الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الصليبيون يحاصرون عكَّا:
الحلقة: الخامسة و التسعون    
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020


كان الفرنج المتجمِّعون في صور قد وردتهم الكثير من الإمدادات من الرِّجال ، والسلاح ، وأهمُّ من ذلك وصلتهم الوعود البابوية بأنَّ ملوك أوروبا قادمون لنجدتهم ، وهذا ما جعل مقاومتهم أشدَّ ضراوةً ، وعنفاً لصلاح الدين حين عاد إليهم ، وفيما كانت أوروبا كلُّها تضطرب حماسةً للهجوم على المشرق ، واسترجاع القدس؛ كان صلاح الدين يحاول فتح صور ، وكان روح المقاومة فيها هو الكونت كونراد دي منتفرات الطامع بعرش المملكة، ولهذا لم يقبل أن يسمح لجاي لوزينان ملك القدس حين أطلقه صلاح الدين من ألأسر أن يدخل المدينة ، فبقي ستة أشهر في نواحي طرابلس بمعسكرٍ بعيدٍ عنها ، يُجَمِّع بعض القوى حوله ليقف بوجه الزَّعيم الجديد مونتفرات، ثم اصطلح الاثنان على الاشتراك في قتال صلاح الدين ، وترك مسألة القرار بالعرش للبابوية ، وملوك أوروبا القادمين. وهكذا قرروا الخروج من صور التي ضاقت بهم لحصار عكا.
وكان صلاح الدين قد عهد بإعادة تحصين عكا ، وتزويدها بالسِّلاح ، والمؤمن إلى خادمه بهاء الدين قراقوش ، الذي جعلها مع قلعتها ، وسورها تحفةً معماريَّةً منيعةً ، وجلب بأمر صلاح الدين ـ المقاتلة إليها ، والأسطول من مصر إلى مينائها. وقد خرج الفرنج في رجب سنة 585 هـ/أغسطس سنة 1189 م وسارت مراكبهم معهم بحذائهم في البحر، ولم يؤخذ صلاح الدِّين على غرَّةٍ بمقصدهم إلى عكَّا ، فقد كان اليزك (الطلائع والحرس) التي تركها عند صور قد نبَّهت حامية عكَّا لتكون على استعداد ، ونزل الفرنج على عكَّا من البر ، والبحر يحاصرونها بأعدادٍ كبيرةٍ في رجب سنة 585 هـ/أغسطس 1189 م وكان رأي صلاح الدين مقاتلة الفرنجة أثناء تحرُّكهم نحو عكَّا؛ لأنهم إن وصلوا إليها لصقوا بأرضها ، ولكن قواده لم يرضوا قتالهم إلا إذا وصلوا إلى عكَّا بحجَّة: أنَّ الطريق التي سلكها الفرنجة وعرة ، وضيقة ، ولا يسهل قتالهم فيها ، وللإجهاز عليهم دفعةً واحدة.
ورغم ذلك رتَّب صلاح الدين للفرنجة كمائن على شكل عصابات من البدو تتخطَّفهم أثناء سيرهم ، لكنَّهم تابعوا المسير حتى عسكروا أمامها من البرِّ ، والبحر ، وانقطع اتصال الجيش الإسلامي بها وكان صلاح الدين قد كتب يستدعي عسكره المتفرِّق أمام أنطاكية ، وطرابلس ، وصور ، وعلى سواحل مصر في الإسكندرية ، ودمياط مع أخيه العادل فجاءه منهم الأعداد الغفيرة ، ثم جاء جند الشام ، والجزيرة ، وطوَّق بهذ الجند الطوق الفرنجي لعكَّا؛ فكان الفرنج بين حامية المدينة وبين الجند الصَّلاحي().
يقول العماد: وتبيَّن لنا بالعاقبة: أنَّ الرأي السُّلطاني كان أصوب، فإنَّ نزالهم عند نزولهم صار أصعب. وقد نزل الفرنج على عكَّا منا لبحر إلى البحر. وقامت المعارك سجالاً مع الفرنج كلَّ يوم ، وقد كانت تحتدم في بعض الأيام احتداماً كبيراً ، ومن أهمِّ المعارك تلك التي أراد المسلمون فيها إدخال المدد من الرِّجال ، والعتاد إلى عكَّا ، فحملوا على الفرنج حتى أزاحوهم عن الأسوار ، وأدخلوا بعض الأمراء ، وأعداداً كبيرةً من الجيوش القادمة من مصر إليها تشدُّ أزرها ، وبالمقابل قام الفرنجة قبل وصول بقية الأمداد من مصر بهجمةٍ على المسلمين ، هزموهم في أولها؛ حتى وصلوا إلى خيام الملك العادل ، وإلى خيمة صلاح الدين ، وقتلوا مَنْ حولها ، ولكن السُّلطان صاح في عسكره يا للإسلام ، وكرَّ معهم على الفرنج؛ الذين هُزموا ، وتناولتهم حامية عكَّا بالسِّهام من خلفهم ، فتشتَّتوا متراجعين. ويؤكد العماد الأصفهاني: أنَّ قتلاهم في تلك الوقعة كانوا بالألوف ، وقد عُرفت هذه الوقعة بالوقعة الكبرى().
1ـ العلماء الذين شهدوا الوقعة: كان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكَّاري يتولى مقدِّمة القلب في جيش صلاح الدين()، كما كان القاضي بهاء الدين بن شدَّاد، والفقيه العماد الأصفهاني مشاركين أيضاً في هذه المعركة، وقاما بوصفها وصفاً دقيقاً كشاهدي عيانٍ لها()؛ دون أن يوضِّحا دورهما في المعركة. وكان النصر حليف المسلمين في نهاية هذه المعركة ، وتكبد الصليبيون خسائر فادحةً في الأرواح قُدِّرت بعشرة الاف قتيل() وقد استشهد في هذه المعركة ، الفقيه ظهير الدين الهكَّاري أخو الفقيه عيسى الهكاري ، وكان والياً على بيت المقدس ، وقد جمع بين الشَّجاعة ، والعلم ، والدِّين() ، وعندما علم الفقيه عيسى الهكَّاري بنبأ استشهاده؛ أنكر عزاء الناس له قائلاً: هذا يوم الهناء ، لا يوم العزاء(). كما استشهد أيضاً في هذه المعركة الفقيه أبو علي بن رواحة عند خيمة صلاح الدين مع جماعة ، ويبدو أنَّه كان ممَّن يدافعون عن خيمة صلاح الدين حينما اندفع جماعةٌ من الصليبيين إلى الخيمة يريدون الفتك بالسُّلطان(). وكان ضمن القضاة الذين شاركوا في القتال ضدَّ الصليبيين المحاصرين لعكا في سنة 586 هـ/1192 م القاضي المرتضى بن قريش ، فكانت له مواقف عديدة في مشاركة المسلمين محاولاتهم في فكِّ الحصار الَّذي ضربه الصليبيون على عكَّا ، ولكنَّه استشهد في يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى سنة 586 هـ/1190 م()، رحمه الله.
2 ـ الأثر المعنوي للعلماء على المقاتلين: لم يكن دور الفقهاء أثناء حصار الصليبيين لعكا في الحملة الصليبية الثالثة يقتصر على حمل السلاح ، ومقاتلة الصَّليبيين لدفعهم عن عكا ، وإنما كانوا يطوفون داخل المعسكر الإسلامي بين الجند ، ويبثُّون الشَّجاعة في نفوسهم، فالقرَّاء يقرؤون القران ، ويحذِّرون الجند من الفرار، ويذكرونهم بما أعدَّه الله تعالى للشهداء في الجنَّة من جزاء عظيم، ويستشهدون في ذلك بايات الله الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة؛ ليرفعوا من روحهم المعنويَّة، ويزيدون من تصميمهم ، ومصابرتهم في الجهاد ، وذلك شأن كلِّ المعارك ، والفتوح؛ الَّتي كان صلاح الدين يخوضها.
وكان للقاضي بهاء الدين ابن شدَّاد دور عظيم في هذا الشأن ، فعندما بلغت صلاح الدين الأخبار بخروج الإمبراطور الألماني فردريك بربروسا بجيوشه إلى بلاد المشرق لنجدة الصَّليبيين بالشام، واشتدَّ ذلك عليه ، ورأى حث الناس للجهاد ، وإعلام خليفة الوقت بهذه الحادثة() ، فعهد إلى القاضي بهاء الدين بن شدَّاد بالمسير للخليفة العباسي الإمام الناصر أبو العباس أحمد ، وإلى كافة الأمراء الحكام حتى يقوم الخليفة بدوره في حثِّ ، وتحريض المسلمين في مختلف الأقطار، والبلاد للنفير للجهاد ، ومساعدة المسلمين بالشام. 
ويقول ابن شدَّاد: فاستدعاني لذلك ، وأمرني بالمسير إلى صاحب سنجار ، وصاحب الجزيرة، وصاحب الموصل ، وصاحب أربل ، واستدعائهم إلى الجهاد بأنفسهم ، وعساكرهم ، وأمرني بالمسير إلى بغداد لإعلام خليفة الزَّمان بذلك، وتحريك عزمه على المعاونة. وكان مسيري في ذلك المعنى في الحادي عشر من رمضان ، ويسَّر الله تعالى الوصول إلى الجماعة ، وإبلاغ الرسالة إليهم، فأجابوا بنفوسهم بكلِّ جميل ، وعدت إلى خدمته ، رحمه الله ، وكان وصولي يوم الخميس خامس ربيع الأول من شهور سنة ست وثمانين ، وكنت قد سبقت العساكر ، وأخبرته بإجابتهم بالسَّمع، والطَّاعة ، وباهتمامهم بالمسير ، فسرَّ بذلك ، وفرح فرحاً شديداً().
ونلاحظ قدرة صلاح الدين على متابعة حركة الأعداء ، والحصول على المعلومات الدَّقيقة عنهم ، فأسعفهم الوقت للإعداد ، والتجهيز ، والاستنفار العام. ولعلَّنا نستنتج مما ذكره ابن شدَّاد أهمية ، وخطورة المهمَّة التي كلِّف بها إلى بغداد ، خاصة في تلك الظروف العصيبة ، والصَّليبيون يهددون عكَّا تهديداً شديداً ، وتكاد أن تقع في أيديهم ، لذلك عرض صلاح الدين على الخليفة الحضور بشخصه لتحميس المسلمين على أن يتنازل له عن جميع بلاده() ، ولكن الخليفة لم يكن متحمِّساً للانتقال من قصوره؛ ليعيش في ميادين القتال ، فلم يردَّ على دعوة صلاح الدين ، واكتفى بأن أرسل إليه عدَّة أحمال من النفط ، وتوقيع بمال له عند بعض التُّجار، مما جعل صلاح الدين يستاء من تصرفه().
وكان من المفروض على الخليفة أن يقود الصِّراع مع الصليبيين رغبةً في الجهاد بنفسه ، وماله في سبيل الله ، ومحاولةً منه لإعادة دور منصب الخلافة في واقع الأمَّة ، ممَّا يترتب عليه من أثرٍ معنويٍّ على المجاهدين ، كما أنه حافزٌ كبيرٌ لكلِّ المسلمين للمشاركة في الحملة ضدَّ الغزو الصليبي الكبير. ومما يسجَّل لصلاح الدين عظمة نفسه المترفِّعة عن الدنيا ، والمطامع؛ حيث عرض على الخليفة التنازل عن كلِّ البلاد الَّتي يملكها.
3 ـ صلاح الدين يعقد مجلس شورى: دعا السلطان صلاح الدين بعد انتهاء المعركة لعقد مجلس الشورى ، حضره أرباب المشورة ، والأمراء ، أمثال القاضي ابن شدَّاد ، والعماد الأصفهاني الكاتب ، وذلك للبثَّ في أمر عكا ، وقام صلاح الدين بإلقاء خطبةٍ عليهم ، قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة على رسول الله ، اعلموا: أنَّ هذا عدوَّ الله وعدوَّنا قد نزل في بلدنا ، وقد وطىء الإسلام وقد لاحت لوائح النَّصر عليه إن شاء الله تعالى ، وقد بقي في هذا المجتمع اليسير، ولا بدَّ من الاهتمام بقلعه ، والله قد أوجب علينا ذلك ، وأنتم تعلمون: أنَّ هذه عساكرنا ، وليس وراءنا نجدة ننتظرها سوى الملك العادل ، وهو واصل ، وهذا العدو إن بقى ، وطال أمره إلى أن يفتح البرح؛ جاءه مدد عظيم ، والرأي كلَّ الراي عندي مناجزتهم ، فلينجزنا كلٌّ منكم ما عنده في ذلك(). وبعد مشاورات ، ومناقشات كثيرة انقسم أعضاء المجلس إلى فريقين ، فقد أيد الفريق الأول السُّلطان في استمرار القتال قبل أن يجمع العدو شمله ، ويسعفه البحر بالإمداد ، بينما نادى المعارضون باتجاه العسكر إلى الخروبة() حتى يستجم قائلين: وما نزلنا عن الخيل منذ خمسين يوماً، وما طعمنا في هذه الليالي نوماً ، ولا سمعنا لطارق طيف غمضاً، وقد كلَّت الضوامر ، وفلَّت البواتر ، وملَّت العساكر ، وهذا الشتاء قد أقبل ، والعدوُّ قد استقتل ، وهؤلاء لا يتمكَّن منهم إلا بالجمع الجم ، والسَّيل لا يغلبه غير الخضم ، والصواب أن نصابرهم هذه الشتوة ، ونستجدَّ لنا ، ولخيلنا القوَّة، ونتأخر عن هذه المنزلة؛ لتحصيل هذه المصلحة المؤمَّلة... والصَّواب الأخذ بالاحتياط ، وتقديم الكتب ، والرسل إلى الأطراف ، والأوساط ، ومكاتبة دار الإسلام بالشَّام ، فإنَّ المسلمين لاشكَّ ينجدون ، ويقومون بالنُّصرة ، ولا يقعدون ، فحينئذٍ ينتهي أمد المصابرة، ونصمِّم على المكابرة مع المكاثرة ، ونباديم ، ونفاتحهم قبل انفتاح البحر ، ونغاديهم ، ونراوحهم على اقتراح القهر ، وننسفهم ، ولو أنهم جبال().
وتغلب (أي: المعارضون) ، واضطَّر صلاح الدين أن ينزل عند رأيهم ، وانتقل العسكر إلى الخروبة في رابع شهر رمضان 585 هـ/1189 م ، وهناك أصيب الفقيه عيسى الهكَّاري بمرضٍ أدَّى إلى وفاته؛ وهو في ركاب صلاح الدين مستعداً كعادته لتلبية نداء الجهاد في سبيل الله(). وقد جاء رحيل السُّلطان ، وعساكره عن عكَّا فرصةً كبيرة للصَّليبيين انتهزوها ، وأحكموا حصارهم حول عكَّا ، وحصنوا أنفسهم ، واتَّخذوا كلَّ الاحتياطات الَّلازمة لحماية أنفسهم من صلاح الدين()، وقد نتج عن هذا ضياع عكَّا في النهاية بعد حصار عامين كاملين في سابع عشر جمادى الاخرة سنة 587 هـ/12 يوليو 1191 م()
4 ـ طلب العون من ملك المغرب (الموحِّدين): وهو أبو يعقوب المنصور بن عبد المؤمن الموحِّدي ، ولكن هذا السُّلطان كان غاضباً من صلاح الدِّين ، لأنَّ أحد مماليك ابن أخيه ، واسمه قراقوش التقوى هاجم برقة ، وطرابلس الغرب، ثم تونس ، وكان تقي الدين عمر مولاه يأمل في إقامة ملكٍ له هناك ، وفشل المشروع() ، فقد أرسل صلاح الدين إلى ملك المغرب هديةً تشتمل على مصحفين ، ومئة درهم من دهن البلسان، وعشرين رطلاً من العود ، وستمئة مثقال من المسك ، والعنبر ، وخمسين قوساً عربية بأوتارها ، وعشرين من النُّصول الهندية ، وعدَّة سروج موشاة().
وقد بعث صلاح الدين مع هذه الهدية كتاباً رقيقاً جاء فيه: الحمد لله الذي استعمل على الملَّة الحنيفية من استعمر الأرض ، وأغنى من أهلها من سأله القرض ، وأجرى على يده النافلة ، والفرض ، وزيَّن سماء الذراري الَّتي بعضها من بعض. وكان عنوان الكتاب: من صلاح الدين إلى أمير المسلمين. وفي أوله: الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب. ويذكر السلاوي: أن أبا يعقوب المنصور لم يعجبه أن يخاطبه صلاح الدين بلقب أمير المسلمين ، لا أمير المؤمنين ، وأنه أسرَّها في نفسه ، ولكنَّه أكرم وفادة رسول صلاح الدين دون أن يحقِّق له غرضاً. وقد قيل: إن المنصور جهز مع ذلك مئةً وثمانين سفينة ، وحال دون وصولها استيلاء الصليبيين على سواحل الشام ، وقد دلَّل ابن خلدون() بذلك على تفوُّق ملوك المغرب على ملوك المشرق في إنشاء الأساطيل الجهادية(). على أنَّ ماذكره بعض المؤرخين من أن المنصور الموحّدي لم يقابل كتاب صلاح الدين بالارتياح؛ لأنه لم يلقبه بلقب أمير المؤمنين لا ينهض دليلاً على عدم استجابة يعقوب المنصور لنداء صلاح الدين ، وإنما كان ذلك راجعاً إلى أن يعقوب المنصور كان دائماً على أهبة الاستعداد لحرب النَّصارى في الأندلس().
كما أنَّ للموحِّدين تصريحات تدلُّ على رغبتهم في الرِّحلة إلى المشرق ، وضمه لدولتهم ، وقد أشار الذَّهبي عن رغبة السلطان المنصور برغبته من قصد مصر() ، وقد عبَّر عن هذه الرغبة بوضوح شاعر الموحِّدين أبو العباس بن عبد السَّلام الجراوي في بعض أشعاره ، كقوله في مدح الخليفة الموحِّدي يعقوب بن منصور:
إنَّ الخلافة نالت من محاسنكم
أعلى المراتب مِنْ بعد النُّبوَّة قد
سينظم السَّعد مصراً في ممالكه
إلى العراق إلى أقصى الحجاز إلى
هو الذي كانت الدُّنيا تؤمِّله
        أوفى الحظوظ فأبدت منظراً عَجَبا
حبا بها الله أعلى الخَلْقِ وانتخبا
حتى يدوخ منها خيله حلباً
أقصى خُراسان يتلو جيشُه الرُّعبا
وكلُّ عصرٍ له ما زال مرتقباً()

 لقد كان الموحدون يخطِّطون لغزو بلاد المشرق الإسلامي ، وأنَّ أولى الخطوات المستهدفة هي البلاد المصرية ، ولقد صرح السَّلطان الموحِّدي برغبته في غزو البلاد المصرية ، وذكر ما فيها من المناكر ، والبدع ، وقال: نحن إن شاء الله مطهِّروها. ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات ، رحمه الله(). إذاً فقد كان الموحِّدون يخطِّطون لغزوة المشرق كلِّه ، ولا شك: أن أمراء الدولة النورية ، والأيوبية يعلمون بهذا ، ولذلك أرادوا أن يأخذوا زمام المبادرة في أيديهم ، فقام الأيوبيُّون بتكليف بعض كبار شخصياتهم بالتوجُّه إلى بلاد المغرب ، وإيجاد مراكز نفوذ لهم بها ، وذلك حتى تكون ههذ المراكز خطَّ الدفاع الأول لإمارات المشرق في وجه الأطماع الموحِّدية.
وكانت غزوة قراقوش على المغرب هي إحدى هذه الخطوات التي بادر الأيوبيون باتخاذها(). لقد تحرَّكت الحملات الأيوبية نحو المغرب ، واتَّخذت الطريق الصحراوي ، لِقِصَره أولاً ، ثم لقلَّة الأخطار التي يمكن أن يتعرَّضوا لها ، ولذلك تركوا الطريق الساحلي الذي كان مليئاً بقبائل بني سليم ، وبني هلال الذين استطاعوا أن يخضعوا شرق ليبيا لسيادتهم ، ونعموا فيها برغد العيش ورفاهته ، ولذلك عملوا على التمسُّك بهذه البلاد ، ومقاتلة كلِّ مَنْ يحاول النزول فيها ، أو الاستيلاء عليها منهم()
ولقد رفض المنصور إرسال النَّجدة لدوافع نفسية ، وحزازاتٍ سياسية ، وموقفٍ داخليٍّ متوتر، وخارجيٍّ متربص ، ولقد أكرم سلطان الموحِّدين سفير صلاح الدين ، وبالغ في إكرامه ، ولمَّا مدحه سفير صلاح الدين شمس الدين بن منقذ في قصيدةٍ عِدَّتها أربعون بيتاً ، أعطاه بكلِّ بيت ألفاً(): ومن القصيدة:
سأشكر بحراً ذا عُباب قطعتُه
إلى مَعْدِن التَّقوى إلى كعبة الهُدى
إليك أمير المُسلمين ولم تَزَلْ
قطعتُ إليك البَرَّ والبحر موقناً
فما راعني من وجبة البَرِّ رائعٌ
ومَنْ كان غاياتِ المعالي طِلاَبُهُ
رَجَوْتُ بقصيدك العُلا فبلغتُها
فلا زِلتَ للعلياء والجُود ثانياً
        إلى بحر جُوْدٍ ما لِنُعْمَاه سَاحِلُ
إلى مَنْ سَمَتْ بالذِّكر منه الأوائلُ
إلى بابكَ المأمول تُزجْى الرَّواحِلُ
بأنَّ ندَاك الغَمْرَ بالنُّجْحِ كافِلُ
ولا هالني من زاخر البحر هائلُ
يهون عليه كلُّ أمرٍ يحاول
وأدنى عطاياكَ العُلا والفَضائل
تُبلِّغُك الأيَّامُ ما أنت امِلُ()

إنَّ صلاح الدين الأيوبي لم يعترف بخلافة السُّلطان الموحِّدي ، ولم يخاطبه بلقب أمير المؤمنين في الخطاب الذي أرسله إليه مع رسوله ابن منقذ ، وهذه مسألة لها أهميَّة خاصَّةٌ على أساس: أنَّ الاعتراف بالخلافة الموحِّدية ، وبشرعيَّة الدَّولة الموحِّدية القائمة في العلن على تعاليم ابن تومرت المنحرفة ، وهذا ما بينه القاضي الفاضل مستشار صلاح الدين الأكبر عندما قال: ... بأنَّ الخطاب يكفي ، وطريق جحدنا له ممكنٌ ، والكتابة حجَّة تقيِّد اللسان عن الإنكار ، ومتى قرئت على منبر من منابر المغرب جعلنا خالعين في مكان الإجماع مبايعين من لا ينصره الله ، ولا شوكة فيه ، ولا يحلُّ اتِّباعه ، مرخصين الغالي منحطِّين عن العالي ، شاقين عصا المسلمين ، مغرقين كلمة المؤمنين ، مطيعين لمن لا تحلُّ طاعته ، متقلِّدين لمن لا تصحُّ ولايته().
ولو التقى صلاح الدين مع السُّلطان الموحِّدي في غرفة مباحثات مغلقةٍ؛ لوصلوا إلى أمور تنفع الأمة كلَّها؛ نظراً لما تميز به صلاح الدين من مرونةٍ سياسيةٍ منقطعة النَّظير ، وَلِمَا وصل إليه السُّلطان المنصور من حرصه على إصلاح عقائد الموحِّدين ، والاقتراب من منهج أهل السُّنَّة ، والجماعة ، ولكن الله غالب على أمره ، ومهما يكن من شيءٍ؛ فإنَّ هذا الخلاف السياسي ، والعقدي الذي وقع بين صلاح الدِّين ، وملك الموحِّدين لم يحل دون تعاون شعوبهما في السَّراء، والضَّراء ، كما هو الحال في كلِّ زمانٍ، ومكانٍ، فمن المعروف من كتب التراجم المختلفة: أنَّ عدداً كبيراً من المغاربة قد ساهموا في الحروب الصَّليبية إلى جانب إخوانهم المشارقة ، واستشهد منهم عددٌ كبير ، ودُفن في فلسطين().
إن صلاح الدين سعى للاستفادة من الموحِّدين ضدَّ الحملة الصليبية الثالثة ، وهذا يدلُّ على مرونته السياسية الكبيرة، فقد أدَّى ما عليه ، أمَّا سلطان الموحِّدين؛ فقد كان يمكنه أن يتجاوز الخلافات المنهجية ، ويساهم مع صلاح الدين في الدفاع عن الأمَّة الإسلامية؛ إلا أنه فشل في هذا الاختبار.
5 ـ دور القاضي الفاضل أثناء حصار الصَّليبيين لعكا: كان للقاضي الفاضل دورٌ بالغُ الأهمية أثناء حصار الصليبيين لعكَّا ، وكان متواجداً بمصر انذاك يدبِّر شؤونها نيابةً عن صلاح الدِّين ، وكان من خلال موقعه هذا يرتِّب للسلطان أموره من تجهيز العساكر ، وتعمير الأسطول ، وحمل المال ، ونقل الميرة إلى عكَّا ، والسلطان يكاتبه في مهمَّاته ، وترجع أجوبته بأحسن عباراته مشيراً ، وناصحاً ، ومسلِّياً ، وباحثاً عن مصالح الإسلام متقصِّيا(). وكانت مكاتباته تتواصل إلى صلاح الدين أثناء حصار الفرنج لعكَّا بصفةٍ مستمرَّةٍ ، مليئةٍ بالعبارات الصَّادقة بكلِّ مشاعر الحبِّ ، والإخلاص للتخفيف عنه من صعوبة هذا الحصار، ومشاركته أحزانه ، واماله ، فكان يشجِّعه فيها ، ويحثُّه على الصَّبر، ويقوِّي من عزيمته لمواصلة الجهاد وعدم اليأس ، وعدم القنوط من رحمة الله وكرمه ، ويدعوه للتمسُّك بالأمل في نصر الله.
وكانت هذه العلاقة مبنيةً على الأخوَّة في الله ، ووحدة الهدف ، وليست قائمةً على تابعٍ ، ومتبوعٍ ، وسيِّدٍ ، وخادم ، فجاء في إحدى هذه الرسائل: ولا يكره المولى أن تطول مدَّة الابتلاء بهذا العدو ، فثوابه يطول ، وحسناته تزيد ، وأثره في الإسلام يبقى ، وفتوحاته بمشيئة الله يعظمُ موقعها ، والعاقبة لتقوى ، ولينصرن الله من ينصره ، والله تعالى يشكر لمولانا جهاده بيده ، وبرأيه، وبولده ، وبخاصته ، وبعامة جنده().
وكان من ضمن الرسائل الأخرى التي كان يرسلها القاضي الفاضل إلى صلاح الدين ، تلك التي أوضح فيها اعتذاره عن تأخُّر وصول الأسطول المصري إلى الشَّام بالإمدادات؛ التي طلبها صلاح الدين من مصر ، موضحاً: أنَّ ذلك مرجعه اشتداد الرياح المعاكسة ، وليس تقصيراً منه(). وممَّا لا شك فيه أن هذه الرسالة تعتبر تأكيداً للدور الذي كان يقوم به في مصر هذا القاضي الأجلُّ ، وغيره من الفقهاء ، والعلماء لمساعدة صلاح الدين ، وتأمين مستلزمات ، وتموين الجند المحارب معه بعكَّا().
وجدير بالذكر: أن القاضي كان يحاول بكلِّ الطرق ، والوسائل الممكنة أن يساعد صلاح الدين ، والمسلمين أثناء هذا الحصار ، فأرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد كتاباً يستحثه فيه بأقوى العبارات ، وأوقعها على النَّفس ، والقلب ، مهيباً به أن يقف بجانب صلاح الدين ، والمسلمين في هذا الموقف الصَّعب، نصرةً لدين الله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإعلاءً لشأن المسلمين.
ولعلَّ أقوى العبارات التي أوردها في هذا الكتاب قوله مناشداً الخليفة: فيا عصبة محمَّدٍ عليه السلام ، اخلفه في أمته بما تطمئن به مضاجعه ، ووفه الحقَّ فينا ، فأنا ، والمسلمون عندك ودائعه، وما مثل الخادم نفسه في هذا القول إلا بحالة عبدٍ لو أمكنه؛ لوقف بالعتبات ضارعاً ، وقبَّل ترابها خاشعاً ، وناجاها بالقول صادعاً ، ولو رفعت عنه العوائق؛ لهاجر، وشافه طبيب الإسلام بل مسيحه بالدَّاء الذي خامر ، ولو أمن عدو الإسلام أن يقول قولاً اخر؛ لسافر ، ولولا أنَّ في التصريح ما يعود على العدالة بالتجريح؛ لقال ما يبكي العيون ، وينكي القلوب ، ولكنَّه صابرٌ محتسبٌ ، منتظرٌ لنصر الله ، مرتقبٌ ، قائم من نفسه بما يجب()
وبناءً على ذلك تجاوز القاضي الفاضل بالسُّلطان صلاح الدين تلك المحنة القاسية؛ الَّتي مرَّت بها عكَّا ، وكان وحده بمثابة جيشٍ ثانٍ يحارب جنباً إلى جنب مع صلاح الدِّين(). ومما جاء في رسائل القاضي الفاضل لصلاح الدين من النُّصح ، والإرشاد قوله: .. وهذا دينٌ ما غُلب بكثرةٍ ، ولا نُصر بثروةٍ ، وإنما اختار الله تعالى له أربابَ نيَّاتٍ ، وذوي قلوبٍ معه ، وحالاتٍ ، فليكن المولى نعم الخلفُ لذلك السَّلف ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ ﴾[الأحزاب:21] واشتدي أزمة تنفرجي ، والغَمرَات تذهب ، ثم لا تجيء ، والله تعالى يُسْمِعُ الأُذُن ما يُسرُّ القلب، ويصرف عن الإسلام وأهله غاشية هذا الكرب ، ونستغفر الله العظيم ، فإنه ما ابتلى إلا بذنب().
وجاء في كتاب اخر له: إنما أتينا من قِبَل أنفسنا ، ولو صَدَقناه؛ لعجَّل لنا عواقب صدقنا ، ولو أطعناه؛ لما عقابنا بعدوِّنا ، ولو فعلنا ما نَقْدِرُ عليه من أمره؛ لفعل لنا مالا نقدر عليه إلا به، فلا يستخصمْ أحدٌ إلا عمله ، ولا يَلُم إلا نفسه ، ولا يَرْجُ إلا ربَّه ، ولا ينتظر العساكر أن تكثر، ولا الأموال أن تحضر ، ولا فلانٌ الذي يعتمد عليه: أنه يُقاتل، ولا فلان الذي ينتظر: أنَّه يُشير، فكلُّ هذه مشاغل عن الله ليس النَّصر إلا بها ، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنَّصر به ، واللُّطف منه ، والعادة الجميلة له ، ونستغفر الله سبحانه من ذنوبنا ، فلولا أنَّها تسدُّ طريقَ دُعائنا؛ لكان جواب دعائنا قد نزل ، وفيض دموع الخاشعين قد غسل ، ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السَّابق ، واللاحق().
ومن كتاب اخر: وعسكرنا لا يشكو ـ والحمد لله ـ منه خوراً إنما يشكو منه ضجراً ، والقوى البشرية لا بدَّ أن يكون لها حدٌّ ، والأقدارُ الإلهية لها قصدٌ ، وكلُّ ذي قصدٍ خادمٌ قصدها ، وواقفٌ عند حَدِّها ، وإنما ذكر المملوك هذا ليرفع المولى من خَاطره مَقْتَ المتقاعس من رجاله ، كما يثبت فيه شكر المسارع من أبطاله. قال الله تعالى: ﴿فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾ [آل عمران:159] .
يا مولانا! أليس الله تعالى أطَّلَع على قلوب أهل الأرض فلم يؤهل ، ولم يستصلح ، ولم يختر، ولم يسهل ، ولم يستعمل، ولم يستخدم في إقامة دينه ، وإعلاء كلمته ، وتمهيد سلطانه ، وحماية شعاره ، وحفظ قبلة موحِّديه إلا أنت؟ هذا وفي الأرض من هو أحق للبنوَّة قَرَابةً ، ومن له المملكة وراثةً ، ومن له في المال كثرةً ، ومن له في العدد ثروةً ، فأقعدهم ، وأقامك ، وكَسَّلهم ، ونشَّطك  وقبضهم ، وبسطك ، وحَبَّبَ الدنيا إليهم ، وبَغَّضها إليك ، وصعَّبها عليهم وَهوَّنها عليك ، وأمسك أيديهم ، وأطلق يدك ، وأغمد سيوفهم ، وَجرَّد سيفك ، وأشقاهم ، وأنعم عليك ، وثبَّطهم ، وسيَّرك ﴿۞وَلَوۡ أَرَادُواْ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةٗ وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ 
فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ ٤٦﴾ [التوبة:46] . نعم ، وأخرى أهمُّ من الأولى: أنه لما اجتمعت كلمة الكفر من أقطار الأرض ، وأطراف الدنيا ، ومغرب الشمس ، ومزخر البحر ما تأخَّر منهم متأخِّر ، ولا استبعد المسافة بينك وبينهم مستبعد ، وخرجوا من ذات أنفسهم الخبيثة ، لا أموال تنُفق فيهم، ولا ملوك تحكم عليهم ، ولا عصا تسوقهم ، ولا سيف يزعجهم مهطعين() إلى الدّاعي ساعين ، وهم من كلِّ حَدَب يَنسلُون: ومن كل بَرِّ وبحرٍ يقبلون ـ أبقاك الله ـ كما قيل:
ولست بَملْكِ هازمٍ لنظيره
        ولكنَّك الإسلامُ للشِّراك هَازِمُ

هذا؛ وليس لك من المسلمين كافَّة مساعد إلا بدعوة ، ولا مجاهد معك بلسانه ، ولا خارج معك إلا بهم ، ولا خارج بين يديك إلا بالأجرة ، ولا قانع منك إلا بزيادة تشتري منهم الخطوات شبراً بذراع ، وذراعاً بباع ، فتدعوهم إلى الله ، وكأنما تدعوهم إلى نفسك ، وتسألهم الفريضة ، وتكلِّفُهم النَّافلة ، وتعرض عليهم الجنَّة ، وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم().
وقال في كتاب اخر: .. ولنا ذنوبٌ قد سَدَّت طريق دُعائنا ، فنحن أولى بأن نلوم أنفسنا ، والله قَدَّر ، ولا سلاح لنا في دفعِهِ إلا أن نقول: لا حول ولا قُوَّة إلا بالله ، وقد أشرفنا على أهوال {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} وقد جمع العدوُّ لنا ، وقيل لنا: أخشوه ، فقلنا: حسبنا الله ، ونعم الوكيل ، متنجِّزين بذلك موعود الإنقلاب بنعمةٍ من الله وفضل ، فما نرجو إلا ذلك الفضل العظيم ، وليس لنا إلا الاستعانة بالله ، فما دلنا الله في الشدائد إلا على الدُّعاء له، وعلى طروق باب كَرمَه ، وعلى التضرُّع إليه ، ﴿فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾[الأنعام:43] . ونعوذ بالله من القسوة ، ومن القنوط من الرَّحمة ، ومن اليأس من الفرَج ، فإنه لا ييأس منه إلا مسلوب الرَّشَد ، مطرود عن الله ، مقطوعٌ الحظُّ منه ، ولا حيلة إلا بترك الحيلة ، بل قَصْدُ من تمضي أقداره بلا حيلة، سبحانه، وتعالى. إنْ علم الله من جند مولانا أنَّهم قد بذلوا المجهود؛ فقد عَذَرهم ، فيعذرهم المولى ، وإن علم أنهم قد ذخروا قوةً ، أو قصَّروا في نُصْرة كلمة الله؛ فيكفيهم مقتُ الله(). والمملوك يذكِّرُ المولى بصبره ، وبرحب صدره ، وبفضل خُلُقه ، وبتقواه لربِّه ، وبمداراة مِزَاجه ، وببرء القلوب الإسلامية ببرء جسمه ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِيَ نَفَقٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمٗا فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأۡتِيَهُم بِ‍َٔايَةٖۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ ٣٥﴾ [الأنعام:35].
والمولى أولى بهذا البيت:
لا بَطِرٌ إن تتابعت نِعمٌ
        وصابرٌ في البلاءِ مُحْتَسِبُ

 قيل للمهلب: أيسرُّك ظفرٌ ليس فيه تعب؟ فقال: أكره عادة العجز.
ولابُدَّ أن تنفذ مشيئة الله في خَلْقه ، ولا رادَّ لحكمه ، فلا يتسخَّط مولانا بشيءٍ من قَدره؛ فلأن يجري القضاء وهو راضٍ مأجور خيرٌ من أن يجري؛ وهو ساخطٌ موزور ، فيعطى نار الشِّدة ـ أعاذه الله منها ـ ولا يجد راحة الثَّواب، وفَّر الله حظَّه منه. من شكا بَثَّه وحزنه إلى الله؛ شكا إلى مُشتكى ، واستغاث بقادر ، ومن دعا ربَّه دُعاءً خفيَّاً؛ استجاب له استجابةً ظاهرة ، فلتكن شكوى مولانا إلى الله خِفيةً عَنَّا ، ولا يقطع الظهور التي لا تشتدُّ إلا به ، ولا يضيِّق صدوراً لا تنفرج إلا منه ، وما شرَّد الكرى ، وأطال على الأفكار ليل السرى إلا ضائقة الفوت بعكَّا... فقد علم مولانا بالمباشرة: أنه لا يُدَبَّر الدَّهرُ إلا بربِّ الدَّهر ، ولا ينفذ الأمر إلا بصاحب الأمر، وأنَّه لا يقلُّ الهمُّ إن كَثُرَ الفكر:
قد قلت للرجل المُقَسَّم أمره
        فوِّض إليه تَنَمْ قرير العين()

 كلُّ مقترحٍ يُجاب إليه إلا ثغراً يصير نصرانياً بعد أن أسلم ، أو بلداً يخرس فيه المنبر بعد أن تكلَّم. يا مولانا هذه الليالي التي رابطت فيها والناس كارهون ، وسَهِرْت فيها والعيون هاجعة ، وهذه الأيام التي يُنادى فيها: يا خيل الله أركبي! وهذه الساعات التي تزرع الشَّيب في الرؤوس ، وهذه الغَمَراتُ التي تفيض فيها الصدور بمائها ، بل بنارها، هي نعمة الله عليك ، وغراسُك في الجنَّة ، ومجملات محضرك ﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا﴾ [آل عمران:30] ، وهي مُجَوِّزاتك الصِّراط ، وهي مثقلات الميزان، وهي درجات الرضوان() ، فاشكر الله عليها كما تشكره على الفتوحات الجليلة.
واعلم: أنَّ مثوبة الصبر فوق مثوبة الشكر ، ومن ربط جأش أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: لو كان الصبر، والشكر بعيرين؛ ما باليت أيهما ركبتُ. وبهذه العزائم سبقونا، وتركونا لا نطمع بالغُبار ، وامتدَّت خطاهم ، ونعوذ بالله من العثار ، ما استعمل الله في القيام بالحقِّ إلا خير الخلق ، وقد عرف ما جرى في سير الأوَّلين ، وفي أنباء النَّبيين ، وأن الله تعالى حَرَّض نبيه صلى الله عليه وسلم أن يهتدي بُهداهم ، وأن يسلك سبيلهم ، ويقتدي بأولي العزم منهم ، وَما تغلو الجنَّة بثمن ، وما ابتلى الله سبحانه من عباده إلا مَنْ يعلم أنه يصبر، وأمور الدنيا ينسخ بعضها بعضاً ، وكأنَّ ما قد كان لم يكن ، ويذهب التعب ، ويبقى الأجر ، وإنما يقظاتُ العينِ كالحُلُم.
وأهم الوصايا ألا يحمل المولى همَّاً يُضْعِفُ به جسْمَه ، ويُغيِّر مزاجَه ، والأمَّة بنيان ، وهو ـ أبقاه الله ـ قاعدته ، والله يثبِّتُ تلك القاعدة في نصرة الحق. ومما يستحسن من وصايا الفرس: إن نزل بك ما فيه حيلة؛ فلا تعجز ، وإن نزل بك ما ليس فيه حيلة ـ والعياذ بالله ـ فلا تجزع ، وربَّ واقع في أمر لو اشتغل عن حمل الهمِّ به بالتدبير مع مقدور الله؛ لانصرف همُّه ، وكُفي خطبه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
هذا سلطان هو بحول الله أوثق منه بسلطانه ، قاتلتِ الملوك بطمعها ، وقاتل هذا بإيمانه ، وإذا نظر الله إلى قلب مولانا لم يجد فيه ثقةً بغيره ، ولا تعويلاً على قوَّةٍ إلا على قوَّته ، فهنالك الفرج ميعاده ، واللطف ميقاته ، فلا يقنط من روح الله ، ولا يقل: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ، فإنما خلق للصَّبر ، بل ليشكر ، فالشُّكر في موضع الصَّبر أعلى درجات الشُّكر ، وليقل لمن ابتلى: أنت المعافي ، وليرض عن الله سبحانه ، فإن الرَّضِيَّ عند الله هو المسلم الرَّاضي، فأما أخبار فتنة بلاد العجم؛ فسبحان من ألحق قلوبهم بألسنتهم! ﴿قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ 
يَلۡعَبُونَ ٩١﴾ [الأنعام:91] .
وكتب السلطان إلى القاضي الفاضل كتاباً من بلاد الفرنج يخبر عمَّا لاح له من أمارات النَّصر، ويقول: ما أخاف إلا من ذنوبنا أن يأخذنا الله بها. فكتب إليه الفاضل: فأما قول مولانا إنَّنا نخاف أن نؤخذ بذنوبنا؛ فالذُّنوب كانت مثبتةً قبل هذا المقام ، وفيه مُحِيَتْ ، والاثام كانت مكتوبةً ، ثم عُفي عنها بهذه السَّاعات ، وعُفِّيتَ ، فيكفي مستغفراً لِسانُ السَّيف الأحمر في الجهاد ، ويكفي قارعاً لأبواب الجنَّة صوت مقارعة الأضداد ، وبعين الله موقفك، وفي سبيل الله مقامك ، ومنصرفك ، وطوبى لقدمٍ سَعَتْ في مِنْهاجك ، وطوبى لوجهٍ تَلَثَّم عَجَاجك ، وطوبى لنفس بين يديك قَتَلَتْ ، وقُتِلَت ، وإنَّ الخواطر بُشكر الله فيك عن شُكرها لك قد شُغِلَتْ().
وهذا هو القاضي الفاضل العالم الربَّاني ، صاحب البيان البديع ، والفهم العميق لسنن الله في تحقيق النصر ، ولا نستغرب بعد هذه المكاتبات من قول صلاح الدين: ما فتحت بلداً بسيفي ، ولكن بقلم القاضي الفاضل. إنَّ وجود نوعية القاضي الفاضل بجوار القيادات السياسية ، والعسكرية لها أثره المعنوي ، فيها يفتح الله أبواب الأمل للقيادات ، وتحرص على الثواب فيما عند الله ، وتكون سبباً في صبرها ، وثباتها.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022