الإثنين

1446-12-20

|

2025-6-16

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
مقدِّمات معركة حطين:
الحلقة: الثامنة والسبعون    
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020


1 ـ وفاة بلدوين الخامس وتأثيرها على أوضاع الصَّليبيين: توفي الملك بلدوين الخامس في شهر جمادى الاخرة عام 582 هـ/شهر اب عام 1186 م بعد شهور من توليته ، فبرزت من جديد مشاكل الصَّليبيين الدَّاخلية؛ إذ كانت وفاته إيذاناً بصراع حادٍّ بين الأمراء حول الفوز بعرش المملكة ، وقد بدأت أولى حلقات الصراع بين ريموند الثالث ، وجوسلين دي كورتناي اللذين كانا على مقربة من الملك عند وفاته في عكَّا ، وظلَّ المعارضون لوصاية ريموند الثَّالث في حبك المؤامرات؛ حتى نجحوا أخيراً في سحب الوصاية منه ، وتحويل المُلك من الطفل إلى أمِّه سيبيلا ، وأوكلوا إليها اختيار الملك الجديد؛ لأنَّها لا تستطيع أن تحكم كامرأةٍ ، وسلَّمت سيبيلا تاج الملك إلى زوجها جاي لوزينان وفق ما أراده المعارضون لريموند الثَّالث.
2 ـ استفادة صلاح الدين من الظروف التي تمرُّ بها مملكة بيت المَقْدِس: في الوقت الذي كان صلاح الدين يعمل جاهداً لتكوين قوَّة عسكريةٍ مزوَّدةٍ بالمؤن ، والعتاد، واستعداداً لخوض معركة فاصلة ضدَّ الصليبيين؛ كان يتجنب الاشتباك مع الصليبيين في أكثر من جبهةٍ واحدةٍ ، ولا يمكِّن عدوَّه من تعبئة قواه ، وتوحيد صفوفه رداً على تعبئة القوَّات الإسلامية ، فأرسل في سنة 583 هـ/1187 م إلى أهل حلب يأمرهم بمصالحة بوهيمند الثالث أمير أنطاكية ليتفرَّغ لجهاد الصليبيين من جانب واحد ، كما عمد صلاح الدين الذي عرف بمهارته العسكرية أيضاً إلى استغلال تلك الظروف العصيبة؛ التي كانت تمرُّ بها مملكة بيت المقدس عقب تتويج جاي لوزجنان؛ الذي تنازلت له زوجه عن الحكم ، وأصبح ملكاً لبيت المقدس بعد أن خلعت التاج عن رأسها ، ووضعته على رأسه قائلةً: زوجي أقدر ، وهو أحقُّ بالملك ، وأجدر.
وفشل القومص ريموند الصنجلي أمير طرابلس في الفوز بذلك المنصب عندما رفض فرسان الداوية استقلاله بالحكم ، وطالبوه بالعمل بالوصية؛ التي كانت تقضي له بحقِّ الوصاية فقط ، الأمر الذي جعله يلقي بنفسه بين أحضان صلاح الدين طالباً منه مساعدته ضدَّ ملك بيت المقدس ، والداوية ، وأجاب صلاح الدين نداءه ، وأمدَّه بالمعونه اللاَّزمة ، وبذلك استطاع أن يضم إليه حليفاً جديداً من الصَّليبيين ، مكوِّناً بذلك ثغرةً كبيرةً في صفوف الصَّليبيين.
وبالفعل أوشك الصدام المسلح أن يحتدم بين الملك جاي وبين ريموند؛ حيث عسكر ريموند في طبرية ، وأقام هناك في زي المتطاول المتفاخر بعد أن ضمَّ حوله عدداً كبيراً من الصليبيين ، وحثَّ العزم السُّلطاني على قصدهم ليردَّ إليه الملك. كما قام ملك بيت المقدس أيضاً بحشد جيشٍ عظيمٍ لمهاجمة طبرية لولا تدخل بعض الأمراء لتهدئة الموقف ، ومطالبة الطرفين بالاتحاد لمواجهة ذلك الاستعداد الهائل الَّذي أعدَّه صلاح الدين لهم ، الأمر الذي اضطرَّ الملك لوزجنان إلى المسير بنفسه إلى القومص ريموند الصنجلي ، لاسترضائه ، ومصالحته.
وعلى الرغم من ذلك فإنه يمكن القول بأنَّ صلاح الدين قد جنى من جراء تدخُّله في شؤون الصَّليبيين بمساعدة أحدهما على الاخر ثماراً ، أهمُّها ذلك الاختلاف الكبير في وجهات النظر بين ريموند الصنجلي ، وبعض الأمراء الصليبيين ، وفي مقدِّمتهم أرناط صاحب حصن الكرك ، ولعلَّ هـذا هو السبب الذي جعل المؤرخ ابن الأثير يصف هـذا التَّحالف بين صلاح الدين ، وريموند الصنجلي رغم قصر مدَّته بأنه: من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم ، واستنقاذ البيت المقدَّس منهم ، وهكـذا عقد صلاح الدين مع بوهيموند الثالث أمير أنطاكية ، هدنةً منفصلةً معه إما بناء على طلب منه ، وأما بدعوة من صلاح الدين؛ ليطمئنَّ على خطوطه الخلفية ، ويتفرَّغ للقتال في الجنوب ، ووسع ريموند الثالث مدى اتفاقيته مع صلاح الدين مضيفاً إليها حماية منطقة الجليل ، وبذلك يكون قد فتح الطريق لصلاح الدين للولوج بين الأردن ، وفلسطين.
3 ـ رينولد شاتيون ينقُض مجدداً الهدنة مع المسلمين: أثار تحالف صلاح الدين مع ريموند الثالث غضب رينولد شاتيون؛ الذي كان في هدنةٍ مع صلاح الدِّين ، واشتهر بالتفكير المنفرد ، وبفضل ما تنطوي عليه الهدنة من بذل الحماية صارت القوافل التجارية تتردَّد بين مصر ، وبلاد الشام ، مجتازةً الأراضي الصَّليبية بأمان ، ولا شكَّ بأنَّ ذلك عاد بالفائدة على رينولد شاتيون نفسه ، نظراً لما يفرضه من ضرائب ، ومكوس عليها، كما يبدو: أنَّه لا يستطيع الحياة دون أن ينهب ، ويسرق ، فقام بنقض هدنته مع صلاح الدين عام 582 هـ/أواخر عام 1186 م حين أوقف قافلةً تجاريةً كبيرةً مارَّةً بأرض الكرك في طريقها من مصر إلى بلاد الشام ، واستولى عليها ، فقتل حرَّاسها، وأسر بعض الجند ، كما قبض على مَنْ في القافلة من تجَّار ، وعائلات ، وحملهم إلى حصن الكرك.
لم تلبث أنباء الاعتداء أن وصلت إلى مسامع صلاح الدين ، ولحرصه على احترام المعاهدة أرسل إلى رينولد شاتيون ينكر عليه هـذا العمل ، ويتهدَّده إن لم يُطلق سراح الأسرى ، ويعيد الأموال ، غير أنَّ صاحب الكرك رفض استقبال رسله ، وعندما وجد صلاح الدِّين إعراضاً من جانب رينولد؛ أرسل إلى الملك جاي لوزينان شاكياً ، ومطالباً بالنصح لرينولد بإعادة الأسرى ، والأموال. لبَّى جاي دعوى صلاح الدِّين ، لكنَّه أخفق في الضغط على رينولد ، وكان لهـذا الأسلوب الذي استخدمه صلاح الدين في موضوع الأسرى؛ الذين وقعوا بيد أرناط صاحب حصن الكرك ، ومطالبته إيَّاه بإطلاق سراحهم ، وردِّ أموالهم دون استخدام القوَّة كان له الأثر الأكبر في إدخال الخلاف ، وعدم الثِّقة بين ملك بيت المقدس ، وأرناط الذي لم يستجب لرجائه باحترام الهدنة المعقودة مع صلاح الدين ، وأصبح الملك الصَّليبي يتشكَّك في نوايا أرناط ، وطمعه في الانفراد بحكم تلك المنطقة ، وإنَّ كلاً منهما بات حذراً من الاخر.
كانت هـذه التحالفات ، ونقضها نقطة الانطلاق الأولى لمعركة حطِّين ، ذلك: أنَّ تحالف صلاح الدين مع ريموند الثالث أتاح له مجالاً للتدخل في السياسة الداخلية للصَّليبيين ، وإنَّ تجديد تحالفه مع كلٍّ من ريموند الثالث ، وبوهيموند الثالث حرما مملكة بيت المقدس من مساعدة أقوى إمارتين صليبيتين في الشام ، وهما إمارة طرابلس ، وإمارة أنطاكية ، وهكـذا نجح صلاح الدين في شقِّ الصفِّ الصَّليبي ، وفي المقابل فإنَّه نجح في توحيد الصفِّ الإسلامي، فأعدَّ الجيوش الإسلامية في مصر ، والجزيرة ، والموصل ، والشام ، معنوياً ، وعسكرياً للمعركة؛ التي أرادها فاصلةً.
وعندما اكتملت استعدادات التجهيز ، خرج صلاح الدين من دمشق في شهر محرم 583هـ/شهر اذر 1187م على رأس جيشٍ كبيرٍ متجهاً نحو الجنوب، فوصل إلى رأس الماء إلى الشَّمال الغربي من حوران ، ثم اتَّجه إلى بصرى؛ ليستقبل قافلة الحجَّاج التي كان من عدادها أخته، وابنها، ويضمن في الوقت نفسه عدم تعرض رينولد لهم؛ لأن التقارير التي وصلت إليه، أشارت إلى تربُّص حاكم الكرك بالحجَّاج، وبعد أن اطمأنَّ إلى وصول القافلة، وسلامتها؛ شرع في مهاجمة الكرك، ولمَّا علم رينولد شاتيون (أرناط) بوجوده في المنطقة؛ تراجع إلى حصنه، وكان صلاح الدين قد ترك ابنه الأفضل نور الدين عليَّاً في رأس الماء ينتظر وصول العساكر التي استدعاها للجهاد، وكانت حركة صلاح الدِّين باتجاه الكرك تحقق هدفين:
الأول:التمويه على هدفه الحقيقي ، وهو مهاجمة مملكة بيت المقدس.
الثاني:إخافة رينولد شاتيون (أرناط) ومنعه من الذهاب إلى مملكة بيت المقدس.
سَرَّح صلاح الدين عساكره في المنطقة ، فراحوا يعيثون فيها ، ثمَّ قصد الشُّويك ، وفعل فيها مثلما فعل بالكرك ، وظلَّ في الأردن شهر صفر ، وربيع الأول 583 هـ/شهر نيسان وأيار 1187 م تغطيةً للحشود التي كانت تتجمَّع حول ابنه الأفضل في رأس الماء.
4 ـ وقعة صفورية: في الوقت الذي كان صلاح الدين فيه معسكراً بالقرب من حصن الكرك ، والشوبك لحماية الحاجِّ من اعتداءات الصَّليبيين؛ عمد إلى إرسال قَّوةٍ استطلاعيةٍ ، انتخب أفرادها انتخاباً ، وأسند قيادتها إلى مظفر الدين كوكبوري صاحب حرَّان ، وبدر الدِّين دلدرم بن ياروق أمير عسكر حلب، وصارم الدين قايماز النجمي أمير عسكر دمشق؛ لتقوم بالإغارة على ممتلكات العدوِّ ، لإضعاف معسكراته ، وكشف مخطَّطاته ، فسارت هـذه السرية المدجَّجة بالسِّلاح ، والعتاد ، باتجاه صفورية. وقد حرص قوَّادها على أن يكون مسيرها على قدر كبير من السرية ، والخفاء ، فكان سيرهم إليها في الجزء الأخير من الليل ، على أن يكون هجومهم عليها في الصَّباح الباكر ، وبالفعل فقد نُفِّذت تلك الخطة بدقَّة تامَّةٍ وصبحوا صفورية ، وساء صباح المنذرين.
وأما الصَّليبيون الذين كانوا ينعمون بنومٍ هادأى في ذلك الوقت؛ فإنهم قد استيقظوا على أصوات السيوف ، والرِّماح ، وأسرعوا إلى لمِّ شعثهم ، وتجميع قواهم لمواجهة ذلك الهجوم الإسلامي المفاجأى ، والتقى الجمعان ، ودارت بينهما معركةٌ رهيبةٌ ، انتهت بانتصارٍ إسلاميٍّ مظفَّر ، وسقط معظم الصَّليبيين بين قتلى ، وأسرى ، وكان من جملة القتلى، مقدَّم الاسبتارية ، وعدد كبير من أبرز فرسانهم ، ونجام قدَّم الداوية بصعوبةٍ بالغةٍ.
وممَّا زاد الطِّين بلَّة: أنَّه عندما تجرَّأت قوةٌ صليبيةٌ أخرى على الإسراع إلى صفورية لنجدة إخوانهم؛ كانت المعركة قد انتهت ، فأسر المسلمون تلك النَّجدة عن اخرها ، وعاد المسلمون من هـذه المعركة سالمين غانمين. وكان انتصارهم في هـذه المعركة باكورة البركات ، ومقدِّمةً لما بعدها من ميامين الحركات.
وهكـذا كبَّد المسلمون الصليبيين خسائر فادحة في الأرواح ، والعتاد ، وألقت هـذه المعركة الرُّعب في قلوب الصَّليبيين ، وجعلتهم يُدْرِكون خطورة ذلك التَّجمُّع الإسلامي الرَّهيب؛ الذي أعدَّه صلاح الدين لجهادهم.
5 ـ الاستعدادات التي سبقت معركة حطِّين: استبشر صلاح الدين ـ الذي كان انذاك يعسكر بالقرب من حصن الكرك ـ بذلك النَّصر الذي حقَّقته تلك السَّريَّة الإسلامية في معركة صفورية ، فترك الكرك ، والشُّوبك ، وسار مسرعاً على رأس جيشه في اتجاه العدو ، وعكسر في عشترا ، واجتمعت حوله العساكر الإسلامية بإعدادٍ هائلة حتى «غطَّى بها الفضاء» على حدِّ قول ابن واصل وفي عشترا قام بعرض عسكره ، فكان في أثني عشر ألف مقاتل. ثمَّ رتب جيشه طبقاً لنظام المعركة المعتاد ، فجعل ابن أخيه تقي الدين عمر في الميمنة ، ومظفر الدين كوكبوري في الميسرة ، وكان هو في القلب ، وبقيَّة الجيش فرَّقه على الجناحين استعداداً للحرب.
أ ـ استعدادات الصليبيين: وردَّاً على ذلك التجمُّع الإسلامي العظيم فإنَّ الصليبيين لمَّا سمعوا باجتماع كلمة الإسلام عليهم ، ومسير ذلك الجيش الإسلامي إليهم؛ علموا أنَّه قد جاءهم ما لا عهد لهم بمثله ، وأنَّ كيانهم زائلٌ لا محالة ، فاجتمعوا ، واصطلحوا ، وحشدوا ، وجمعوا ، وانتحوا. فصالح القومص الملك جاي بعد أن دخل عليه ، ورمى بنفسه عليه. ومن ثمَّ أصدر الملك جاي الأمر بالتعبئة العامة ، ومعنى ذلك: أنه لا بدَّ أن يتقدَّم لحمل السلاح كل الرجال القادرين ، ولا يلجأ الملك إلى ذلك إلا عند الضرورة القصوى. وحشد الصَّليبيون حشوداً كبيرة ، ورفعوا صليب الصلبوت، لتجتمع الناس حوله ، وقد اكتملت عدَّة ذلك الجيش بعد أن تمَّ توزيع الأموال التي بعثها ملك انجلترا هنري إلى الملك جاي ، والتي أمر بإنفاقها على الرِّجال. وأما بالنسبة لتقدير عدد الجيش الصليبي؛ الذي ظلَّ معسكراً في صفورية بعد هزيمته من تلك السرية الإسلامية؛ فإن المؤرخين المعاصرين ذكروا: أنَّ عدده بلغ زهاء خمسين ألفا ، أو يزيدون ، وبعضهم رجَّح: أنه يبلغ عشرين ألفاً.
ب ـ اختيار صلاح الدين لخطَّة المعركة الفاصلة: لمَّا علم صلاح الدين باجتماع الصليبيين في صفورية عقب هزيمتهم من السَّرية الإسلامية في هـذا المكان؛ استشار قواده فيما يفعل ، فأشار أكثرهم بترك اللقاء ، واتباع الطَّريقة السابقة من إغارات متكرِّرة ، وتكبيد العدو خسائر حتى تضعف مقاومته ، ثم إنزال الضربة القاضية بالصَّليبيين ، وأشار الفريق الاخر بالتوغُّل في بلاد الصَّليبيين ، والاشتباك معم في معركةٍ فاصلة.
وهنا تبدو لنا حنكةُ صلاح الدين العسكرية؛ إذ اختار الخطة الثانية القائمة على الاشتباك مع العدوِّ في معركةٍ فاصلة؛ إذ يظهر: أنَّ صلاح الدين أدرك أنَّ معظم القوات؛ التي تجمَّعت عنده في ذلك الوقت جاءت من أماكن بعيدة من مصر ، ودمشق ، وحلب ، والجزيرة ، والموصل ، وديار بكر ، وغيرها ، وأنَّ هـذه العساكر القائمة على نظام الاقطاع الحربي ـ كما سبق أن رأينا ـ لها التزامات في إقطاعاتها الأمر الذي قد يدفعها بعض الأحيان إلى طلب الاستئذان منه ، والعودة لقضاء حوائجها. هـذا بالإضافة إلى أنَّ صلاح الدين ربما قصد باتِّباع تلك الخطة استغلال ذلك الانشقاق الذي حدث في صفوف الصليبيين نتيجة وفاة الملك بلدوين الخامس ، وتتويج الملك جاي لوزجنان ، والذي عدَّه أحد الباحثين سبباً حُرِمت من أجله مملكة بيت المقدس من معونة أقوى إمارتين صليبيتين بالشَّام ، هما: إمارة طرابلس، وإمارة أنطاكية.
وهكـذا أصبح الموقف بين صلاح الدين ، والصليبيين على أشدِّه ، وبات الطرفان كلٌّ منهما يتوق إلى الاشتباك مع الآخر في معركةٍ فاصلة ، وكان صلاح الدين يدرك أن تمركزهم في صفورية يعطيهم مكانةً عظيمةً في القتال ، وذلك أنَّ صفورية تعتبر في أحسن المواقع الملائمة لإقامة المعسكرات ، وذلك لما يتوافر فيها من المراعي ، والمياه ، وغيرها من الموارد الطبيعية اللازمة لذلك؛ لهـذا عمد إلى استدراج الصليبيين إلى المكان المناسب؛ الذي يستطيع فيه إنزال الهزيمة بهم. هـذا بالإضافة إلى أنَّه على الرغم من ذلك كان يريد أن يجبرهم على المسير إليه حتى يصلوا متعبين، ويكون هو مدَّخراً جهده ، وجهد رجاله. لذلك أخذ صلاح الدين يعدُّ عدَّته للقيام بعمل يستطيع اجتذاب الصَّليبيين من معسكرهم في صفورية ، والنزول إلى المكان الذي يختاره ، فأخذ كلَّ يوم يرسل جماعةً من رجاله ، لمباغتة الصليبيين ، والنكاية بهم ، محاولاً بذلك استدراجهم إليه ، غير أن تلك الغارات المتكرِّرة لم تؤثر على الصَّليبيين ، فلم يتركوا مركزهم في صفورية ، فرأى صلاح الدين الهجوم على طبرية ذاتها؛ لأنَّ الصليبيين متى رأوا هجومه ذلك؛ بادروا بالوصول إليه ، وبذلك يكون قد تحقَّق له ما قصد.
ج ـ توجُّه صلاح الدين إلى طبرية: أدرك صلاح الدين بهجومه على طبرية بأنَّه يمكنه إثارة ريموند أمير طرابلس المشهور بشدَّة الغيرة ، بالإضافة إلى أنَّ صلاح الدين كان يعلم: أن نزوله في ذلك الموضع يستطيع أن يوصد الطريق المؤدي إلى طبرية ، ويسيطرفي الوقت ذاته على الدروب التي تجتاز الحافة الشرقية إلى طبرية، وتنتهي إلى الماء. في حين يبقى الصَّليبيون عند خروجهم من صفورية ، وتقدُّمهم إليه في منطقةٍ وعرةٍ ، لا تتوفر فيها المياه.
وفي يوم الخميس 23 ربيع الأول سنة 583 هـ/2 يوليه 1187 م أصدر صلاح الدين أوامره إلى الجانب الرئيسي من جيشه بالتقدُّم إلى طبرية ، ومهاجمتها ، فلما جنَّه الليل؛ جعل في مقابل الفرنج من يمنعهم من القتال ، ونزل جريدة إلى طبرية ، وقاتلها ، ونقب بعض أبراجها ، وأخذ المدينة عنوة في ليلةٍ ، ملجأ من بها إلى القلعة ، وامتنعوا بها. وما كادت أخبار ذلك الهجوم تصل إلى أسماع الصَّليبيين؛ حتى جنَّ جنونهم ، ودعا الملك جاي إلى مجلس حرب فأشار بعضهم بالتقدُّم إلى المسلمين ، وقتالهم ، ومنعهم من التوغل في طبرية ، في حين أشار ريموند صاحب طرابلس على الملك بالبقاء في موضعه بصفورية ، قائلاً له: إنَّ طبرية لي ، ولزوجتي ، وقد فعل صلاح الدين بالمدينة ما فعل ، وبقي القلعة ، وفيها زوجتي ، وقد رضيت بأن يأخذ القلعة ، وزوجتي ، ومالنا بها ، فيعود ، فوالله لقد رأيت معسكر الإسلام قديماً ، وحديثاً ما رأيت مثل ذلك العسكر الذي مع صلاح الدين كثرةً ، وقوةً ، وإذا أخذ طبرية؛ لا يمكنه المقام بها إلا بجميع عساكره ، ولا يقدرون على الصَّبر طول الزَّمان عن أوطانهم ، فيضطر إلى تركها ، ونفتكُّ من أسر منا.
وهنا يبدو أنَّ سياسة صلاح الدين في إيقاع الخلاف في صفوف الصَّليبيين قد اتت أكلها ، حيث لقي رأي ريموند هـذا معارضةً شديدةً من كلٍّ من أرناط صاحب الكرك ، وجيرار مقدَّم الداوية اللذين اتهماه بالخيانة ، والإنحياز إلى المسلمين ، حيث ردَّ عليه أرناط قائلاً: قد أطلت في التخويف من المسلمين ، ولا شكَّ: أنَّك تريدهم ، وتميل إليهم. واستطاع أرناط ، وجيرار التأثير على الملك جاي؛ الذي أصدر أوامره إلى الجند بالمسير إلى طبرية ، وبدأ الجيش الصليبي زحفه من صفورية ، يتقدَّمه ريموند في ظروف سيئةٍ للغاية ، فروح الصليبيين المعنوية منحطةٌ ، وجزءٌ كبير منهم لم يكن من أنصار التقدُّم نحو طبرية ، فساروا مكرهين.
هـذا بالإضافة إلى ما تعرَّض له ذلك الجيش الصليبي في طريقه من متاعب ، وخسائر بسبب الكمائن التي نصبها صلاح الدين لهم أثناء سيرهم ، فضلاً عن حرارة الجو ، ووعورة الطريق ، وانعدام الماء ، وإزاء هـذه الظروف القاسية حلَّ بالجيش الصَّليبي أثناء سيره من صفورية إلى طبرية انفصالٌ كبيرٌ ، حيث لم تستطع مؤخرته مجاراة سير بقية الجيش، والاتصال بالملك في الوسط ، الأمر الذي اضطر الملك جاي إلى إقامة معسكره قبل الوصول إلى طبرية ، وعلى الرَّغم من تلك المحاولة التي قام بها ريموند أمير طرابلس؛ الذي كان في المقدِّمة لحثِّ الصليبيين على التقدُّم للوصول إلى المياه. ممَّا أدى إلى تذمُّر ريموند من ذلك التصرف ، وإدراكه بأنَّ الهزيمة حاصلةٌ لا محالة. والواقع: أنَّ هـذه الأوامر اتَّصفت بالتهوُّر ، ودلَّت على انعدام التفكير العسكري السليم لدى القادة الصَّليبيين؛ الذين غلبت عليهم العاطفة الدينية المتزمتة؛ لأنها أوقعت الملك ، والمملكة ، والجيش الصليبي في فخِّ صلاح الدين؛ الذي علَّق عندما علم بتحركهم بقوله: قد حصل المطلوب، وكمل المخطوب ، وجاءنا ما نريد ، ولنا بحمد الله الجد الجديد ، والحد الحديد ، والبأس الشديد، والنصر العتيد ، وإذا صحَّت كسرتهم ، وقُتِلتْ ، وأُسِرت أسرتهم؛ فطبرية ، وجميع الساحل ما دونها مانعٌ ، ولا عن فتحها وازعٌ. ورتب صلاح الدين رجاله في تلك الليلة ، وسار هو على رأس جيشه لملاقاة الصَّليبيين على سطنح جبل طبرية المشرف على سهل حطِّين ، وهي منطقة على هيئة هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من ثلثمئة متر ، ولها قمَّتان مما جعل العرب يطلقون عليه اسم قرون حطين. وبوصول الصَّليبيين إلى تلك الهضبة؛ كانوا قد بلغوا حالةً سيئةً من الإنهاك ، والتعب ، واشتدَّ بهم العطش بعد أن حال جيش صلاح الدين بينهم ، وبين الوصول إلى الماء ، والتقى الجمعان على سهل جبل طبرية الغربي منها ، وحال اللَّيل دون تصادمهما ذلك اليوم.
وفي صباح الجمعة 24 ربيع الاخرة 583 هـ/1187 م. تحرَّك الجيشان ، وتصادما بأرض تسمى اللُّوبيا ، واستمرَّ القتال إلى أن حجز الظلام بينهما ، وبات كلُّ فريقٍ في سلاحه. والواقع أنَّ جيش صلاح الدين قضى تلك الَّليلتين ينعم بكافـة الوسائل التي تعينه على القتال ، فقد كان يعسكر في منطقةٍ سهلةٍ غنيةٍ بالمراعي ، والمياه. أما الجيش الصليبي ، فقد ازداد بلا شك خلال تلك المدَّة شقاءً ، وإنهاكاً ، بسبب إقامة معسكره على منطقةٍ وعرةٍ جداً عديمة المياه ، وفي جوٍّ شديد الحرارة. ويبدو: أنَّ صلاح الدين ، قد استغل توقُّف القتال تلك الليلة؛ ليكمل استعداداته لمهاجمة العدو؛ الذي لجأ إلى سفح جبل حطِّين ، ليعصمهم من المهالك ، ومن ثمَّ المبيت في جوٍّ معتدلٍ يخفِّف عنهم شدَّة الحرارة ، والعطش ، وعلى الرَّغم من أوامر الملك جاي التي كانت تقضي بأن يندفعوا إلى أسفل التلِّ؛ ليؤدُّوا واجبهم نحو الصَّليب ، والعرض ، إلا أنَّهم اعتذروا بشدَّة العطش ، وأنهم لا يستطيعون الحرب ، فاستغلَّ صلاح الدين ذلك ، ورتَّب جيشه ، ورسم له الخطط ، وأحاط بهم إحاطة الدَّائرة بقطرها ، كما يقول ابن الأثير.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022