في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
من أحداث معركة حطين:
الحلقة: التاسعة والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020
اكتشف الصَّليبيون في صباح يوم السبت 24 ربيع الاخر/583 هـ/بأنَّهم محاصرون بعيداً عن المياه ، فنزلوا مسرعين إلى قرون حطين ، وهناك دارت معركة رهيبة ، فقد تقدَّم الجيش الإسلامي؛ الذي أكمل استعداداته للمعركة الفاصلة ، وفي المقابل تحرَّك الجيش الصليبي واضعاً في ذهنه الوصول إلى طبرية لعلَّه يرد الماء ، إلا أنَّ صلاح الدين ببراعته الحربية أدرك مقصودهم ، ووقف بعسكره في وجوههم ، وأخذ صلاح الدين يطوف بين الصُّفوف يحرِّض الرجال على الجهاد، ويأمرهم بما ينفعهم ، وينهاهم عمَّا يضرُّهم ، وهم له طائعون.
1 ـ بداية الهجوم الإسلامي: وبدأ الهجوم الإسلامي على الصَّلبيين ، فاستمات المسلمون في القتال ، وشدَّدوا هجماتهم على الأعداء مدركين: أنَّ من ورائهم الأردن ، ومن بين أيديهم بلاد الرُّوم ، وأنهم لا ينجيهم إلا الله. وأمام ذلك الهجوم الإسلامي الرَّهيب أدرك الصليبيون: أنَّ نهايتهم قد حانت ، وأنَّه لا ينجيهم من صلاح الدين سوى الفرار ، أو الاستسلام ، ولم يستطع النَّجاة سوى ريموند أمير طرابلس؛ الذي رأى عجز الصَّليبيين عن مقاومة الجيش الإسلامي ، فاتفق مع جماعةٍ من أصحابه، وحملوا على من يليهم من المسلمين ، ففتح المسلمون لهم طريقاً يخرجون منه ، وبعد خروجهم التأم الصفُّ مرةً أخرى.
ويبدو أنَّ خروج ريموند تمَّ بموافقة صلاح الدين ، الذي أصدر أوامره إلى ابن أخيه تقي الدين عمر ، مقدَّم تلك الناحية التي حمل عليها ريموند ، وقصد صلاح الدين بذلك إدخال الضَّعف ، واليأس في نفوس الصَّليبيين عندما يعلمون بهروب ريموند ، وجموعه ، كما لا يستبعد أن يكون ذلك الأمر قد تمَّ باتفاق بين ريموند ، وصلاحالدين ، بدليل: أنَّ بعض الصليبيين عندما تعرَّضوا لذلك الهجوم الشامل من المسلمين؛ ألقوا أسلحتهم ، وجاؤوا إلى معسكر المسلمين مستسلمين.
وممَّا زاد الطين بلَّةً: أنَّه في الوقت الذي تخلَّى فيه ريموند عن أبناء ملَّته؛ كان بعض المتطوِّعة المسلمين قد اشعلوا النيران في الأعشاب ، والشواك اليابسة التي تكسو تلك المنطقة ، وكانت الرِّيح تهبُّ باتجاه الصَّليبيين ، فاجتمع عليهم العطش ، وحرُّ الزمان ، وحرُّ النار ، والدُّخان ، وحرُّ القتال ، الأمر الذي اضطرَّ معه الصليبيون إلى التراجع إلى أعلى الجبل ، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ، ويحموا نفوسهم به ، فاشتدَّ عليهم القتال من سائر الجهات ، ومنعوا عمَّا أرادوا ، ولم يتمكَّنوا من نصب خيمةٍ واحدةٍ سوى خيمة الملك.
2 ـ الحرب النفسية عند صلاح الدين: ويبدو: أنَّ صلاح الدين كان في تلك المعركة الحاسمة يعمد إلى القضاء على الصَّليبيين ، وإدخال الوهن في نفوسهم بكل الوسائل ، ولم يكن همُّه مقصوراً على القتال المباشر فقط ، بل كان يستخدم الحرب النفسية للتأثير على العدوِّ ، والدَّليل على ذلك: أنه بعد أن حصر الصليبيين في أعلى جبل حطين؛ ركز اهتمامه على الاستيلاء على صليبهم الأعظم الذي يسمونه: صليب الصلبوت ، والذي يذكرون: أنَّ فيه قطعةً من الخشبة التي صلب عليها المسيح ـ عليه السلام ـ بزعمهم؛ لأنَّه كان يعلم: أنَّ الاستيلاء عليه يعدُّ أعظم سلاح لتحطيمهم نفسياً ، ومعنوياً ، وبالفعل ، فما أن تمكَّن من أخذه حتَّى حلَّ بالصَّليبيين البوار ، وأيقنوا بالهلاك ، وتقدَّم المسلمون نحو قمَّة الجبل ، والصليبيون يتراجعون أمامهم ، ويتساقطون أسرى ، وقتلى؛ حتى لم يبق مع الملك الصليبي الَّذي وصل إلى أعلى التَّلِّ سوى فئة قليلةٍ ، لا يتجاوز عددها مئة وخمسين فارساً من الفرسان المشهورين الشُّجعان. وذكر ابن الأثير على لسان الملك الأفضل ابن صلاح الدِّين: أنَّ الصليبيين لمَّا تراجعوا على رأس ملكهم إلى أعلى التلِّ؛ حملوا حملةً قوية على مَنْ بإزائهم من المسلمين ، وكادوا يزيلونهم عن أماكنهم ، إلا أنَّ المسلمين عادوا ، فردُّوا على تلك الحملة ، واستطاعوا إعادة الصليبيين مرةً أخرى إلى أعلى الجبل ، ممَّا جعل الملك الأفضل يعبِّر عن فرحته بذلك النصر بقوله: «هزمناهم».
وعاد الصَّليبيون مرةً أخرى وحاولوا دحر المسلمين الذين ردُّوا عليهم بحملةٍ أقوى ، أرجعتهم مرةً ثالثةً إلى أعلى التل ، فعاد الملك الأفضل ، وعبَّر عن فرحته بذلك النصر مرة أخرى بقوله: هزمناهم. وهنا تبدو لنا مهارة صلاح ا لدين الحربية ، وخبرته في ميادين القتال؛ إذ كان يرى: أنَّ الهزيمة لن تتمَّ على الصليبيين إلا بسقوط قيادتهم قتلاً ، وأسراً ، فأجاب ابنه قائلاً: اسكت ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة ، يقصد خيمة الملك. ثمَّ أخذ في تشديد هجماته ، وما هي إلا لحظات حتى سقطت تلك الخيمة ، فنزل صلاح الدين ، وسجد شكراً لله تعالى ، وبكى من فرحه.3 ـ خسائر الصليبيين في حطين: والواقع: أنَّ ما فقده الصليبيون في هـذه المعركة مِنْ قتلى ، وأسرى يعتبر من أفدح الكوارث الَّتي حلت بهم ، ولم ينج إلا عددٌ قليل من المحاربين بالإضافة إلى من نجا من جند المؤخرة بقيادة باليان ابلين، وريجنالد صاحب صيدا ، أو جند المقدمة بقيادة ريموند صاحب طرابلس وتساقط معظم الجيش الرئيسي بقيادة الملك جاي لوزجنان ، فقد تساقطوا في أيدي المسلمين قتلى ، وأسرى ، وكان على رأس الأسرى الملك جاي لوزجنان وأرناط صاحب الكرك ، وأوك صاحب جبيل ، وهنفري بن الهنفري صاحب تبنين ، وابن صاحبة طبرية ، وجيرار مقدَّم الداوية ، ومعظم من نجا من الاسبتارية ، وغيرهم من أكابر الصليبيين.
4 ـ صلاح الدين يصلِّى صلاة الشُّكر ويستقبل الملوك الأسرى:أمر صلاح الدين بأن تضرب له خيمة ، فتمَّ له ذلك، فنزل فيها ، وصلى لله تعالى شكراً على هـذه النِّعمة؛ التي درج الملوك من قبله على تمنِّي مثلها ، وماتوا بحسرتها. ثم أحضر ملوك الصَّليبيين، ومقدَّميهم ، واستقبلهم استقبالاً حسناً ، وأجلس الملك جاي إلى جانبه ، وأجلس البرنس أرناط صاحب الكرك إلى جانب الملك ، وبادر صلاح الدِّين بتقديم إناء به ماء مثلَّج للملك جاي ، فشرب منه ، وأعطى ما تبقى لأرناط ، فشرب ، وعندئذ غضب صلاح الدين من ذلك ، وخاطب الملك مؤكداً له بأن أرناط لم يشرب الماء بإذنه ، فينال أمانه. ثم التفت إليه، وذكره بجرائمه ، وخيانته ، وقال له:كم تحلف ، وتنكث؟! فقال الترجمان عنه: إنه يقول: قد جرت عادة الملوك بذلك. فوقف السُّلطان صلاح الدين ، وقال: هأنذا استنصر لمحمَّد. ثم عرض عليه الإسلام فأبى ، فاستلَّ صلاح الدين سلاحه ، وضربه ، فحلَّ كتفه ، وتمَّم عليه مَنْ حضر. وقال: كنت نذرت دفعتين أن أقتله إن ظفرت به ، إحداهما: لما أراد المسير إلى مكَّة والمدينة. والثانية: لمَّا أخذ القوافل غدراً. ولمَّا رأى ملك بيت المقدس جاي لوزجنان ذلك المنظر؛ خاف ، وظن: أنَّ صلاح الدين سوف يثنِّي به ، ولكن السُّلطان استحضره ، وطيب قلبه ، وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، أمَّا هـذا فإنه تجاوز حدَّه، فجرى ما جرى.
5 ـ موقف صلاح الدين من الأسرى:أحضر صلاح الدين الدَّاوية ، والاسبتارية ، وعرض عليهم الإسلام ، فمن أسلم؛ استبقاه ، ومن أبى؛ أمر بقتله. وقد بيَّن أبو شامه سبب مقتلهم: أنَّ صلاح الدين ، قال: أنا أطهِّر الأرض من هـذين الجنسين النَّجسين ، فما جرت عادتهما بالمفاداة ، ولا يقطعان عن المعاداة ، ولا يخدمان في الأسر ، وهما أخبث أهل الكفر. ومن المعروف: أن فرسان هاتين الهيئتين قد تنكَّروا للمبادأى التي كرَّسوا حياتهم لخدمتها ، فخلعوا زيَّهم الديني الأسود ، واتشحوا بالوشاح العسكري الأبيض ، والشَّارة الصليبية الحمراء ، وأصبحوا في زمرة المحاربين ، وامتلك كلٌّ منهم ثلاثة من الخيل، وغلاماً يتبعه ، وصار منهم قادةٌ يحملون الألقاب ، والرُّتب العسكرية ، ويجيدون حبك سياسة الغدر بالمسلمين ، ونقض العهود ، والمواثيق ، وكان هدف فرسان هاتين الطائفتين الأول ، والأسمى طعن الإسلام ، وانتهاك حرماته بشتَّى الوسائل مهما كلَّفهم ذلك من ثمن.
كان عدد الاسبتارية ، والداوية حوالي ثلاثمئة وستين رجلاً ، والأمر المؤكد: أنَّ دورهم الحربي السَّابق ضدَّ المسلمين كان دافعاً لقتلهم ، وخاصَّة: أنه عرف عنهم عدم احترامهم للعهود ، والمواثيق ، كما أنَّه ادرك أنَّه في حالة إطلاق سراحهم سيعودون إلى قتال المسلمين بصورة أشرس من ذي قبل ، كما لا نُغفل: أن منهم من شارك في حملة أرناط الاثمة على الحجاز. وأمام كافة تلك الاعتبارات لم يتردَّد صلاح الدين في الفتك بأولئك الأسرى من الصَّليبيين ، وقد تعرَّض للهجوم من جانب عدد من المؤرِّخين الغربيين المحدثين؛ الذين نسوا ، أو تناسوا ما فعله الصَّليبيون من مذابح ، فتكوا فيها بالالاف المؤلَّفة من المسلمين ، وليس هـذا بجديد على العقلية الغربيَّة؛ التي نجدها أحياناً تكيل بمكيالين ، وتبيح لنفسها ما تحرِّمه على غيرها. ولا نغفل أن ذلك الأسلوب من صلاح الدِّين جاء استثناءً لسياسةٍ متسامحةٍ بصفةٍ عامَّة تجاه أعدائه.
وأما بقيَّة الأسرى؛ فقد أمر صلاح الدين بأن يساقوا إلى دمشق؛ حيث احتيط على الأمراء، وبيع عامَّة الفرسان ، والجند الصَّليبيين في الأسواق بأثمانٍ زهيدة ، ودخل القاضي ابن أبي عصرون دمشق ، وصليب الصلبوت منكَّسٌ بين يديه ، وعاد السلطان إلى طبرية. أما ريموند الثالث أمير طرابلس؛ فإنه لما نجا من المعركة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ وصل إلى صور ، ثم قصد طرابلس ، ولم يلبث إلا أياماً قليلةً؛ حيث مات بها غيظاً ، وحنقاً ممَّا جرى على الصَّليبيين خاصَّةً، وعلى دين النَّصرانية عامَّةً.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: