ، ومداخلها.  وقطع الطريق متمهلاً جداً في ثلاثة أشهر بين أول صفر ، ونهاية ربيع الثاني سنة 571هـ وتوقف على الطَّريق في بلبيس، وتفقد حصن أيلة (العقبة)ربيع الثاني سنة 571هـ .
هل كان يفكر في ما سوف يشيعه الأمراء ، والزنكيُّون في اتهامه بالعقوق ، وبالطَّمع الشخصي؟ أم كان يتأنَّى وهو يرسم الخطة لكسب أمراء نور الدين دون حربٍ ، أو نزاع؟ أم كان يقيس مدى شعبيته لدى الناس بهذا الجيش القليل، فيأتي الشام ، كالأعزل ، وجيشه في مصر؟ أم كان يتحدَّى الذين يريدون عزله في مصر ، والانفراد بإرث نور الدِّين ، وولده؟ أم كان يمهِّد بهدوء لدخول البلاد سلماً بالاستناد إلى محبته الشعبية؟! أفكار كثيرة يمكن أن ترد إلى خاطره ، ولعلَّ أشدَّها: أنَّ أعداءه سيظنون به الظُّنون ، ويركبونها ، ويشنعون عليه بالمطامع الشَّخصية ، فقد كتب كتاباً بالإنشاء الفاضلي قال فيه: إنَّ الوفاء إنما يكون بعد الوفاة ، والمحبة تظهر اثارها عند تكاثر العداة ، وبالجملة فأنا في وادٍ ، والظانُّون بي ظنَّ السوء في وادٍ ، ولنا من الصَّلاح مراد لن يبعدنا عنه مراد ، ولا يقال لمن طلب الصَّلاح: إنك قادح ، ولا لمن ألقى السلاح: إنك جارح ، وما مرادنا إلا مصلحة تؤثر ، لا فتنة تثار ، فلو زدنا على غير هذا السبيل؛ لما سلكنا مراجعة الخطاب ، ومطالعة الكتاب ، فلا يحمل أمرنا إلا على أحسنه ، ولا يظن بنا إلا الخير؛ الذي طَبْعُنا أخص بوجوده من معدنه.
وقد أرسل صلاح الدين رسالةً إلى الخليفة السمتضيء يوضح فيها سبب زحفه على بلاد الشام ، وكان الهدف من الرسالة إضفاء الصِّفة الشرعية للعمل؛ الذي يقوم به ، وكذلك لإشعار الخلافة العباسية بولائه لها، فذكر:
1 ـ خطاب صلاح الدين الموجه للخليفة العباسي: أرسل السُّلطان صلاح الدين الخطيبَ شمس الدين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز برسالة ضمَّنها القاضي الفاضل كتاباً طويلاً رائقاً فائقاً ، يشتمل على تعداد ما للسلطان من الأيادي من جهاد الإفرنج في حياة نور الدِّين ، ثم فتح مصر ، واليمن ، وبلادٍ جمَّة من أطراف المغرب، وإقامة الخُطبة العباسية بها ، يقول في أوله للَّرسول: فإذا قضى التَّسليم حقَّ اللقاء ، واستدعى الإخلاص جهد الدُّعاء ، فليُعد حوادث ما كانت حديثاً يفترى ، وجواري أمور إن قال فيها كثيراً؛ فأكثر منه ما قد جرى ، وليشرح صدراً منها لعلَّة يشرح منا صدراً ، وليوضح الأحوال المستترة ، فإنَّ الله لا يُعبَد سِراً.
ومِن الغرائب أن تسيرَ غرائبٌ
كالعِيْسِ أقتلُ ما يكون لها الصَّدى
        في الأرض لم يعلم بها المأمولُ
والماءُ فوق ظهورها محمولُ

فإنا كنا نقتبس النَّار بأكفِّنا ، وغيرنا يستنير ، ونستنبط الماء بأيدينا ، وسوانا يستمر ، ونَلْقى السِّهام بنحورنا ، وغيرنا يعتمد التَّصوير ، ونصافح الصِّفاح بصدورنا ، وغيرنا يَدعي التَّصدير. ولا بدَّ أن نستردَّ بضاعتنا بموقف العدل؛ الذي تُرَدُّ به الغُصوب ، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظِّ القلوب. وما كان العائق إلا كُنَّا ننتظر ابتداءً من الجانب الشريف بالنِّعمة يضاهي ابتداءنا بالخدمة ، وإيجاباً للحقِّ يشاكل إيجابنا للسَّبْق ، وكان أول أمرناأنا كنا في الشام نفتتح الفتوح مباشرين بأنفسنا ، ونجاهد الكُفَّار... متقدِّمين لعساكرنا ، نحن ووالدنا ، وعمنا ، فأيُّ مدينةٍ فُتحت ، أو مَعْقِل مُلِكَ، أو عسكرٍ للعدوِّ كُسِر ، أو مصاف للإسلام معه طرب لم نكن فيه؟
فما يجهل أحدٌ صنعنا ، ولا يجحدُ عدونا: أنَّا نعطي الجمرة ، ونملك الكَرَّة ، ونتقدَّم الجماعة ، ونُرتِّب المقاتلة ، وندبِّر التَّعبئة ، إلى أن ظهرت في الشام الاثار التي لنا أجرها ، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرُها ، وكانت أخبار مصر تتَّصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء تدبير ، وبما دَوْلتها عليه من غلبة صغير على كبير ، وأن النظام بها قد فَسَد ، والإسلام بها قد ضَعُفَ عن إقامته كلُّ مَنْ قام ، وقَعَد ، والفرنج قد احتاج من يدبِّرها إلى أن يقاطعهم بأموالٍ كثيرة ، لها مقادير خطيرة ، وأنَّ كلمة السُّنَّة بها وإن كانت مجموعةً؛ فإنها مقموعةٌ ، وأحكام الشريعة ، وإن كانت مسماة ؛نها متحاماة ، وتلك البدع بها على ما يُعلم ، وتلك الضَلالات فيها على ما يفتى فيه بفراق الإسلام ، ويحكم ، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللَّحم ، والدم ، وتلك الأنصاب قد نُصبت الهةً تُعْبَدُ من دون الله ، وتعظَّمُ ، وتضخَّم ، فتعالى عن شبه العباد ، وويل غَرَّة تقلُّب الذين كفروا في البلاد.
فسمت همَّتُنا دون همم أهل الأرض إلى أن نستفتح مُقَفلها ، ونسترجع للإسلام شاردها ، ونعيد على الدِّين ضالَّته منها ، فسرنا إليها في عساكر ضخمة ، وجموع جمة ، وبأموال انتهكت الموجود ، وبلغت منا المجهود ، أنفقناها من حاصل ذممنا ، وكسب أيدينا ، وثمن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا ، فعرضت عوارض منعت ، وتوجَّهت للمصريين رُسُلٌ باستنجاد الفرنج قطعت «ولكلِّ أجلٍ كتاب» ولكلِّ أملٍ باب. وكان في تقدير الله: أنا نملكها على الوجه الأحسن ، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن ، فَغَدَرَ الفرنج بالمصريين غدرةً في هدنة عَظُمَ خَطْبُها ، وخبطها ، وعُلِم: أنَّ استئصال كلمة الإسلام محطُّها ، فكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزَّمان، كما كاتبنا المسلمون من الشَّام في هذا الأوان بأنَّا إن لم ندرك الأمر ، وإلا خرج عن اليد ، وإن لم ندفع غريم اليوم؛لم نمهل إلى الغد، فسرنا بالعساكر المجموعة ، وأمراء الأهل المعروفة إلى بلادٍ قد تمهَّد لنا بها أمران ، وتقَّرر لنا في القلوب وُدَّان: الأول ما علموه من إيثارنا للمذهب الأقوم ، وإحياء الحقِّ الأقدم ، والاخر ما يرجونه من فكِّ إسارهم ، وإقالة عِثارهم ، ففعل الله ما هو أهله ،وجاء الخبر إلى العدوِّ ، فانقطع حَبْلُه ، وضاقت به سُبُله ، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ، ورساتيقها ، وبلادها ، وأقاليمها قد نفذت فيها أوامره ، وخفقت عليها صُلْبانه ، ونصبت بها أوثانه ، وأيس من أن يُسترجع ما كان بأيديهم حاصلاً ، وأن يُستنقذ ما صار في ملكهم داخلاً.
ووصلنا البلاد ، وبها أجناد عددهم كثير ، وسوادهم كبير ، وأموالهم واسعة ، وكلماتهم جامعة ، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر ، والحيلة في السِّرِّ فيهم من العزيمة في الجهر ، وبها راجل من السُّودان يزيد على مئة ألف ، كلُّهم أغتام أعجام «إن هم إلاَّ كالأنعام» لا يعرفون ربَّاً إلا ساكن قصره ، ولا قبلة إلاَّ ما يتوجهون إليه من ركنه ، وامتثال أمره ، وبها عسكر من الأرمن باقون على النَّصْرانية ، موضوعةٌ عنهم الجزية ، كانت لهم شوكةٌ ، وشِكَّة ، وحُثمة ، وحَمِيَّة ، ولهم حواش لقصورهم من بين داع تلطِّف في الضَّلال مداخلُه ، وتصيب القلوبَ مخاتله ، ومن بين كُتَّاب تفعل أقلامهم أفعال الأشل ، وخُدَّام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النِّحل ، ودولة قد كبر نملها الصَّغير ، ولم يعرف غيرها الكبير ،ومهابة تمنه من خَطَرات الضَّمير ، فكيف بخطوات التدبير.
هذا إلى استباحةٍ للمحارم ظاهرة ، وتعطيلٍ للفرائض على عادةٍ جائرة ، وتحريفٍ للشريعة بالتأويل ، وعدولٍ إلى غير مراد الله بالتنزيل ، وكُفْرٍ سُمي بغير اسمه ، وشرعٍ يُتستَّر به ، ويُحكم بغير حكمه ، فما زلنا نسحتهم سحت المبادر للشَّفار ، ونتحيَّفهم تحيُّف الليل والنَّهار للأعمار بعجائب تدبير لا تحتملها المساطير ، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير ، ولطيف توصُّلٍ ما كان من حيلة البشر ، ولا قُدرتهم لولا إعانة المقادير ، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج: دفعةً إلى بلبْيس ، ودفعةً إلى دمياط ، وفي كلِّ دفعة منهما وصلوا بالعدو المجهر ، والحشد الأوفر ، وخصوصاً في نوبة دمياط ، فإنهم نازلوها بحراً في ألف مركب مقاتل ، وحامل ، وبرَّاً في مئتي ألف فارس ، وراجل ، وحصروها شهرين يباكرونها ، ويراوحونها ، ويماسونها ، ويصاحبونها القتال الذي يصلِّبه الصليب ، والقراع الذي ينادي به الموت من كل مكان قريب,  ونحن نقاتل العدوَّين الباطن ، والظَّاهر ، ونصابر الضِّدَّين المنافق ، والكافر؛ حتى أتى الله بأمره,  وأيَّدنا بنصره ، وخابت المطامع من المصريين ، والفرنج ، وشرعنا في تلك الطوائف من الأرمن ، والسُّودان، والأجناد ، فأخرجناهم من القاهرة بالأوامر المرهقة لهم ، وبالأمور الفاضحة منهم ، وبالسيوف المجرَّدة ، وبالنار المحرقة ، حتى بقي القصْرُ ، ومن به من خدم ، ومن ذُرِّية قد تفرَّقت شِيَعُه ، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته.
فهناك تمَّ لنا إقامة الكلمة ، والجهر بالخطبة ، والرَّفع لِلَّواء الأسود المعظم ، وعاجل الله الطاغية الأكبر لهلاكه ، وفنائه، وبرأنا من عُهدة يمين ثم يمين كان إثم حِنثها أيسر من إثم إبقائه,  لأنه عوجل لفرط روعته ، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته ، ولما خلا ذرعنا ، ورَحُب وسعنا؛ نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكُفَّار ، فلم تخرج سَنَة إلا عن سُنَّة أقيمت فيها براً ، وبحراً ، مركباً ، وظهراً ، إلى أن أوسعناهم قتلاً ، وأسراً ، وملَكنا رقابهم قهراً ، وقسراً ، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أُخذت من أيديهم ، ولا أُوجفت عليها خيلهم ، ولا ركابهم مُذ ملكها أعاديهم ، فمنها ما حكمت فيه يَدُ الخراب ، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب ، ومنها قلعة بثغر أيلة ، كان العدوُّ قد بناها في بحر الهند ، وهو المسلوك منه إلى الحرمين ، واليمن ، وغزا ساحل الحَرَم ، فسبي منه خَلْقاً ، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقاً ، فكادت القبلة أن يُستولي على أصلها ، ومشاعر الله أن يسكنها غيرُ أهلها ، ومقام الخليل عليه السَّلام أن يقوم به من نَارُه غيرُ بردٍ وسلام ، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرَّقه من لا يدين بما جاء به من الإسلام ، ففتح الله هذه القَلعة ، وصارت مَعْقِلاً للجهاد ، ومؤئلاً لسُفَّار البلاد ، وغيرهم من عُبَّاد العباد. ثمَّ قال:
وكان باليمن ما عُلِم من ابن مهدي الضَّال الملحد المبتدع المتمرِّد ، وله اثار في الإسلام ، وثأر طالِبُهُ النَّبيُّ ، عليه الصلاة والسلام؛ لأنه سبي الشرائف الصَّالحات ، وباعهن بالثمن البَخْس ، واستباح منهنَّ كل مالا يقرُّ المسلم عليه نفس ، ودان ببدعة ، ودعا إلى قبر ، أبيه وسمَّاه: كعبة ، وأخذ أموال الرَّعايا المعصومة ، وأجاحها ، وأحلَّ الفروج المحرَّمة ، وأباحها ، فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلَّفنا له نفقاتٍ واسعةً ، وأسلحةً رائعةً ، وسار,  فأخذناه ، ولله الحمد ، وأنجح الله فيه القصد ، والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سامية ، وإلى ما يقتضي الإسلام عُذرته متمادية.
ولنا في الغرب أثرٌ أغرب ، وفي أعمله أعمال دون مطلبها مهالك ، كما يكون المهلك دون المطلب ، وذلك أن بني عبد المؤمن قد اشتهر: أنَّ أمَرْهَم قد أَمِر ، وملكهم قد عُمر ، وجيوشهم لا تطاق ، وأمر لا يشاق ، ونحن بحمد الله قد تملَّكنا مما يجاورنا منه بلاداً تزيد مسافتها على شهر ، وسَيَّرنا إليها عسكراً بعد عَسكر ، فرجع بنصرٍ بعد نصرٍ، ومن البلاد المشاهير ، والأقاليم الجماهير: برقة ، قَفصة ، قسطيلية ، تَوْزَر ، كلُّ هذه تقام فيها الخطبة لمولانا المستضيء بأمر الله ـ أمير المؤمنين سلام الله عليه ـ ولا عهد للإسلام بإقامتها ، وينفَّذ فيها الأحكام بعلمها المنصور ، وعلامتها. وفي هذه السنة كان عندنا وَفدٌ قد شاهده وفود الأمصار,  ورموه بأسماع ، وأبصار ، مقداره سبعون راكباً ، كلُّهم يطلب لسلطان بلده تقليداً ، ويرجو منا وعداً ، ويخاف وعيداً ، وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها ، وألقيت إلينا مقاليدها ، وسَيَّرنا الخِلعَ ، والمناشير ، والألوية بما فيها من الأوامر ، والأقضية.
فأمَّا الأعداء المحدقون بهذه البلاد ، والكُفَّار الذين يقاتلوننا بالممالك العظام ، والعزائم الشِّداد ، فمنهم صاحب قسطنطينية ، وهو الطَّاغية الأكبر ، والجالوت الأكفر ، وصاحب المملكة التي أكلت على الدَّهر ، وشربت ، وقائم النَّصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغَلَبَتْ ، جرت لنا معه غزواتٌ بحرية ، ومناقلاتٌ ظاهرةٌ وسِرِّيةٌ ، ولم نخرج من مصر إلى أنْ وصلتنا رُسله في جمعة واحدة نوبتين بكتابين ، كلُّ واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح,  وإلقاء السِّلاح ، والانتقال من معاداة إلى مُهاداة ، ومن مفاضحة إلى مناصحة؛ حتى إنَّه أنذر بصاحب صقلِّية ، وأساطيله؛ التي تردَّد ذكرها ، وعساكره؛ التي لم يخفَ أمرها. ومن هؤلاء الكفار هذا صاحب صقليَّة كان حين علم بأنَّ صاحب الشَّام ، وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط ، فغُلبا قسراً ، وهُزما ، وكُسرا ، فأراد أن يُظهر قَوَّته المستقلَّة ، فعمَّر أسطولاً استوعب فيه ماله ، وزمانه ، فله الان خمس سنين يكثُر عِدَّته ، وينتخب عُدَّته ، إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى الإسكندرية أمرٌ رائع ، وخَطْبٌ هائلٌ ، ما أثقل ظهر الحبر مِثلُ حمله ، ولا ملأ مدره مثل خليه ، ورَجله ، وما هو إلا إقليم بل أقاليم نَقَلَه ، وجيش ما احتفل ملك قطُّ بنظيره لولا أن الله خذله. ومن هؤلاء الجيوش البنادقة ، والبياشنة ، والجنوبية.
كلُّ هؤلاء تارةً يكونون غزاةً ، لا تُطاق ضراوة ضَرِّهم ، ولا تطفأ شرارة شَرِّهم. وتارة يكونون سُفَّاراً يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة ، وتقصُر عنهم يدُ الأحكام المرهوبة ، وما منهم إلا من هو الان يجلب إلى بلدنا الة قتاله ، وجهاده ، ويتقرَّب إلينا بإهداء طرائف أعماله ، وتلاده ، وكلُّهم قد قُرِّرت معهم المواصلة ، وانتظمت معهم المُسالمة ، على ما نريد ، ويكرهون ، وعلى ما نؤثرُ ، وهُمُ لا يؤثرون.
ولما قضى الله سبحانه بالوفاة النورية ، وكنا في تلك السَّنة على نِيَّة الغزاة ، والعساكر قد تجهَّزت ، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج بانياس ، وأشرفوا على اجتيازها ، ورأوها
فُرصةً مدُّوا يَدَ انتهازها؛ استصرخ بنا صاحبها ، فسرنا مراحل اتصل بالعدوِّ أمرها ، وعوجل بالهُدْنة الدمشقية؛ التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ، ثم عدنا إلى البلاد ، وتوافت إلينا الأخبار بما المملكة النورية عليه من تشعُّب الآراء ، وتوزُّعها ، وتشتُّت الأمور ، وتقطُّعها ، وأن كلَّ قلعةٍ قد حصل فيها صاحبٌ ، وكلَّ جانب قد طمع إليه طالبٌ ، والفرنج قد بنوا قلاعاً يتحيَّفون بها الأطراف الإسلامية ، ويضايقون بها البلاد الشاميَّة ، وأمراء الدولة النَّورية قد سُجِنَ كبارُهم ، وعوقبوا ، وصودروا ، والمماليك الأغمار الذين خُلقوا للأطراف لا للصُّدور ، وجُعلوا للقيام لا للقعود في المجلس المحضور قد مدُّوا الأيدي ، والأعين ، والسيوف ، وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر ، والنَّهي عن المعروف.
وكلُّ واحد يتَّخذ عند الفرنج يداً ، ويجعلهم لظهره سنداً. وعلمنا: أن البيت المقدَّس إن لم تتيسَّر الأسباب لفتحه ، وأمر الكفُر إن لم يجرد العزم في قَلْعه؛ وإلا نبتت عروقه ، واتَّسعت على أهل الدين خُروقه ، وكانت الحجَّة لله قائمةً ، وهمم القادرين بالقعود اثمةً ، وإنَّا لا نتمكن بمصر منه مع بُعد المسافة ، وانقطاع العمارة ، وكلال الدَّواب التي بها على الجهاد القوَّة ، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية ، والمنفعة جامعة ، واليد قادرة ، والبلاد قريبة ، والغزوة ممكنة ، والميرة متَّسعة ، والخيل مستريحة ، والعساكر كثيرة الجموع ، والأوقات مساعدة. وأطحنا ما في الشام من عقائد مَعتلَّة ، وأمور مختَلَّة ، واراء فاسدة ، وأمراء متحاسدة ، وأطماع غالبة ، وعقول غائبة ، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه ، فإنَّا به أولى من قوم يأكلون الدُّنيا باسمه. ويُظهرون الوفاء في خدمته؛ وهم عاملون بظلمه.
والمراد الان هو كلُّ ما يقوِّي الدولة ، ويؤكِّد الدَّعوة ، ويجمع الأمَّة ، ويحفظ الألفة ، ويضمن الرأفة ، ويفتح بقية البلاد، وأن يطبَّق بالاسم العباسي كلَّ ما تطبقه المهاد ، وهو تقليد جامع بمصر ، واليمن ، والمغرب ، والشام ، وكلَّ ما تشتمل عليه الولاية النورية ، وكلَّ ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفنا ، وسيوف عساكرنا ، ولمن نقيمه من أخٍ ، أو ولدٍ من بعدنا تقليداً يضمن للنِّعمة تخليداً ، وللدَّعوة تجديداً ، ومع ما ينعم به من السِّمات التي يقتضيها الملك.
وبالجملة فالشام لا تنتظم أموره بمن فيه ، والبيت المقدَّس ليس له قْرن يقوم به ، ويكفيه ، والفرنج فهم يعرفون منا خَصماً لا يَمَلُّ الشرَّ حتى يملُّوا ، وقرْناً لا يزال محرم السيف حتى يجلوا ، وإذا شَدَّ رأينَا حُسْن الرأي؛ ضربنا بسيف يقطع في غمده ، وبلغنا المنى بمشيئة الله تعالى ويَدُ كلِّ مؤمنٍ تحت بُرْده ، استنقذنا أسيراً من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
ومن كتاب اخر فاضلي جاء فيه: لم يكن سببُ خروج المملوك من بيته إلا وعدٌ كان انعقد بينه وبين نور الدين ـ رحمه الله تعالى ـ في أن يتجاذبا طرفي الغزاة من مصر ، والشام ، المملوك بعسكريي بَرِّه ، وبحره ، ونور الدين من جانب سهل الشَّام ، وَوَعْره ، فلمَّا قضى الله بالمحتوم على أحدهما وحدثت بعد الأمور أمور ، واشتهرت للمسلمين عورات ، وضاعت ثغور ، وتحكَّمت الآراء الفاسدة ، وفُورقت المحاجُّ القاصدة ، وصارت الباطنية بطانةً من دون المؤمنين ، والكُفْار محمولةٌ إليها جِزَى المسلمين ، والأمراء ـ الذين كانوا للإسلام قواعد ، وكانت سيوفهم للنَّصر موارد ـ يشكون ضيق حلقات الإسار ، وتطرُّق الكفار بالبناء في الحدود الإسلامية ، ولا خفاء: أنَّ الفرنج بعد حلولنا بهذه الخطَّة قاموا ، وقعدوا ، واستنجدوا علينا أنصار النَّصراينة في الأقطار ، وسيرَّروا الصَّليب ومن كُسي مذابحهم بقمامة ، وهدَّدوا طاغية كفرهم بأشراط القيامة, وأنفذوا البطارقة ، والقسِّيسن برسائل صُور مَنْ يصورونه ممن يسمُّوهم القِدِّيسين، وقالوا: إنَّ الغفلة إن وقعت؛ أوقعت فيما لا يُستدرك فارطه. وإن كُلاًّ من صاحب قُسطنطينية ، وصاحب صِقِلِّية ، وملك الألمان ، وملوك ما وراء البحر ، وأصحاب الجزائر ، كالبندقية ، والبشانية ، والجنوية ، وغيرهم ، قد تأهبوا بالعمائر البحرية ، والأساطيل القويَّة ، والإسلام يا أمير المؤمنين أعزُّ ناصراً ، لاسيما وهم ينصرون باطلاً ، وهو ينصر حقاً ، وهو يعبد خالقاً ، وهم يعبدون خلْقا.
وقد استجاب الخليفة لمطالب صلاح الدِّين ، وأنعم عليه بحكم مصر ، والشَّام ، وأرسل إليه رسل دار الخلافة عندما كان يحاصر حماة في عام (570هـ/1174م) تحمل التشريفات ، والتقليد ، والتمليك ، والتفويض وهذا دليلٌ على رغبة الخلافة العباسية في التعامل الصَّادق مع صلاح الدين؛ الذي رأت فيه الشَّخصية التي سوف تملأ الفراغ الذي تركه نور الدين محمود ، واعترافٌ له بالسلطنة ، وأنَّه أصبح الشخصية المؤهَّلة للدفاع عن المسلمين. وقد أضفى هذا التقليد عليه المهابة أمام الأمراء المسلمين بعامة ، والصَّليبيين بخاصةٍ. والواقع: أن صلاح الدين ـ على الرغم مما توافر له من القوَّة ـ كان بحاجة إلى مساندة الخلافة في صراعه مع الأمراء المسلمين المناوئين؛ وبخاصة الزَّنكيين ، لذلك كان يُطلع هذه الخلافة على تحرُّكاته ، ومنجزاته؛ ليكسب تأييدها.
2 ـ دخوله دمشق: وصل صلاح الدين بجيشه إلى دمشق ، واستقبل استقبالاً طيباً ، وفتح له ابن المقدَّم في اليوم التالي أبواب المدينة ، وسلَّمها له ، وامتنعت عليه القلعة ، وكانت بيد خادم اسمه جمال الدين ريحان ، فاستماله صلاح الدين ، وأقنعه بتسليمها له ، وهكذا ضَمَّ صلاح الدين دمشق ، وقلعتها بحجَّة حماية الصَّالح إسماعيل من خطر الصَّليبيين ، والأمراء الطامعين ، واستردَّ الأملاك؛ التي استولى عليها سيف الدين غازي أمير الموصل ، والجزيرة. واعتمد صلاح الدين في دمشق سياسة تأييد الناس له ، فأمر بإنفاق الأموال على النَّاس ، وإبطال الضَّرائب ، وإزالة المكوس ، وإطابة النفوس ، وأكرم العلماء لما كان لهم من تأثيرٍ كبيرٍ على العامة؛ حيث زار دار القاضي كمال الدين الشهرزوري ، وأزال سوء التفاهم بينهم ، وأجابه القاضي الشهرزوري بقوله: طب نفساً فالأمر أمرُك ، والبلد بلدك .فكانت كلمات القاضي إعلاناً للدِّمشقيين بالتسليم المطلق لصلاح الدين ، والانقياد له ، فأعلنوا فرحتهم ، وسرورهم ، وسلموا مقاليدهم إلى صلاح الدين ، وقابلهم بالإكرام والترحيب ، وإظهار السرور بهم.
وألقى صلاح الدين كلمةً في أهل دمشق قال فيها: إنَّ الله ملَّكنا دمشق عنايةً ، لا عنوةً ، ولم يكتب فيها ـ بحمد الله ـ إلى خطيئةٍ خطوةً ، ولا حدثت عثرةٌ ، فيقال في أمرها: لعلَّه يقال ، ولا استعبدت حقه في ذكرها لعله يقال: ... فعلموا: أن الهشيم تذروه الرياح ، والصَّريم يمحوه الصباح ، والسيف أصدق أنباءً ، والحق أعزُّ بناءً ، والباطل يضمحل عناءً ، والزَّبد يذهب جفاءً. ألا وإنا رأينا العفو أقرب للتَّقوى ، وأمثل في سلوك الطريقة المثلى ، فحفظنا الدماء في أهبتها ، وأرحنا القلوب من نصبها ، وأبقينا السلطنة في منصبها ، ورددنا السيف عن قرب نقيضها في قربها ، وتركنا الرِّياح وأطرافها تضطرم ، وستضطرب وقداً ، وقلنا لنار الغيظ يا نار كوني برداً ، ونظرنا في أحوال البيت النوري ـ أعلاه الله ـ فإذا قد انطفأت مصابيح نوره: وكاد ذكره في الذَّهاب يلحق بمذكوره.
وبعد ضم دمشق أخذ صلاح الدين ينفِّذ سياسته في إعادة بناء الجبهة الإسلامية المتَّحدة ، بحيث تمتدُّ من شمالي العراق إلى بلاد الشام ، فمصر؛ ليتمكن بعد ذلك ، من البدء في حركة الجهاد الإسلامي ضدَّ الصليبيين؛ والمسلمون أشدُّ ما يكونون قوةً ، وتماسكاً. ولمَّا حصل على دمشق ، وقلعتها ، واستوطن بقُعتها؛ نشر عَلَم العَدْل ، والإحسان ، وعفَّى آثار الظلم ، والعدوان ، وأبطل ما كان الولاة استجدُّوه بعد موت نور الدين من القبائح ، والمنكرات ، والمؤن,  والضَّرائب ، والمحرَّمات. ثم تابع تقدُّمه باتجاه الشَّمال لمناوأة كمشتكين في حلب، بعد أن عيَّن أخاه طغتكين والياً على دمشق ، فضمَّ حمص ، وتقدَّم باتجاه حلب ، بعد أن استعصت عليه القلعة.
3 ـ مهاجمة حلب: تولَّى الملك الصالح إسماعيل الحكم بعد وفاة والده ، ولما كان صغيراً لا يفقه تدبير شؤون الحكم؛ كان وجوده على رأس السلطة اسمياً فقط ، بينما تمكَّن أعوانُه من التلاعب بمقدَّرات الدولة ، ونقلوا مركز الحكم من دمشق إلى حلب ومن حلب ، بدأ كمشتكين ، الوصي على الملك الصَّالح ، والمتفرِّد بحكم المدينة تنفيذ سياسة خاصَّة تقضي بتثبيت نفوذه ، فاعتقل ابن الداية ، وراح يخطط لإبعاد صلاح الدين عن حلب بكلِّ الوسائل ، فعندما تقدَّم صلاح الدين إلى حلب؛ بعث إليه كمشتكين كتاباً ، واتهمه فيه بحبِّه للغزو ، والسيطرة على أملاك سيِّده نور الدين محمود ، وابنه الملك الصَّالح. والواقع: أن صلاح الدين وقف على نوايا كمشتكين ، وغاياته ، فكان يراسل الملك الصَّالح لتوضيح الأمر له ، وإبداء النُّصح منعاً لتردي العلاقات بينهما ، ويبدو: أنَّ الملك الصالح لم يكن راضياً عن تصرُّفات أمرائه ، إلا أنه كان ضعيفاً لا يستطيع إبعادهم مِنْ حوله ، كما كان سريع التأثر بهم نظراً لصغر سنه.
وليس أدلَّ على ضعف الملك الصالح ، وتلاعب كمشتكين بمقدراته: أنَّه على الرَّغم من معارضته لاعتقال عز الدين جورديك ، أمير حماة ، ورسول صلاح الدين إليه لعقد صلح بين الطرفين ، إلا أنَّ كمشتكين لم يأبه لهذه المعارضة، فقبض على جورديك ، وأثقله بالحديد ، وعذَّبه ، ووضعه في الجبِّ الذي وضع فيه أولاد ابن الدَّاية ، ولذلك كان من الطبيعي أن يتوجَّه صلاح الدين إلى حلب لإنقاذ رسوله ، والملك الصَّالح من قبضة كمشتكين ، وضمِّ حلب إلى أملاكه ، ونظراً لأهميتها في مخطَّطه القاضي بتوحيد القوى الإسلامية. أغلق كمشتكين أبواب حلب في وجه صلاح الدين الذي شرع في 3 جمادى الاخرة عام 570هـ/30 كانون الأول عام 1174م في حصارها. وكان أهلها يميلون إلى الإذعان له باستثناء الشيعة فيها. وناشدهم الملك الصَّالح أن يحافظوا عليه من رجلٍ يريد أن يسلبه إرثه ، فاشترطوا لمؤازرته أن:
ـ يخصِّص الجانب الشرقي من الجامع لهم.
ـ يُعاد الأذان بـ «حيَّ على خير العمل» وأن يُذكر ذلك في الأسواق.
ـ يُذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز.
ـ يكبِّر على الجنازة خمساً.
ـ تكون عقود نكاحهم إلى أبي طاهر الحسيني.
وافق الصَّالح إسماعيل على طلبهم بتأثير من كمشتكين. حدث هذا في الوقت الذي لجأ فيه كمشتكين إلى الاستعانة بالحشيشية ، والصَّليبيين لإبعاد صلاح الدين عن أسوار حلب ، استحاب سنان زعيم الشيعة الباطنية الإسماعيلية ، وبعث بجماعة من الفدائيين في جمادى الاخرة 570هـ/كانون الثاني 1175م لقتل صلاح الدين متنكرين بزي الجند ، فتمكَّن بعضهم من التسلُّل إلى خيمته ، وأوشكوا على تنفيذ مؤامراتهم ، ولكن انكشف أمرهم ، ونجا صلاح الدين من محاولة الاغتيال.
وبعد أن فشل الشيعة الإسماعيلية في اغتيال صلاح الدين؛ أرسل كمشتكين إلى ريموند الثالث أمير طرابلس ، والوصي على عرش مملكة بيت المقدس أن يحدَّ من تعاظم قوة صلاح الدين ، إذ لم يكن بوسع الصليبيين أن يمنعوا وحدة دمشق ، والقاهرة ، غير أنَّ حلب ما زالت على الأقل خارجةً عن الاتحاد ، وهكذا أدرك الصليبييون: أنَّ استقلال حلب ، وبقاءها في يد البيت الزنكي هو الضَّمان الوحيد لمنع قيام وحدة إسلامية تمتدُّ من النيل إلى الفرات، وقد توافقت مصالحهم مع مصالح الزنكيين في هذا الشأن.
وحاول ريموند الثالث الالتجاء إلى الوسائل السياسية ، فأرسل إلى صلاح الدين يرِّغبه في الصلح ، ويلوِّح له بأن: الفرنج قد تعاضدوا ، وصاروا يداً واحدة ، ولكن صلاح الدين لم يخشَ التهديد ، وردَّ على ريموند الثالث بالإغارة على أعمال أنطاكية. عندئذٍ لم يجد الحاكم الصليبي وسيلةً لإبعاد صلاح الدين عن حلب سوى مهاجمة حمص ، فظهر أمامها ، وشرع يهاجم أسوارها ، تسانده الحامية ، المرابطة في القلعة التي ظلَّت على وفائها للزنكيِّين ، وفعلا اضطر صلاح الدين إلى رفع الحصار عن حلب ، وارتحل عن أسوارها لإنقاذ حمص؛ غير أن ريموند الثالث لم يمكث ليلتقي به، فعاد إلى حصن الأكراد بعد أن تأكَّد من تحقيق غرضه.
ولمَّا أطمأن صلاح الدين على سلامة حمص؛ غادرها متوجهاً إلى بعلبك وضمَّها إلى أملاكه في (4 رمضان 570هـ/30 اذار 1175م .كان أمراء حلب يعرفون: أنَّ صلاح الدين أقوى منهم مادياً ، ومعنوياً ، فقد أخطأوا بالتَّخطيط للتعامل معه ، واعتمدوا على إمكان إثارة ثلاث قوى معهم ضدَّه: الموصل ، والفرنج ، والإِسماعيلية ، ولذلك ارسلوا رسولاً هو قطب الدين ينال بن حسان المنجي برسالة تبرق ، وترعد ، ومع أنَّ صلاح الدين استقبل الرسول بنفسه بالتَّرحاب ثلاثة أيام ، إلا أنَّه أدَّى الرسالة في النهاية قائلاً: إنَّ السيوف التي مَّلكَتْكَ مصر ما تزال في أيدينا ، والرِّماح التي حويت بها قصور الفاطميين على أكتافنا ، والرجال التي ردَّت عنك تلك العساكر هي تردُّك ، وعما تصدَّيت له تصدُّك ، فقد تعديت طورك ، وجاوزت حدَّك ، وأنت أحد غلمان نور الدين ، وممن يجب عليه حفظه في ولده.
ولم يُحِبْه صلاح الدِّين على هذا كلِّه ، بل ضرب عنه صفحاً ، وتغاضياً ، وخاطبه بكلامٍ رقيق ، وقال: يا هذا اعلم أني وصلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام ، وحياطة الجمهور ، وسدِّ الثغور ، وتربية ولد نور الدين ، وكفِّ عادية المعتدين، فقال ابن حسان: إنَّك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك ، ونحن لا نطاوعك على ذلك. ودون ما ترومه خرط القتاد ، وإيتام الأولاد. فتبسم صلاح الدين ، وأومأ لرجالٍ بإقامته من بين يديه ، وتماسك بعد أن كاد يسطو عليه ، وقال له: والله ما جئت إلا لأستنقذ هذا الملك الصَّالح من يد أمثالك ، فأنتم سبب زوال دولته عليه.
لقد رفض كمشتكين الانقياد لصلاح الدين ، وبذل ما في وسعه للتصدِّي له ، ومن العمليات الذكيَّة التي استخدمها كمشتكين ضدَّ صلاح الدين:
ـ لعب على الخلاف الطائفي ، وفاوض الفريق الشيعي في البلد ، وتملَّقهم ، فاشترطوا عليه أموراً تّم ذكرها ممَّا كان نور الدين قد منعه من قبل ، فسمح لهم بكلِّ ذلك؛ ليدافعوا عنه.
لعب بعواطف الجمهور ، فجمع الناس وكان فيهم الشيعة بالطَّبع ، وأخرج إليهم الملك الصَّالح الصبي ، فخطب فيهم بما وضعه كمشتكين على لسانه: يا أهل حلب أنا ربيبكم ، ونزيلكم ، واللاجئ إليكم ، كبيركم عندي بمنزلة الأب ، وشابُّكم عندي بمنزلة الأخ ، وصغيركم عندي يحلُّ محلَّ الولد... ثم خنقته العبرة ، وعلا نشيجه ، فافتتن الناس ، وصاحوا صيحةً واحدةً ، ورموا بعمائمهم ، وضجُّوا بالبكاء ، والعويل؛ وقالوا: نحن عبيدك ، وعبيد أبيك,  نقاتل بين يديك ، ونبذل أموالنا ، وأنفسنا لك ، وأقبلوا على الدُّعاء له ، والترحُّم على أبيه.
ولم يستطع الحلف الحلبي ، والموصلي ، والإسماعيلي ، والفرنجي التصدِّي لمشروع صلاح لدين التوحيدي ، ولم يحلَّ شهر نيسان حتى أضحى صلاح الدين يبسط سلطانه على كامل بلاد الشَّام حتى حماة شمالاً ، فانصرف بعد ذلك على العمل على إضفاء الشَّرعية على وضعه أمام المسلمين ، وقد بينَّا خطابه إلى الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، ورسالته الطويلة بقلم القاضي الفاضل ، والتي عدَّد فيها فتوحاته ، وجهاده ضدَّ الصليبيين لخدمة الخلافة العباسية ، وبخاصة إعادته الخطبة إلى العباسيين في مصر ، وتأمين الطريق إلى الحجاز ، واليمن ، ثم أشار في رسالته ، بأنَّه قدم إلى بلاد الشام لإصلاح الأمور ، وحفظ الثغور ، وخدمة ابن نور الدين محمود ، وطلب في ختامها تقليداً بمصر ، واليمن ، والمغرب ، وبلاد الشام ، وجميع ما اشتملت عليه دولة نور الدين محمود ، وكلِّ ما يفتحه بسيفه.
مراجع البحث:
-علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، مؤسسة اقرا للتوزيع والترجمة، القاهرة، 2007، ص 335- 349
-محمد سهيل طقوش، تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، دار النفائس ، الطبعة الأولى ، لبنان 1400 هـ  1999 م، ص 57
-ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب ، دار الافاق الجديدة. (4/243).


 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022