في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
سقوط عكا... الأسباب والتداعيات:
الحلقة: السابعة و التسعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
كان صلاح الدين يراقب تطورات الموقف من مراكزه عند «شفرغم» ثمَّ عند «الخروبة» ، ثم «العياضية» ، وتلقَّى في نهاية جمادى الأولى/حزيران) إمدادات جديدة من الجزيرة ، وعندما نفَّذ عدة هجمات مضادَّة على الصليبيين؛ لجأ هؤلاء إلى مهاجمة عسكره ، ولكنهم فشلوا في تحقيق أيِّ هدف بعد أن ثبت المسلمون لهم ثبوتاً عظيماً ، وصبروا صبر الكرام. وكان الهدف من القتال الوقوف على قوَّة الخصم ، فقد أراد صلاح الدين أن يثبت لريتشارد قلب الأسد: أنَّ جيشه ما زال قوَّياً ، وأن بوسعه ملاقاته ، وأما ريتشارد قلب الأسد ، فإنه أراد من جانبه أن يتأكَّد ممَّا إذا كان بوسعه أن يفرض إرادته على صلاح الدين بقوة السلاح ، أو أن يفرض عليه المفاوضات بعد أن يُلحق بالمسلمين هزيمةً تجبرهم على الموافقة على شروطه مدركاً في الوقت نفسه: أنَّ الظروف العسكريَّة مهيأةٌ لتحقيق ذلك.
لم تفلح الهجمات المتعدِّدة التي شنَّها المسلمون ضدَّ الصَّليبيين المحاصرين لعكَّا ، لكن صمودهم في وجه الهجمات المضادَّة دفع ريتشارد قلب الأسد إلى طلب المفاوضات ، وأعلن عن رغبته في الاجتماع بالسُّلطان ، وكان يأمل بالتوصُّل إلى تسوية سلمية؛ غير أنَّ صلاح الدين أجاب بحذر ، فإنه ليس من الحكمة أن يجتمع ملكان متعاديان؛ حتى تنعقد بينهما هدنة ، ومع ذلك فإنَّه أعرب عن استعداده لأن يسمح لأخيه العادل أن يجتمع بالملك الإنكليزي، وتقرَّر وقف القتال مدَّة ثلاث أيام ، وتمَّ الاتفاق أن يُعقد الاجتماع في السَّهل؛ الذي يفصل المعسكرين الإسلامي والصَّليبي؛ غير أنَّه حدث أن خرَّ ملكا إنكلترا ، وفرنسا مريضين فجأة ، واشتدَّت العلة على ريتشارد قلب الأسد ، لكنَّ ذلك لم يؤثر على معنويات الصَّليبيين؛ الذين ازدادوا إصراراً ، وعتوَّاً.
1 ـ مفاوضات على تسليم عكَّا:والواقع: أنَّ الهجمات التي شنَّها صلاح الدين ضدَّ القوات الصليبية لم تفلح ، وكانت عكَّا قد ضعفت ضعفاً شديداً ، واشتدَّ الخناق بالمسلمين في داخلها ، وهدمت مجانيق الصليبيين جزءاً من سورها ، وتخلخل جزءٌ اخر ، وأنهك التعب والسهر أهل البلد لقلَّة عددهم ، وكثرة أعمالهم. وفي 7 جمادى الآخرة/2 تموز أرسلت الحامية رسالةً جاء فيها: إنَّا قد بلغ منا العجز إلى غايةٍ ما بعدها إلا التسليم ، ونحن في الغد، إن لم تعملوا معنا شيئاً نطلب الأمان ، ونسلِّم البلد ، ونشتري مجرد رقابنا.
كان هذا الخبر من أعظم ما وقع على المسلمين؛ لأنَّ عكا كانت مخزناً كبيراً لسلاح السَّاحل، وبيت المقدس ، ودمشق، وحلب ، ومصر ، وفيها كبار أمراء صلاح الدين ، مثل سيف الدين علي بن أحمد الهكَّاري المعروف بالمشطوب ، وبهاء الدين قراقوش. ثم إنَّ الحامية اتَّخذت فعلاً قراراً بوقف القتال ، وذهب سيف الدِّين علي المشطوب بنفسه إلى المعسكر الصَّليبي لمقابلة الملك الفرنسي ، والاتفاق معه على شروط التسليم. وذكر: أنَّ المسلمين كانوا إذا أخذوا بلداً منهم ، وطلب من بذلك البلد على أنفسهم أعطوهم ، وعرض عليه تسليم البلد له بشرط أن يعطيهم الأمان على أنفسهم. إلا أنَّ ملك فرنسا ـ الذي كان بعيداً كلَّ البعد عن صفات الشَّهامة ، والمروءة؛ التي كان صلاح الدين يتحلَّى بها ـ امتنع عن إجابة طلبه ، وردَّ عليه رداً دلَّ على وحشيته؛ الأمر الذي أثار نخوة سيف الدين المشطوب ، فأغلظ له في القول ، وكان مما قال له: إنَّا لا نسلِّم البلد حتى نقتلَ بأجمعنا ، ولا يقتلُ واحدٌ منا حتى يقتلَ خمسين نفساً من كباركم. ثم انصرف عنه المشطوب ، ودخل عكا يستشير الناس للجهاد، وبذل أرواحهم في سبيل الله.
وعلى الرَّغم من ذلك التعنت من ملك فرنسا ، فإنَّ الصليبيين كانوا بلا شك يحسبون للقوَّة الإسلاميَّة حساباً كبيراً بدليل ما ذكره ابن الأثير من أنَّ الصليبيين لم يكتفوا بالتفاوض مع قادة الحامية الإسلامية بعكَّا. بل أنهم اتَّجهوا كذلك إلى مفاوضة صلاح الدين نفسه ، حيث أرسلوا إليه في أمر التَّسليم ، فأجابهم إليه على أن يُطلقوا مَنْ بعكا من المسلمين ، ويُطلق هو مِنْ أسراهم بعدد مَنْ في البلد.
2 ـ صلاح الدين يحثُّ المسلمين بعكا على الصبر: ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ صلاح الدين لما رأى ذلك التعنُّت من الصليبيين؛ أرسل إلى مَنْ بعكَّا من المسلمين يحثُّهم على الصَّبر ، ويأمرهم بأن يخرجوا من المدينة يداً واحدة بعد أن يحملوا على العدوِّ حملةَ رجلٍ واحدٍ ، ووعدهم بأن يتقدَّم هو إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، ويقاتل الصَّليبيين حتى يتمكَّنوا من الخروج إليه. إلا أنَّ تلك المحاولة لم يكتب لها النجاح بسبب سيطرة الصَّليبيين على البلد. وهنا أدرك مَنْ بداخل عكَّا من المسلمين: أنه لم يعد أمامهم سوى الجهاد ، والاستبسال في قتال الأعداء ، فكتبوا إلى صلاح الدين يذكرون له أنهم قد تبايعوا على الموت ، وأنهم قد عزموا على الاستمرار في القتال ، وأنهم لن يسلموا ما داموا أحياء.
وعلى الرَّغم من تلك التضحية الكبرى الكبيرة من أهل عكَّا ، وحبهم للاستشهاد في سبيل الله ، فإنه يبدو: أنَّ صلاح الدين ، وأمراءه الذين كانوا بالدَّاخل أمثال الأمير سيف الدين المشطوب ، وغيره ، كانوا حريصين كل الحرص على سلامة أرواح المسلمين ، ويدلُّنا على ذلك ما ذُكر من أنَّ سيف الدين المشطوب عندما رأى الموقف؛ خرج إلى الصليبيين للمرَّة الثانية ، وقرَّر معهم تسليم البلد مقابل خروج من به المسلمين بأموالهم ، وأنفسهم ، وأن يدفع لهم فدية قدرها مئتا ألف دينار ، وخمسمئة أسير ، فضلاً عن إعادة صليب الصَّلبوت ، ودفع مبلغ من المال إلى كونراد مونتفرات صاحب صور ، وهنا يذكر المؤرخ ابن شدَّاد: أن صلاح الدين عندما وصلته رسالة من أحد العوَّامين تذكر له تلك الشروط؛ أنكر ذلك إنكاراً شديداً.
3 ـ غدر الصليبيين ونقضهم للعهود: قبل الصليبيُّون تلك الاتفاقية ، وحلفوا لسيف الدين المشطوب ، فسلم لهم البلد، ودخلوه سلماً، ولما دخل الصَّليبيون عكَّا؛ نقضوا عهودهم كعادتهم، وغدروا بمن فيه من المسلمين، واحتاطوا عليهم، وعلى أموالهم، وحبسوهم، وذلك في 17 جمادى الاخرة 587 هـ/يوليه 1191 م متظاهرين بأنَّهم فعلوا ذلك حتى يصل إليهم ما اتَّفقوا عليه من الفدية، والأسرى وهنا شرع صلاح الدين في جمع الأموال، واجتمع عنده مبلغٌ كبير من المال، واستشار أصحابه في تسليمه للصَّليبيين، فأشاروا عليه بأن يعود مرَّةً أخرى فيستحلف الصليبيين على إطلاق أصحابه، وأن يضمن الدَّاوية ذلك «لأنهم أهل تديُّن ، ووفاء إلا أنَّ الداوية امتنعوا عن ذلك، وقالوا «لا نحلف، ولا نضمن، لأننا نخاف غدر مَنْ عندنا»؟. عند ذلك علم صلاح الدين غدرهم ، فلم يجبهم إلى ذلك. كانت ألوية الصليبيين ترفرف في ذلك الوقت فوق أبراج عكَّا ، واستطاع الصَّليبيون دخول عكَّا بعد أن حاصروها قرابة عامين ، الأمر الذي أثار موجةً من الأسى والحزن عبَّر عنها المؤرخون المسلمون.
ويبدو أنَّ الصليبيين ماطلوا في تنفيذ الشق المتعلِّق بهم ، وكان صلاح الدين قد أرسل لهم القسط الأول من المال ، والرجال الأسرى ، ولمَّا طالبهم بتنفيذ البند الخاص بهم كاملاً؛ رفضوا عندها أدرك عزمهم على الغدر ، ورفض أن يسلِّمهم ما تبقَّى من المال ، والأسرى، ولمَّا رأى ريتشارد قلب الأسد توقف صلاح الدين عن بذل المال ، والأسرى، وصليب الصلبوت لهم لم يعاود الاتصال بصلاح الدين ، بل دفعه تهوُّره ، وحمقه إلى أن ساق أسرى المسلمين الذين بعكا، وكانوا زهاء ثلاثة الاف مسلم إلى تلك العياضية ، وأوثقهم بالحبال ، ثم حمل الصليبيون عليهم حملةً واحدة ، وقتلوهم عن اخرهم وذلك في 27 رجب 587 هـ/20 أغسطس 1191 م.
ولا شكَّ: أن ذلك التصرف الوحشي الذي اتخذه ريتشارد مع أسرى المسلمين في عكا لم تكن له نتيجة سوى إثارة النَّخوة الإسلامية في صفوف المسلمين؛ الذين استشعروا ذلك الخطر الصليبي، فهبُّوا من كافة الأقطار الإسلامية للجهاد ضدَّ الصليبيين ، وبالفعل فإنَّ الجيوش الإسلامية قد منعت الجيوش الصَّليبية من تحقيق أيِّ انتصار عقب دخولهم عكا ، وذلك لتفاني الجيوش الإسلامية في ميادين القتال لشعورها بزيادة الخطر الصَّليبي ، فضلاً عما أعقب دخول الصَّليبيين عكا من خلافٍ ، وشقاق بين قادتهم أدَّى إلى اختلافهم كلمتهم ، وعجزهم عن تحقيق انتصارٍ اخر غير دخولهم عكا ، ذلك الانتصار الذي لا يقاس في حدِّ ذاته بما لحق بالصَّليبيين من خسائر. وشتان بين السلوك الهمجي الذي اتَّبعه ريتشارد مع أسرى المسلمين بعكَّا ، وبين ذلك السُّلوك الإنساني الذي كان صلاح الدين قد اتَّبعه مع الصليبيين في مواقف كثيرة ، منها ما فعله بأسراهم عقب انتصاره في حطِّين ، ثم عقب استيلائه على بيت المقدس؛ إذ حرص دائماً على السَّماح لأهل المدن التي استولى عليها من الصَّليبيين بمغادرتها سالمين.
ومن المواقف الإنسانية الإسلامية الصَّلاحية التي ظهرت من صلاح الدين وهو في حصار عكَّار:
4 ـ المرأة النصرانية التي تبحث عن ابنها الرَّضيع: كان للمسلمين لصوصٌ يدخلون إلى خيام العدوِّ ، فيسرقون منهم حتَّى الرِّجال ، ويخرجون، فأخذوا ذات ليلة طفلاً رضيعاً له ثلاثة أشهر ، فلمَّا فقدته أُمُّه باتت مستغيثةً بالويل ، والثبور في طول تلك الليلة ، حتى وصل خبرها إلى ملوكهم ، فقالوا لها: إنَّه رحيم القلب ، وقد أَذِنَّا لك في الخروج إليه، فاخرجي ، واطلبيه منه ، فإنه يردُّ عليك. فخرجت تستغيث لليزك الإسلامي ، وأخبرتهم بواقعتها، فأطلقوها ، وأنفذوها إلى السُّلطان ، فأتته ، وهو راكب على تَلِّ الخرُّوبة ، وكان القاضي ابن شدَّاد في خدمته ، وهو الذي روى القصَّة ـ وكان في خدمته خلق عظيم ، فبكت بكاءً شديداً ، ومرَّغت وجهها في التُّراب ، فسأل عن قِصَّتها ، فأخبروه، فَرَقَّ لها، ودَمِعت عينه ، وأمر بإحضار الرَّضيع ، فمضوا ، فوجدوه قد بيع في السُّوق ، فأمر بدفع ثمنه إلى المُشْتري ، وأخذه منه ، ولم يزل واقفاً ـ رحمه الله ـ حتى أُحضر الطِّفل ، وسُلِّم إليها ، فأخذته، وبكت بكاءً شديداً ، وضمَّته إلى صدرها ، والناس ينظرون إليها ، ويبكون ، وأنا واقف في جملتهم ، فأرضعته ساعةً ، ثم أمر بها ، فَحُمِلتْ على فرسٍ ، وألحقت بمعسكرهم مع طفلها. فانظر إلى هذَه الرَّحمة الشَّاملة لجنس الإنسان.
