في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
أهم إصلاحات صلاح الدين البحرية:
الحلقة: الخامسة و الستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ يوليو 2020
من أجل إحياء البحرية في مصر قام صلاح الدين بجملةٍ من الإصلاحات ، وهي:
أ ـ جعل غابات مصر ملكاً للدَّولة: ولا سيما غابات مناطق «بهنسا ، وسفط ، وأشمونين ، وأسيوط ، وأخميم ، وقوص» وكانت قيمة العود الواحد تبلغ مئة دينار حسب قول المقريزي ، ولم يسمح بموجب هذا القرار لأحد بالتصرُّف بالأشجار ، وذلك للانتفاع بأخشابها ، وقد ظلَّ هذا المبدأ معمولاً به إلى أواخر الدولة الأيوبية في مصر ، على الرغم مما أصاب الأسطول من إهمال. وبهذا الصَّدد ذكر عثمان إبراهيم النابلسي المعاصر للدولة الأيوبية في مصر: أن الحراج ـ الغابات ـ حكمها حكم المعادن ، وهي لبيت مال المسلمين ، ما لأحد فيها ملك ، ولا اختصاص ، وصار مفعول هذا القانون يسري على المواد الضرورية التي تستوردها الدَّولة من الخارج أيضاً ، لاسيَّما الحديد ، والخشب الضروريان لقيام صناعة السُّفن ، فمما يذكر أنَّ: الدولة الأيوبية كانت لها صلاتٌ ، ومعاهدات تجارية مع جمهوريات المدن الإيطالية ، حصلت بموجبها على حاجتها من هاتين المادتين.
وممَّا يؤكد سريان القانون المذكور على هذه المواد ، ما يقوله المؤرخ النابلسي المصري المذكور في أنَّ كل خشبٍ ، وحديد ، ورصاص... وغير ذلك من الأصناف التي ترد إلى الديار المصرية عن طريق البحر إنما يبتاعه الديوان بكسبٍ يسير ، وذلك لصنع الشَّواني «سفن» وغيرها من المراكب ، والعمارات ، وخزائن السلاح وكان في الإسكندرية ديوان سمي بالمتجر السُّلطاني ، عمله شراء البضائع المستوردة؛ التي تحتاجها الدولة للأغراض العسكرية لاسيما في بناء السفن، وكان المشرفون على المتجر يشترون هذه البضائع بأموال الخمس التي تفرض على التجار وقد استفاد صلاح الدين في بناء أسطوله ـ إضافة إلى ما ذكرناه ـ من أخشاب الصنوبر ، والأرز؛ التي تنبت في غابات لبنان ، وكذلك من معدن الحديد الذي كان يستخرج من جبال لبنان بالقرب من بيروت. وإذا صحَّ هذا؛ فإنَّ ذلك حصل بعد أن أعادت تلك المناطق إلى المسلمين ، أي: بعد سنة 583هـ/1187م.
ب ـ أفرد صلاح الدين ديواناً خاصاً للأسطول: عرف بديوان الأسطول وخَصَّص للصَّرف عليه خراج الفيُّوم ، وأعمالها، وخراج البرَّين: الشرقي ، والغربي ، ويضم البرُّ الشرقي نواحي بهتين ، والأميرية ، والمنيا. والبر الغربي يضم ناحية سفط، ونهيا، ووسيم، والبساتين خارج القاهرة. وكذلك خصَّص حصيلة النطرون؛ التي بلغ مقدار ضمانها يومئذٍ ثمانية الاف دينار في السنة ، مضافاً إلى ذلك ما يحصل عليه من مال الزكاة في مصر ، والذي بلغ أكثر من خمسين ألف دينار ، إلى جانب أجرة المراكب الدِّيوانيَّة «الحكوميَّة».
ج ـ اهتمَّ صلاح الدين برفع المستوى المعاشي: لرجال البحرية ، والعاملين في صناعة السفن ، وملحقاتها لتحسين أوضاعهم ، وتشجيع الناس على الالتحاق بصفوف البحرية ، والعمل في الأسطول ، وتقرَّر أن يكون دينار الأسطول نصف ، وربع الدينار (3/4الدينار) بعد أن كان نصف ، وثمن الدينار (5/8) أي بزيادة (517%) من قيمة الدينار السَّابق.
د ـ عين صلاح الدين شخصيات عسكرية هامَّة على رأس الأسطول: فعلى الرغم من أنَّ المصادر لا تشير إلى أسماء الذين عملوا في إدارة شؤون البحرية الأيوبية في السَّنوات الأولى من تاريخ الدولة الأيوبية سوى اسم القائد البارز حسام الدين لؤلؤ الذي اشتهر في حادث الردِّ على عدوان أرناط؛ الذي تحدثنا عنه ، وكذلك أسماء قادة السفن من أمثال: يعقوب الحلبي، وجمال الدين محمد بن أرككز، وبدران الفارسي ، ومحمد بن إسحاق ، وعبد السلام المغربي ، وغيرهم؛ إلا أنَّ تعيين أخيه الملك العادل مسؤولاً عاماً لمؤسسة البحرية في السنوات المتأخرة ليدلُّ دلالة قاطعةً على مدى اهتمام صلاح الدين بديوان الأسطول، وحين تسلَّم الملك العادل عمله أقام في مباشرته، وعمالته صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر. أي: أن العادل عيَّن صفي الدين ليكون نائبه في الإشراف على إدارة الأسطول، وقد منح صلاح الدين صاحب الأسطول صلاحياتٍ واسعةً لتنفيذ المهمات الخاصة بالبحرية ، فبعد أن أتمَّ صلاح الدين إعداد الأسطول سنة 572هـ/1176م كتب إلى سائر البلاد يقول: القول قول صاحب الأسطول ، وألا يمنع من أخذه رجاله ، وما يحتاج إليه ، وأمر صاحب الأسطول ألا يبارح البحر.
هـ ـ اهتمَّ صلاح الدين كثيراً بتحصين ثغور مصر: وقرَّر القيام بعمليات واسعة في أوقات مختلفة لتعمير أبراجها، وأسوارها ، وحفر الخنادق حولها ، وخصَّص لهذه المهمة مبالغ طائلةً ، وعيَّن عليها رجالاً أكفاء لتنفيذها ، مثل: بهاء الدين قراقوش؛ الذي أوكلت إليه مهمَّة تجديد ، وبناء الكثير من المباني العسكرية ، وغيرها وكان صلاح الدين يقوم بزيارات تفقُّدية للإشراف على عمليات التحصين ، والبناء الجارية في الثُّغور المطلَّة على البحر المتوسط لاسيما الإسكندرية ، ودمياط ، وكذلك تنيس ، فإثر عودته من رحلته الأولى إلى بلاد الشام خرج في شعبان 572هـ/1176م ولداه: الملك الأفضل علي ، والملك العزيز عثمان؛ ومعهم العماد الكاتب المؤرِّخ المعروف ، وجعل طريقه على دمياط ، ورأى في الحضور بالثغر ، ومشاهداته الاحتياط.
وفي سنة 577هـ/1181م رتَّب صلاح الدين المقاتلة على البرجين الواقعين على طرفي المدينة من جانب البحر ، وأمر بشدِّ المراكب إلى السلسلة؛ ليقاتل عليها المدافعون عنها إذا استطاع العدوُّ من الدخول بين البرجين ، وكذلك أمر في نفس السنة بترميم سور دمياط ، وسدِّ الثلمات فيه ، وفي وقت لاحقٍ أمر صلاح الدين بحفر خندق دمياط، وعمل جسر عند سلسلة البرج بها ، ثم غادر دمياط إلى ثغر الإسكندرية «وشاهدنا ـ كما يقول المؤرخ ـ ما استجدَّه السلطان من السور الدائر ، وما أبقاه من حسن الاثار ، والماثر ، وما انصرف حتى أمر بإتمام الثغور ، وتعمير الأسطول». وكانت هذه هي الزيارة التفقدية الثانية التي قام بها إلى الإسكندرية ، وقام بزيارة ثالثة وأخيرة للإسكندرية في سنة 577هـ/1181م لمشاهدة الأسوار التي جدَّدها ، والعمارات التي مهَّدها ، وأمر بالإتمام ، والاهتمام. ومن التحصينات التي اتَّخذها صلاح الدين في الإسكندرية خلال هذه الزيارة: أنَّه أمر فخر الدين قراجا بكسر أربعمئة عمود روماني كانت تحيط بعمود السَّواري ، وإلقائها عند شاطىء البحر لمنع مراكب العدو من الوصول إلى مرساها ، أو لكسر حدَّة الأمواج على سور الإسكندرية.
و ـ قام صلاح الدين بتشجيع الناس على الالتحاق بصفوف البحرية: واستقدام العناصر الكفؤ من خارج مصر ، وقد نجحت محاولته بسبب المغربات التي صار ديوان البحرية يوفِّرها لهم ، أو ببثِّ روح الجهاد في نفوس المسلمين ، وحثهم على التطوُّع ، والعمل في الأسطول ، حتى صار «خدَّام الأسطول يقال لهم: المجاهدون في سبيل الله ، والغزاة في أعداء الله ، ويتبرك بدعائهم الناس. وقد ضرب صلاح الدين نفسه مثلاً رائعاً في الجهاد ،وفقد ذكر مؤرِّخه ابن شدَّاد الذي شاهد الكثير من أهوال البحر: أن صلاح الدين التفت إليه ذات يوم في نهاية حوارٍ دار بينهما ، وقال له: في نفسي أنَّه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية السَّاحل؛ قسمت البلاد ، وأوصيت ، وودعت ، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم ، أَتَتبَّعُهم فيها حتى لا أبقى على وجه الأرض مَنْ يكفر بالله ، أو أموت
دور المغاربة في الأسطول الصَّلاحي:
كان المغاربة أكثر مَنْ لبَّى نداء صلاح الدين للعمل في مجال البحرية ، وهم الذين عوَّل عليهم في إعداد الأسطول المصري ، حتى أصبح ذلك وقفاً عليهم ـ على حدِّ قول المقريزي ـ لمعرفتهم الجيدة بشؤون البحر ، ومعروف: أن شهرة المغاربة في المشرق قد ذاعت بصفة خاصَّةٍ في الجهاد البحري ، لمهارتهم في قيادة السفن ، والملاحة ، وفي فنون القتال البحري ، ولهذا عرفوا بفرسان البحر منذ وقتٍ مبكِّر ، واستعان بهم الفاطميُّون، والأيوبيُّون ، والمماليك ، والعثمانيُّون في إدارة أساطيلهم البحرية ، فالرَّحالة ابن جبير ينصُّ على أن الحملات البحرية التي قادها حسام الدين لؤلؤ ضدَّ الصليبيين في البحر الأحمر على عهد صلاح الدين كانت تضمُّ عدداً كبيراً من إنجاد المغاربة البحريين .
ولعل أكبر دليل على اختصاص المغاربة بالأساطيل البحرية في ذلك الوقت هو ما ترويه المصادر؛ من أنَّ صلاح الدين أرسل سفيره عبد الرحمن بن منقذ إلى عاهل المغرب يعقوب المنصور الموحدي ، يطلب منه مساعدة بحرية لمنازلة ثغور الصَّليبيين بالشام. وعلى الرغم ممَّا قيل من أن المنصور رفض طلب صلاح الدِّين؛ لأنَّه لم يلقبه في رسالته بأمير المؤمنين، أي: لم يعترف بخلافة الموحدين ، فقد ذهب المؤرِّخ المغربي السَّلاوي الناصري إلى انَّ المنصور أرسل إلى صلاح الدين مئة وثمانين سفينة حربيَّة لمنع سفن الصليبيين من سواحل الشام وكانت مشاركة المغاربة في جهاد الصليبيين في مصر ، أو الشام في المجالين البري ، والبحري. ونجد في هذا الصدد مادةً خصبةً في كتب التراجم ، والرِّحلات التي تصف أعمالهم ، وبطولاتهم ، وتذكر أسماء من استشهد منهم ، ودفن هناك في فلسطين.
وحسبنا أن نشير بصفة خاصَّةٍ إلى الرَّحالة الأندلسي ابن جبير الذي زار مصر ، والشام ، فإنَّ هذا الرَّحالة المغربي أعطانا معلوماتٍ قيمةً عن نشاط المجاهدين المغاربة في الحروب الصليبية ، فيشير مثلاً إلى الضريبة الإضافية التي فرضها الصليبيون في الشام على التُّجار المغاربة فقط دون سائر تجار المسلمين والسبب في ذلك يرجع إلى أن طائفةً من إنجاد المغاربة حاربوا مع السُّلطان نور الدين محمود زنكي ، واستولوا على أحد الحصون الصليبية بعد أن أبدوا شجاعةً نادرةً كانت مضرب للأمثال ، فجازاهم الإفرنج على ذلك بأن فرضوا على كلِّ تاجرٍ مغربيٍّ يمرُّ بمستعمراتهم في الشَّام ديناراً إضافياً عن سائر تجار المسلمين ، كعقابٍ لهم على شجاعتهم.
وكذلك يشير ابن جبير إلى اهتمام ملوك المسلمين ، وأهل اليسار ، والخواتين من النساء في الشرق بفداء الأسرى من المغاربة لبعدهم عن بلادهم. هذا إلى جانب الأوقاف الكثيرة التي خُصِّصت للمقيمين من المغاربة في الشام. ودور المغاربة الجهادي مشرفٌ ، فقد كانوا دائماً متواصلين مع إخوانهم في المشرق في السَّراء والضَّراء ، وفي ميادين العلم ، وفي ساحات الجهاد ، وقد قدموا خبراتهم القتالية لإخوانهم المشارقة في عهد الزنكيين ، والأيوبيين ، ولم يبخلوا بقدراتهم العسكرية على الأيوبيين ، بل وظَّفوها من أجل التصدِّي للأساطيل الصليبية.
وهذا يبين لنا: أنَّ الشعوب الإسلامية دائماً تتفاعل مع بعضها ، وتنضوي تحت راية الإسلام الجهادية عندما تتعرَّض الأمة للخطر. ومن الدروس المهمة: أنَّ المسلمين تغلَّبوا بعقيدتهم، ودينهم على دعاوى الوطنية الضيقة ، والقوميات ، فنور الدين تركي ، وصلاح الدين كردي ، ويوسف بن تاشفين بربري ، والخليفة العباسي عربي ، وكلُّهم كانوا في جبهةٍ واحدةٍ تحت راية أهل السُّنَّة والجماعة.
ويعتبر حماية الأماكن المقدَّسة من الاعتداءات الصليبية أهمَّ ما قام به الأيوبيُّون خلال حكمهم. ونستطيع أن نقول بأنَّ صلاح الدين استطاع تكوين جيش بري ، وأسطول بحري مزوَّد بكلِّ متطلَّبات القتال من سلاح ، وعتادٍ ، ومؤن بفضل تلك السياسة الحكيمة التي اتبعها لتنظيم جيشه ، والتي قامت على بعث روح الجهاد الإسلامي في نفوسهم ، وتطبيق نظام الإقطاع الحربي في دولته ، ذلك النظام الذي تمكَّن بواسطته من ضمان الحصول على جيشٍ منظَّم مزوَّد بكلِّ مستلزمات القتال ، وقد ساهم هذا الجيش في تحقيق توحيد الجبهة الإسلاميَّة تمهيداً لبدء مشروع الجهاد الإسلامي لتصفية الوجود الصليبي من بلاد الشام ، ولم يعد أمام صلاح الدين أيَّة مشكلات تعيقه عن التفرغ لجهاد الصليبيين ، واسترداد بيت المقدس إلا توحيد الجبهة الدَّاخلية ، وهذا ما سنعرفه في المبحث القادم بإذن الله.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: