الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: "مواقع النجوم"

الحلقة السابعة عشر

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

جمادى الأولى ١٤٤١ه/ يناير 2020م

مواقع النجوم:
قال تعالى:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ" (الواقعة، آية : 75 ـ 76).
أقسم الله سبحانه وتعالى قسماً مغلظاً بمواقع النجوم وبين أن هذا القسم جليل عظيم لو كنتم تعرفون قدره أن هذا القرآن كتاب كريم، جم الفوائد والمنافع، لاشتماله على أصول الدين من العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات وعلى غير ذلك من أمور الغيب وضوابط السلوك وقصص الأنبياء وأخبار الأمم السابقة والعبر المستفادة منها، وعلى عدد من حقائق ومظاهر الكون الدالة على وجود الله وعظيم قدرته، وكمال حكمته وإحاطة علمه، ويأتي جواب القسم: أن الله تعالى قد تعهد بحفظ هذا الوحي الخاتم في كتاب واحد مصون بقدرة الله، ومحفوظ بحفظه من الضياع أو التبديل والتحريف، وهو المصحف الشريف الذي لا يجوز أن يمسه إلا المطهرون من جميع صور الدنس المادي، أي المتوضئون الطاهرون، ولا يستشعر عظمته وبركته إلا المطهرون من كل صور الدنس المعنوي أي: المؤمنون بالله، الموحدون له المطهرون من دنس الشرك والكفر والنفاق، ورذائل الأخلاق لأن هذا القرآن الكريم هو وحي الله الخاتم، المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم وهو معجزته الخالدة إلى يوم الدين، أنزله الله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وربنا سبحانه هو الإله الخالق رب السموات والأرض ومن فيهن، وقيوم الكون ومليكه سبحانه، يقول عز وجل:" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" (الواقعة، آية : 75 ـ 80).
هذا القسم القرآني المغلظ جاء بمواقع النجوم وليس بالنجوم ذاتها، علماً بأن النجوم من أعظم صور إبداع الله في الكون وفي هذا القسم نلاحظ أن "الفاء" حرف عطف يعطف بها فتدل على الترتيب والتعقيب مع الاشتراك أو يكون ما قبلها علة لما بعدها، وتجري على العطف والتعقيب دون الاشتراك، وقد تكون للابتداء، ويكون ما بعدها حينئذ كلاماً مستأنفاً، وأغلب الظن أنها هنا للابتداء.
وهذا القسم القرآني العظيم بمواقع النجوم يشير إلى سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى إحدى حقائق الكون المبهرة، والتي مفادها أنه نظراً للأبعاد الشاسعة التي تفصل نجوم السماء عن أرضنا، فإن هذا الإنسان على هذه الأرض لا يرى النجوم أبداً، ولكنه يرى مواقع مرت بها النجوم، ثم غادرتها، وفوق ذلك وأن هذه المواقع كلها نسبية وليست مطلقة، لأن الضوء كأي صورة من صور المادة والطاقة لا يستطيع أن يتحرك في صفحة السماء إلا في خطوط منحنية وعين الإنسان لا ترى إلا في خطوط مستقيمة، وعلى ذلك فإن الناظر إلى النجم من فوق سطح يراه على استقامة آخر نقطة ينحنى ضوءه إليها، فيرى موقعاً وهمياً للنجم غير الموقع الذي انشق منه ضوءه، فنظراً لانحناء الضوء في صفحة السماء، فإن النجوم تبدو لنا في مواقع ظاهرية غير مواقعها الحقيقية، ليس هذا فقط، بل إن الدراسات الفلكية الحديثة قد أثبتت أن نجوماً قديمة قد خبت أو تلاشت منذ أزمنة بعيدة، والضوء الذي انبثق منها في عدد من المواقع التي مرت بها لا يزال يتلألأ في ظلمة السماء في كل ليلة من ليالي الأرض إلى اليوم الراهن، ومن هنا كان هذا القسم القرآني بمواقع النجوم، وليس بالنجوم ذاتها ـ على عظم قدر النجوم ـ التي كشف العلم عنها أنها أفران نووية كونية عجيبة يخلق الله تعالى لنا فيها كل صور المادة والطاقة التي ينبني منها هذا الكون المدرك، ثم إن عدد ما أحصاه علماء الفلك من النجوم في الجزء المدرك من السماء الدنيا إلى يومنا هذا تعدى سبعين مليار تريليون نجم.
أ ـ ماهية النجوم:
النجوم هي أجرام سماوية منتشرة بالسماء الدنيا، كروية أو شبه كروية، غازية، ملتهبة، مضيئة بذاتها، متماسكة بقوة الجاذبية على الرغم من بنائها الغازي، هائلة الكتلة، عظيمة الحجم، عالية الحرارة بدرجة مذهلة، وتشع موجات كهرومغناطيسية على هيئة كل من الضوء المرئي وغير المرئي بجميع موجاته، ويمكن بدراسة ضوء النجم الواصل إلينا التعرف على العديد من صفاته الطبيعية والكيميائية من مثل درجة لمعانه، وشدة إضاءته، درجة حرارته، حجمه متوسط كثافته، كتلته، تركيبه الكيميائي، ومستوى التفاعلات النووية فيه، موقعه منا، سرعة دورانه حول محوره، وسرعة جريه في مداره، وسرعة تباعده عنا أو اقترابه منا إلى غير ذلك من صفات.
ب ـ الشمس نجم عادي من نجوم السماء الدنيا:
الشمس هي النجم الذي تتبعه أرضنا فتدور حوله مع باقي أفراد المجموعة الشمسية وتدور معه حول مركز المجرة ومع المجرة حول مراكز أعلى بالتدريج إلى نهاية لا يعلمها إلا سبحانه وتعالى، والشمس أقرب نجوم السماء إلينا، ويقدر بعدها عنا بحوالي مائة وخمسين مليون من الكيلومترات، ويقدر نصف قطرها بحوالي سبعمائة ألف كيلومتر.
وتجري الشمس ومعها مجموعتها الشمسية في صفحة الكون بسرعة تقدر بحوالي 19 كم/ثانية نحو نقطة في كوكبة هرقل بالقرب من نجم النسر الواقع وهي تسمى علمياً باسم قمة الشمس، ولعلها هي ما يسميها خالقها سبحانه وتعالى ف محكم كتابه باسم "مستقر الشمس"، كما تجري الشمس (ومعها مجموعتها الشمسية) بسرعة تقدر بحوالي 220كم/ثانية حول مركز مجرتنا (درب التبانة)، لتتم هذه الدورة في 225 مليون سنة من سنين الأرض، وأقرب كواكب المجموعة الشمسية إلى الشمس هو كوكب عطارد، يبعد عنها بحوالي 58 مليون كم، ويعتقد حسابياً أن هناك كوكب أبعد من بلوتو، ولكن لم يتم رصده بعد، وإذا خرجنا عن نطاق المجموعة الشمسية فإن هذه المقاييس الأرضية لا تفي بقياس المسافات التي تفصل بقية نجوم السماء الدنيا عنا، فاتفق العلماء على وحدة قياس كونية تعرف باسم السنة الضوئية، وهي المسافة التي يقطعها الضوء بسرعته المقدرة بحوالي الثلاثمائة ألف كم/ثانية في سنة من سنين البشر، وهي مسافة تقدر بحوالي 9,5 مليون مليون كم.
ج ـ المجرات تجمعات للنجوم:
المجرات هي نظم كونية شاسعة الاتساع تتكون من التجمعات النجمية والغازات والغبار الكونيين (الدخان الكوني) بتركيز يتفاوت من موقع لآخر في داخل المجرة، وهذه التجمعات النجمية تضم عشرات البلايين إلى بلايين البلايين من النجوم في المجرة الواحدة وتختلف نجوم المجرة في أحجامها، ودرجات حرارتها، ودرجات لمعانها، وفي غير ذلك من صفاتها الطبيعية والكيميائية، وفي مراحل دورات حياتها وأعمارها، فمنها النجوم المفردة والمزدوجة والعديدة والعماليق الكبار والأقزام الحمر، والنجوم القزمة البيضاء والبنية والسوداء، والنجوم النيوترونية، والثقوب السوداء، وأشباه النجوم وغيرها، مما يتخلق باستمرار من الدخان الكوني، ويُفنى إليه، ومن المجرات ما هو حلزوني الشكل ومنها ما هو بيضائي، ومنها ما هو غير محدد الشكل، ومنها ما هو أكبر من مجرتنا كثيراً، ومنها ما هو في حجمها أو أصغر منها، وتتبع مجرتنا ما يعرف باسم المجموعة المحلية وهي عبارة عن تجمع محلي لعدد من المجرات، وقد يتجمع عدد أكبر من المجرات على هيئة أكبر تعرف باسم "عنقود مجري"، كما قد يتجمع عدد من العناقيد المجرية على هيئة عنقود مجري عملاق يضم عشرات الآلاف من المجرات، وبالإضافة إلى المجرات وتجمعاتها المختلفة في الجزء المدرك من السماء الدنيا فإننا نرى السدم وهي أجسام دخانية عملاقة بين النجوم وقد تتخلق بداخلها النجوم، وعلى ذلك فمن السدم ما هو مضيء وما هم معتم.
د ـ من أسباب القسم بمواقع النجوم:
ــ أنه نظراً للأبعاد الشاسعة التي تفصل نجوم السماء عنا فإنه لا يمكن لنا رؤية النجوم من على سطح الأرض أبداً، ولا بأية وسيلة مادية وكل الذي نراه من نجوم السماء هو مواقعها التي مرت بها ثم غادرتها، أما بالجري في الفضاء الكوني بسرعة مذهلة، أو بالانفجار والاندثار، أو بالانكدار والطمس، فالشمس وهي أقرب نجوم السماء إلينا تبعد عنا بمسافة مائة وخمسين مليون كيلومتر، فإذا انبثق منها الضوء بسرعته المقدرة بحوالي الثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية من موقع معين مرت به الشمس بسرعة تقدر بحوالي 19 كيلو متراً في الثانية من موقع معين مرت به الشمس فإن ضوءها يصل إلى الأرض بعد ثمان دقائق وثلث الدقيقة تقريباً، بينما تجرى الشمس بسرعة تقدر بحوالي 19 كيلو متراً في الثانية في اتجاه نجم النسر الواقع" VEGA" فتكون الشمس قد تحركت لمسافة لا تقل عشرة آلاف كيلو متر عن الموقع الذي انبثق منه الضوء ونحن لا نرى ضوءها إلا هيئة صورة وهمية للموقع الذي انبثق منه الضوء الذي رأيناه.
وتتغير مواقع النجوم من لحظة إلى أخرى بسرعات تتناسب مع سرعة تحرك النجم في مداره، ومعدلات توسع الكون وتباعد المجرات عنا، والتي يتحرك بعض منها بسرعات تقترب أحياناً من ثلاثة أرباع سرعة الضوء، وأبعد نجوم مجرتنا عنا يصل ضوؤه بعد ثمانين ألف سنة من لحظة انبثاقه من النجم بينما يصلنا ضوء بعض النجوم البعيدة عنا بعد بلايين السنين، وهذه المسافات الشاسعة مستمرة في الزيادة مع الزمن نظراً لاستمرار تباعد المجرات عن بعضها البعض بسبب اتساع الكون، ومن النجوم التي تتلألأ أضواؤها في سماء ليل الأرض ما ثبت علمياً أنه قد انفجر وتلاشى، أو طمس واختفى منذ ملايين السنين، لأن آخر شعاع انبثق منه قبل انفجاره أو طمسه لم يكن قد وصل إلينا بعد، والضوء القادم منه اليوم يعبر عن ماض قد يقدر بملايين السنين.
ـ ثبت علمياً أن الضوء مثل المادة ينحني أثناء مروره في مجال تجاذبي مثل الكون، وعليه فإن موجات الضوء تتحرك في صفحة السماء الدنيا في خطوط منحنية يصفها القرآن الكريم "المعارج" ويصف الحركة ذاتها بالعروج وهو الانعطاف والخروج عن الخط المستقيم، كما يمكن أن يفيد معنى الصعود في خط منعطف، ومن هنا كان وصف رحلة المصطفى صلى الله عليه وسلم في السموات العلا "بالعروج" وسميت الليلة باسم "المعراج" والجمع "معارج" و "معاريج" وحينما ينعطف الضوء الصادر من النجم في مساره إلى الأرض فإن الناظر من الأرض يرى موقعاً للنجم على استقامة بصره، وهو موقع يغاير موقعه الذي صدر منه الضوء، مما يؤكد مرة أخرى أن الإنسان من فوق سطح الأرض لا يمكنه أن يرى النجوم أبداً.
ـ أن النجوم في داخل المجرة الواحدة مرتبطة مع بعضها بالجاذبية المتبادلة بينهما والتي تحكم مواقع النجوم وكتلها، فمع تسليمنا بأن الله تعالى هو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا كما أخبرنا سبحانه بقوله :" إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (فاطر، آية : 41).
ويقول ربنا :" وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحج، آية : 65).
إلا أن الله تعالى له سننه التي يحقق بها مشيئته وهو القادر على أن يقول للشيء " كُنْ فَيَكُونُ" وهو تعالى وضع للكون هذه السنن المتدرجة لكي يستطيع الإنسان فهمها ويتمكن من توظيفها في حسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض، فمواقع النجوم على مسافات تتناسب تناسباً طردياً مع كتلتها، ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقوى الجاذبية التي تمسك بها في تلك المواقع وتحفظ السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن الله ومن هنا كانت قيمة مواقع النجوم التي كانت من وراء هذا القسم القرآني العظيم.
ـ أثبتت دراسات الفلك ودراسات كل من الفيزياء الفلكية والنظرية أن الزمان والمكان شيئان متواصلان ومن هنا كانت مواقع النجوم المترامية الابعاد تعكس أعمارها الموغلة في القدم، والتي تؤكد أن الكون الذي نحيا فيه ليس أزلياً، إذ كانت له بداية يحددها الدارسون باثني عشر بليون من السنين على أقل تقدير ومن هنا كان في القسم بمواقع النجوم إشارة إلى قدم الكون مع حدوثه، وهي حقائق لم يتوصل إليها العلم المكتسب إلا بنهاية القرن العشرين فسبحان الله العليم الحكيم القائل في محكم كتابه :" فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" (الواقعة، آية : 75 ـ 80).

المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (77:70).
* زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي السماء في القرآن الكريم، صفحة (208:201).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022