5 ـ معاملته لملك انكلترا: تكرَّرت الرَّسائل من الفرنج إلى السُّلطان شغلاً للوقت بما لا طائل تحته ، منها: أنَّ ملك الانجليز طلب الاجتماع به ، ثم فَتَر بَعْدُ أياماً ، ثم جاء رسوله يطلب الاستئذان في إهداء جوارح جاءت من البحر ، ويذكر: أنَّها قد ضَعُفَت ، وتغيَّرت ، وطلب أن يُحمل لها دجاجٌ ، وطيرٌ تأكله لتقوى ، ثم تُهدى ، ففهم: أنَّه محتاجٌ إلى ذلك لنفسه؛ لأنَّه حديث عهد بمرضٍ ، ثمّ أنفذ أسيراً مغربياً عنده هديةً إلى السلطان ، فأطلقه السُّلطان صلاح الدين. ثم أرسل في طلب فاكهةٍ ، وثلج، فأرسل إليه ذلك.
أولا: أسباب سقوط عكَّا:
كان ثمة أسباب عديدة تجمَّعت ، وأدَّت إلى سقوط عكَّا المريع ، بعد أن دافع عنها المسلمون قرابة السَّنتين ، ولعلَّ من أبرزها:
1 ـ وصول قوات أوروبيَّة جديدة: حَسَمَ الموقف لصَّالح الصليبيين ، فعلى الرغم من كثرة من قتل منهم ، إلا أنَّ البحر كان يزوِّدهم بإمداداتٍ جديدةٍ؛ حتى أضحوا في أعداد لا تُحصى من أممٍ كثيرة ، تلك التي اشتركت في هذه الحملة الصليبية الضَّخمة ، فتجهَّز لها الأمراء بما أعدُّوه من الأموال ، والأدوات ، وبما تكفَّلَتْ به المدن الإيطالية من بذل المساعدة ، والاشتراك ي نقل العساكر ، والمعدَّات ، وعدم السماح للسُّفن الإسلامية بإيصال الؤمن والمعدَّات اللازمة إلى المدينة المحاصرة ، فكان تفوُّقهم البحري واضحاً. لقد قاومت المدينة حصار الصَّليبيين سنتين كاملتين ، وشهدت خلالهما أعظم عمليات حربيَّة اشترك فيها الصَّليبيُّون بأكثر من ربع مليون جندي ، وامتاز الصَّليبيون خلال هذا الحصار بأسطولٍ قويٍّ ، والاتٍ حربيَّةٍ ضخمة.
2 ـ استخدام الصَّليبيين لأسلحةٍ جديدةٍ ، ومتنوعةٍ: استعمل الصليبيون في قتال عكَّا أنواعاً كثيرة من الأسلحة ، والمعدَّات الحربية القديمة منها ، أو التي أدخلوا إليها التحسينات ، سواءٌ الهجومية منها لدكِّ أسوار المدينة ، أو لحماية أنفسهم خلف الجدران ، والخنادق؛ التي أقاموها لمنع وصول قوات صلاح الدين إليهم ، واستطاعوا بعد مرابطتهم الطَّويلة بين أسوار عكا ، وقوَّات صلاح الدين إحداثَ الخلل في الأسوار ، ففي رسالة حرَّرها القاضي الفاضل بعث بها صلاح الدين إلى الخليفة العباسي أعلن فيها: أنَّ الصليبيين: قاتلوا مرَّةً بالأبرجة ، وأخرى بالمنجنيقات ، ورادفة بالدَّبابات ، وتابعةً بالكباش ، واونةً باللوالب ، ويوماً بالنقب ، وليلاً بالسِّرايات ، وطوراً بطمِّ الخنادق ، واناً ينص السَّلالم ، ودفعةً بالزحوف في اللَّيل والنهار ، وأحياناً في البحر بالمراكب، وكان رجال ريتشادر يستطيعون أن يتسلَّقوا جدران السُّور بواسطة الةٍ جديدة مستحدثة سمَّوها «الهر» ومجانيق تستطيع رمي الحجارة الضَّخمة التي تزعزع الجدران ، وتحدث الهزَّات؛ حيث تقع في المدينة.
3 ـ طول مدَّة الحصار البحري ، والبرِّي: ولَّد تعباً أصاب المسلمين ، وسبَّب ذلك ضجراً ، رغم ما كان يحدثه صلاح الدين من تبديل بين المحاربين بإرسال البدل إلى داخل المدينة ، إلا أنَّه لم يستطع الاستمرار على ذلك، لاسيما حين شدَّد الصَّليبيون من حصارهم عليها ، وكذلك لم تُجْدِ نفعاً النجاحات التي أحرزها الجيش الصَّلاحي الذي يحاصر الصليبيين ـ بين فترة ، وأخرى ، ولاسيما في بداية الحصار الصَّليبي ، وكانت النتيجة الحتمية هي التواني في بذل المجهود الحقيقي ، ثم إبداء الأمراء التذمُّر من صلاح الدين ، فلم يلبث التذمُّر حتى صار عادةً ، وتطوَّر إلى نقدٍ ، ثم إلى معارضةٍ ، أضعفت الصفَّ الإسلامي.
وقد روى السلطان للخليفة العباسي في رسالةٍ أوضح فيها أبعاد الموقف أمام عكَّا ، وانسحاب الأمراء واحداً بعد اخر؛ لأنَّ المدَّة الطويلة ، والكلف الثقيلة قد أثَّرت في استطاعتهم لا في طاعتهم ، وفي أحوالهم لا في شجاعنهم ، فالبرك (الثياب) قد أقضوه ، والسِّلاح قد أحفوه ، والدرهم قد أفنوه في حين أنَّ البحر بمدُّ الإفرنج بمراكب أكثر عدَّةً من أمواجه... فإذا قتل المسلمون واحداً من البرِّ بعث عوضه ألفاً ، وإذا ذهب بالقتل صنفٌ منهم أخلف بدله صنفاً.
إلا أنَّ السلطان لم يأسف لشيء بقدر ما أسف لتغيب ابن أخيه تقي الدين عمر الَّذي ذهب إلى إمارته في الجزيرة على أن يعود في أقرب وقت فشغلته أحداث الإمارة عن العودة السَّريعة ، وقد رأى صلاح الدين في غياب تقي الدين أحد الأسباب الرَّئيسية التي أدَّت إلى سقوط عكَّا
4 ـ ضعف المؤسَّسة المالية في جيش صلاح الدِّين: كشف الصِّراع الطويل مع الصَّليبيين ، وسقوط عكَّا عن مواطن الضَّعف المادية في جيش صلاح الدين ، ومعروفٌ عن صلاح الدين: أنه لم يولِ اهتماماً كافياً بالإدارة المالية، ولم يدَّخر المال ليوم الحاجة ، ويفسَّر بذل المال الذي عرف عنه بأنَّ ظروف الجهاد اقتضت ذلك: فقد أنفق المولى مالَ مصر في فتح الشَّام ، وأنفق مال الشَّام في فتح الجزيرة ، وأنفق مال الجميع في فتح السَّاحل. وسرعان ما لقي نفسه بحاجةٍ شديدةٍ إلى المال لسدِّ نفقات الأسلحة ، والمؤمن ، والعلف ، والمعدَّات ، وعطاء الجند ، وكذلك لم يقدر على التَّخفيف من الضَّائقة المالية عن العساكر المرابطين على عكَّا ، والَّذين اضطروا إلى الاستدانة، وكذلك إحلال خيولٍ، وأسلحةٍ جديدةٍ بدلاً من المستهلكة ، فالخيول: أجهدها الجهاد.. والعُدَد فقدت بالكليَّة، وعدمت ، وتكسرت ، وتحطَّمت ، وأما النشَّاب؛ فقد فني ، ونفضت الكنائن. ويضيف العماد إلى كلامه: أنه احتيج في هذه السنين إلى أحمالٍ كثيرةٍ لا يفي بها الصُّنَّاع ، ولا يرفعها العُمَّال.
هذه هي أهم الأسباب التي أدَّت إلى سقوط عكَّا.
5 ـ بَعْدَ عكَّا: كان لسقوط عكا تأثيره الكبير على وضع المسلمين ، وعلى الرَّغم من أنَّ الضَّربة لم تكن قاضيةً ، إلا أنَّ هذا الحدث أضعف المسلمين كثيراً؛ بحيث ركنوا بعده إلى الدِّفاع السلبي ، والذي من مظاهره تخريب بعض القلاع، والحصون لكي لا تقع بيد العدو ، ثم يجعل منها مرتكزاً للهجوم على المناطق الإسلاميَّة. صحيح: أنَّ فشل جيش صلاح الدين في حصار صور يعتبر بداية لخط الإنكسار الإسلامي ، إلا أنَّ هذا الفشل يوضع في التَّحليل الأخير ضمن إخفاقات جيش صلاح الدين ، وليس ضمن انتصارات الصَّليبيين ، والقصد من ذلك: أن ما حصل في صور هو عدم نجاح حصار المسلمين لإحدى المدن ، أمَّا في عكا ، فقد هزم المدافعون عنها ، وانتصر الصَّليبيون.
ثانيا: وقعة أرسوف:
وضع ريتشارد قلب الأسد خطَّةً تقضي باسترداد المدن الواقعة على شاطىء فلسطين من عكَّا حتى عسقلان قبل أن يتوجَّه إلى الداخل ليستردَّ بيت المقدس ، فغادر عكَّا يوم الخميس في 29 رجب 587 هـ/22 اب 1191 م على رأس الجيش الصَّليبي متَّخذاً الطريق السَّاحلي حيث يلقى جناحه الأيمن الحماية ، والتموين من الأسطول الصَّليبي ، ولم تكن ظروف الرِّحلة سهلةً ، فقد عانى الصَّليبيون من شدَّة الحرِّ ، وقلَّة المؤن ، وخراب المدن ، والقرى التي مرُّوا بها ، ومضايقة المسلمين لمؤخرتهم.
والواقع: أن صلاح الدين لم يشأ أن يدع الجيش الصَّليبي يزحف بسلامٍ ، وإنَّما رحل في إثره، وكان يخشى أن يتحرَّك ريتشارد قلب الأسد نحو عسقلان؛ ليحتلَّها ، ويتَّخذ منها قاعدةً يقطع بواسطتها طريق الاتصال بينه وبين بيت المقدس ، ومصر الَّتي تمدُّه بالقوة الضاربة ، وبعد أن استولى الصَّليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلاميَّة ، استأنفوا زحفهم نحو قيسارية ، ولما اقتربوا منها في 17 شعبان/30 اب «أضحى الالتحام بين الجيشين وشيك الوقوع، تمتَّع المسلمون بميِّزة حريَّة الحركة في الوقت الذي حصر الصليبيون أنفسهم بينهم ، وبين البحر ، وكان القتال الحاد ينشب بينهم كلَّ يوم ، وحاول صلاح الدين استدراج الصَّليبيين إلى الدَّاخل ، حتى ينحرفوا عن خطِّ سيرهم بمحاذاة السَّاحل ، فيفقدوا ميزة دعم الأسطول ، إلا أن ريتشارد قلب الأسد ، الذي اتَّصف بالبراعة القتالية لم يقع في فخِّ صلاح الدين ، وحافظ على خط سيره ، ودعا رجاله إلى الحفاظ على النظام ، وألا ينساقوا وراء الاستفزازات الإسلاميَّة ، مفوِّتاً فرصةً طالما كان صلاح الدين توَّاقاً إليها.
واستولى الصليبيون على قيسارية الخاوية على عروشها بعد أن خرَّبها المسلمون ، ولم يستفيدوا منها بزادٍ ، أو مال، ثم واصلوا زحفهم حتى بلغوا مشارف أرسوف ، وتحرَّكوا باتجاه غابتها الواقعة في شمال شرقي المدينة على امتداد ميلين من البحر ، حيث كان السَّهل من الاتساع ما يكفي لنشوب اشتباك. وقرَّر صلاح الدين الَّذي سبق العدو إلى الغابة أن يصطدم به في هذا المكان ، فعبَّأ قوَّاته استعداداً للمواجهة ، وحين علم ريتشارد قلب الأسد بخطَّته؛ تصرَّف على محورين:
ـ أرسل بطلب نجدة صليبية من عكَّا.
ـ حاول تسوية القضايا مع صلاح الدين بالطُّرق السِّلميَّة. والرَّاجح: أنَّ صلاح الدين أراد أن يكسب الوقت حتى تصل قوات التُّركمان التي كان قد طلبها ، فتظاهر بقبول مبدأ التَّفاوض ، وأناب عنه أخاه العادل؛ الذي اجتمع بريتشارد قلب الأسد (في 12 شعبان/5 أيلول) لكن المفاوضات تعثَّرت بسبب تصلُّب ريتشارد قلب الأسد في موقفه؛ إذ أصرَّ على أن يتنازل المسلمون عن الأماكن التي فتحوها في مملكة بيت المقدس ، فبادر العادل على الفور إلى قطع المفاوضات ، ولم يبق أمام الطرفين سوى القتال.
ووصلت في هذه الأثناء نجداتٌ عسكرية إلى كلٍّ من الطرفين ، فتعبَّأ المسلمون للقتال ، وبدأت المعركة في ضحى (يوم السبت 14 شعبان 587 هـ/7 أيلول) أحاط الفرسان المسلمون في بدايتها بالصَّليبيين ، وأوشكوا أن يقضوا عليهم ، لكن ريتشارد قلب الأسد ثبت في القتال ، وأعاد تنظيم صفوف قو اته بسرعة ، فمال ميزان المعركة إلى صالحه ، ولم تلبث صفوف المسلمين أن تداعت ، ولمَّا رأى صلاح الدين ما نزل بالمسلمين؛ صاح فيهم ، وحرَّضهم على الجهاد في سبيل الله ، وبقي هو ثابتاً في المعركة ، فلمَّا راه الناس على تلك الحالة من الشَّجاعة ، والصَّبر؛ توافدوا عليه ، وقاتلوا الصَّليبيين قتال الأبطال؛ حتى تمكَّنوا من دحرهم ، وإجبارهم على التَّراجع إلى منزلهم.
ثالثا: خراب عسقلان:
بعد معركة أرسوف ، توجَّه ريتشارد نحو يافا ، وأخذها دون مقاومة؛ إذ لم يكن بها أحدٌ من المسلمين؛ ليدافعوا عنها (على حدِّ قول ابن الأثير) وشرع في إعادة بناء استحكاماتها ، أمَّا صلاح الدين فتوجَّه نحو الرَّملة ، وعقد فيها مجلس حربه ، واستشارهم فيما يفعل ، فأشار عليه الأمير علم الدين سليمان بن جندر بإخلاء عسقلان ، ومن ثم تخريبها ، لأنَّ هدف العدو ، بعد عكَّا ، ويافا هو عسقلان ، ومن ثمَّ القدس ، ولأنَّ يافا ، التي نزل عليها ريتشارد تتوسَّط القدس ، وعسقلان ولا سبيل إلى حفظ المدينتين معاً.
وقد أعلن الأمراء الدَّاعين إلى تخريب عسقلان: أنَّ الدفاع عن هذه المدينة يتطلَّب وجود حامية كبيرة فيها ، تعدادها ثلاثون ألف مقاتل ، أو عشرون ألفاً. وأعلنوا لصلاح الدين: قد رأيت ما كان منَّا بالأمس ، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ، ووقفنا في وجوههم نصدُّهم عنها ، فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها ، فينزلوا عليها ، فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكَّا ، ويعظم الأمر علينا؛ لأنَّ العدو قد قوي بأخذ عكَّا ، وما فيها من الأسلحة ، وغيرها ، وضعفنا نحن بما خرج عن أيدينا ، ولم تطل المدَّة حتى نستنجد غيرها.
فاعترض صلاح الدين على هذا الراي ، وطلب من بعض أمرائه الدُّخول إلى عسقلان ، وتنظيم الدفاع عنها ، فامتنعوا ، بل إنَّهم ردُّوا عليه بخشونةٍ غير مألوفة ، اعتادوا عليها من الان فصاعداً ، كما يظهر من رواية العماد ، وابن الأثير ، وقالوا: إنْ أردت حفظه ، فأدخل أنت معنا، أو بعض أولادك الكبار ، وإلا فما يدخلها منَّا أحدٌ؛ لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكَّا ، ولم يستطع صلاح الدين إقناع الأمراء ، ولذلك حزن كثيراً ، وبات ليلة مهموماً. يقول ابن شدَّاد إنه: ما نام الليلة إلا قليلاً ، ولقد دعاني إلى خدمته سحراً ، فحضرتُ ، وأحضر ولده الملك الأفضل ، وشاوره في الأمر ، ثمَّ قال: والله لأن أفقد أولادي كلَّهم أحبُّ إليَّ من أن أهدم من عسقلان حجراً واحداً ، ولكن إذا قضى الله بذلك ، وعيَّنه لحفظ مصلحة المسلمين طريقاً؛ فكيف أصنع؟!.
واضطرَّ أخيراً إلى الانصياع إلى قرار أمرائه ، ووافق على تخريبها ، فأمر والي المدينة بأن يتولَّى ذلك بنفسه ، فوضع الوالي المعول عليها فجر 19 شعبان 587 هـ/12 أيلول 1191 م ، ثم استنفر النَّاس ، وقسم سور المدينة عليهم ، وجعل لكلِّ أميرٍ ، وطائفةٍ جزءاً من السُّور ، واشترك هو ، وولده في تخريبها ، وأرسل إلى أخيه العادل ، الذي كان نازلاً على بلدة يبني بالقرب من الرَّملة ، ويافا ، وطلب منه أن «يسوِّف القوم ، ويُطَوِّل حديث الصُّلح معهم، ريثما نتمكن من خراب البلد. وقد تألَّم الناس على ما يفعلونه ، ووقع فيهم الضَّجيج ، والبكاء؛ لأنَّ عسقلان كانت مدينةً نضرةً خفيفةً على القلب ، محكمة الأسوار ، عظيمة البناء ، مرغوبةً في سكناها حتى سُمِّيت: عروس الشام؛ لحسنها. وبعد إكمال تخريبها أمر بإضرام النَّار فيها ، وهاجر منها وأهلها وتفرَّقوا بين مصر ، والشام ، واستمرَّت أعمال التخريب ، والحرق إلى مستهلِّ رمضان 587 هـ/نهاية أيلول 1191 م. ولم يكد الجيش يفرغ من تخريب عسقلان حتى سار إلى يبني مقر قيادة العادل ، ثم مضى إلى الرَّملة.
أما ريتشارد فإنه انشغل بإقامة التَّحصينات في يافا ، ولم يخاطر في الهجوم على بيت المقدس؛ لأنَّه إذا غامر بالمسير نحو هذه المدينة؛ فثمة احتمال قوي أن يقوم جيش صلاح الدين بقطع طريق الاتصال بينه ، وبين البحـر ، فكان من الحكمة والتعقُّل أن يتأكَّد من مناعة يافا قبل أن يشرع في مغامراته؛ لأنَّ الخسارة تكون أشدَّ وجعاً لسمعة الصَّليبيين؛ إذا استولوا على المدينة ، ثم يضطرون إلى تركها ثانيةً. ومع ذلك فإن التمهُّل ، والإرجاء أضحيا بالغي الطُّول ، فتهيَّأت لصلاح الدين الفرصة لتدعيم وسائل الدفاع عن المدينة المقدَّسة ، وتنظيم صفوف جيشه للجولة التالية في وقتٍ كان الصَّليبيُّون ينعمون بأسباب الرَّاحة في يافا ، فاهتمام ريتشارد بيافا ، وتعميرها لم يقلَّ عن اهتمام صلاح الدين بتدمير عسقلان؛ لأنَّ القائد الصليبي أدرك: أنَّه يتعذر عليه أخذ بيت المقدس دون إحكام سيطرته على يافا؛ لاسيما وأن عسقلان قد تمَّ تخريبها.
رابعا: تنظيم الدفاع عن القدس:
لم يعد صلاح الدين إلى القدس إلا متأخِّراً ، أي: في اخر ذي القعدة 587 هـ إلا أنَّه أرسل إليها الملك العادل لتفقُّد أحوالها ، والنَّظر في عمارتها. وفضَّل أن يقيم في المناطق القريبة منها الَّتي خربها الجيش ، أي: بالقرب من الرَّملة. وقصد من ذلك أن يكون قريباً من العدو ، ومن القدس معاً ، حتى إذا فكَّر العدو بالإغارة على القدس؛ منعهم ، وتصادم معهم في لقاءٍ مكشوف وفي 6 شوال جمع صلاح الدين «أكابر أمرائه ، وأرباب الأمراء في دولته ، وشاورهم كيف يصنع إن خرج العدوُّ ـ وكان قد تواصلت الأخبار عنهم: أنَّهم قد اتفقوا على الخروج إلى العسكر الإسلامي ـ فاتَّفق الراي على أنهم يقيمون في منزلهم ، فإنْ خرج الفرنج؛ كانوا على لقائهم.
وفعلاً وصل اثنان من الصَّليبيين المستأمنين إلى معسكره ، وأخبراه: أنَّ العدوَّ على عزم الخروج بعد غدٍ ، ثم وصل أحد المسلمين الذين كان أسيراً لديهم ، وهرب من معتقله ، وأخبر أنَّهم ينوون الخروج. عندها بدأ صلاح الدين بتحصين القدس ، وأرسل إلى البلاد يطلب رجالاً يقومون بهذه الأعمال ، وعمل السُّلطان ، وأولاده ، وأمراؤه فيها ، ومعهم القضاة ، والعلماء ، والفقهاء. ووصل من الموصل جماعةٌ كبيرةٌ تقدَّر بخمسين رجلاً من الحجَّارين برسم قطع الصُّخور ، لتقوية أسوار القدس ، وخندقها.
وحين انتهى من هذا العمل أمر الجاووش أن ينادي بالعسكر؛ حتى يتجهَّز ، وشدَّت الرايات، للوقوف بوجه العدو، وفي هذا الوقت نكب الجيش الأيوبي بوفاة أبرز قواده ، هو تقيُّ الدين عمر في منطقة الجزيرة ، وقد تألم له السُّلطان كثيراً ، إلا أنه أخفى الخبر عن العسكر؛ لكي لا يصل الخبر إلى العدوِّ في تلك اللَّحظة الحرجة ، وكذلك توفي القائد الشُّجاع الأمير حسام محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت صلاح الدين لمرض اعتراه يوم وفاة تقي الدين عمر ، وهو 19 من رمضان 587 هـ/خريف 1191 م.
ويحتمل: أنَّ خبر استعدادات الجيش الأيوبي وصل إلى ريتشارد ، فلم يشأ أن يلتقي معه في مصاف ، إضافةً إلى إلحاح هذا الملك على مبدأ المفاوضات ، لتكون الأساس للعلاقات بين الطَّرفين ، كما أظهرت أحداث الأيام التالية. وما أن حلَّ الشتاء 587 هـ/1191 م إلا وتوقف الطَّرفان ، ولم يحصل أيُّ صدامٍ ، أو لقاءٍ بينهما ، فرحل صلاح الدين حين اشتدَّت الأمطار إلى القدس ، وعاد الصَّليبيون إلى يافا ، وذهب قسم منهم إلى عكَّا ، لكن ريتشارد ما انفكَّ يبعث برسله إلى صلاح الدين ، ويحثُّه على الصلح ، ونجد أنَّ صلاح الدين كان غير متحمَّسٍ في عقد الصُّلح ، لكنَّه كان يبغي الاستفادة من جوِّ المفاوضات في هذا الفصل الذي رحلت عنه جيوش أمرائه ، وقفلت راجعةً إلى أوطانها؛ لذا طلب من الملك العادل ـ مرَّة أخرى ـ أن يماطل ريتشارد إلى أن تصل عساكر الأطراف.
فغادر الملك العادل القدس في بداية ربيع الأول سنة 588 هـ/اذار 1192 م؛ إلا أن المفاوضات لم تثمر ، عندها قامت جماعاتٌ من الصَّليبيين باحتلال بعض المدن ، والحصون التي كان دفاعها ضعيفاً ، مثل مدينة عسقلان التي أعاد ريتشارد تعميرها، وجعلها أمنع قلعةٍ على كلِّ الساحل الفلسطيني ، وكذلك احتلُّوا حصن الداروم الذي أمر صلاح الدين بتخريبه في وقت سابق ، وحين احتلَّه ريتشارد ، نكَّل بالمدافعين عنه. واحتلُّوا حصوناً ومواقع أخرى صغيرةً على السَّاحل الفلسطيني.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: