في سيرة صلاح الدين الأيوبي
الرَّصيد الخلقي لصلاح الدين (1)
الحلقة: الحادية والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
تميزت شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي برصيدٍ أخلاقيٍّ كبير ، ساعده على تحقيق أهدافه العظيمة ، والتي من أهمِّها: الشجاعة ، والكرم ، والوفاء ، والتسامح ، والحلم ، والعدل ، والعفو ، والمروءة ، وشدَّة لجوئه إلى الله ، ومحبته للجهاد ، وصبره ، واحتسابه ، وحرصه على العلم ، والتواضع... إلخ. وإليكم أظهر هذه الصفات ، وأميز هذه الأخلاق:
أولاً: تقواه وعبادته:
قال تعالى: {وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ...} [الأعراف: 96] وتقوى الله، وتحقيق العبودية الشاملة لله تحفظ العبد من كيد الأعداء، ومكرهم. قال تعالى: {وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيًۡٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ ١٢٠} [آل عمران: 120]، ولا شك: أنَّ تقوى الله، وعبادته، والخشية منه، وحسن الظنِّ به، والاعتماد عليه هي أول ما يجب أن يمتاز به المسلم، وأفضل ما ينبغي أن يتصف به؛ لأنَّ ذلك يجعل المسلم أسداً كاسراً ، لا يعرف الهزيمة ، وبطلاً مقداماً ، لا يهاب المنية، وشجاعاً كراراً، لا يخشى جباراً، و لا يهاب عدواً، وهذه السمة من الإيمان، والعبادة قد تحقَّقت في القائد البطل صلاح الدين. وإليكم ما كتبه القاضي بهاء الدين المعروف بابن شدَّاد؛ الذي عاصره ، واجتمع به ، وعرف أخباره ، فحدَّثنا عمَّا رأى:
1 ـ عقيدته:
وكان رحمه الله ـ حسن العقيدة ، كثير الذِّكر لله تعالى ، قد أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم ، وأكابر الفقهاء ، فتحصَّل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التَّشبيه ، غير مارق سهم الظر فيها إلى التَّعطيل ، والتَّمويه ، جارية على نمط الاستقامة ، موافقة لقانون النظر الصحيح ، مرضية عند أكابر العلماء ، وكان ـ رحمه الله ـ قد جمع له الشيخ الإمام قطب الدِّين النَّيسابوري ـ رحمه الله ـ عقيدةً تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب ، وكان من شدَّة حرصه عليها يعلِّمها الصَّغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصَّغر ، ورأيته وهو يأخذ عليهم ، وهم يقرؤونها من حفظهم بين يديه ، رحمه الله!.
2 ـ الصلاة:
وأما الصلاة: فإنَّه ـ رحمه الله ـ كان شديد المواظبة عليها بالجماعة ، حتى إنه ذكر يوماً أنَّ له سنين ما صلَّى إلا جماعة ، وكان إذا مرض يستدعي الإمام وحدَه ويكلِّف نفسه القيام ، ويصلِّي جماعة ، وكان يواظب على السُّنَن الرَّواتب ، وكان له ركعات يصلِّيها إذا استيقظ بوقت في الليل ، وإلا أتى بها قبل صلاة الصُّبح ، وما كان يترك الصَّلاة ما دام عقله عليه ، ولقد رأيته ـ قدَّس الله روحه ـ يصلِّي في مرضه الذي مات فيه قائماً ، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيَّب فيها ذهنُه ، وكان إذا أدركته الصلاة؛ وهو سائر؛ نزل ، وصلَّى.
3 ـ الزكاة:
وأما الزكاة ، فإنه مات ـ رحمه الله تعالى ـ ولم يحفظ ما وجبت به عليه من الزكاة. وأما صدقة النَّفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال ، فإنَّه مَلَك ما ملك ، ومات ولم يخلِّف في خزانته من الذَّهب ، والفضة إلاسبعة وأربعين درهماً ناصريَّةً ، وجُرماً واحداً ذهباً صُورياً ، ولم يخلِّف مُلكاً ، ولا داراً ، ولا عقاراً ، ولا بستاناً، ولا قريةً ، ولا مزرعةً ، ولا شيئاً من أنواع الأملاك ، رحمة الله عليه!.
4 ـ صوم رمضان:
فإنَّه كان عليه منه فوائت بسبب أمراضٍ تواترت عليه في رمضانيات متعدِّدة ، وكان القاضي الفاضل قد تولّى ثبت تلك الأيام ، وشرع ـ رحمه الله ـ في قضاء تلك الفوائت، و ذلك بالقدس الشَّريف في السَّنة التي توفي فيها ، وواظب على الصَّوم مقداراً زائداً على شهر ، فإنَّه كان عليه فوائت رمضانين ، شغلته الأمراض ، ومُلازمة الجهاد عن قضائها ، وكان الصَّوم لا يوافق مزاجه ، فألهمه الله تعالى الصَّوم بقضاء الفوائت ، فكان يصوم ، وأنا أُثبتُ الأيام التي يصومها؛ لأنَّ القاضي كان غائباً ، والطبيب يلومه ، وهو لا يسمع ، ويقول: (لا أعلم ما سيكون) فكأنه كان مُلهماً ببراءة ذمته ـ رحمة الله عليه! ـ ولم يزل حتى قضى ما كان عليه.
5 ـ الحج:
فإنه كان لم يزل عازماً عليه ، وناوياً له ، سيَّما في العام الذي توفي فيه ، فإنَّه صمَّم العزم عليه ، وأمر بالتأهب ، وعُملت الرِّفادة ، ولم يبق إلا المسير ، فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت ، وفراغ اليد عمَّا يليق بأمثاله ، فأخرَّة إلى العام المقبل ، فقضى الله ما قضى ، وهذا شيءٌ اشترك في العلم به الخاصُّ ، والعامُّ.
6 ـ سماعه للقرآن الكريم:
وكان رحمه الله ـ يحبُّ سماع القران العظيم ، حتى إنَّه كان يستخير إمامه ، ويشترط أن يكون عالماً بعلوم القرآن العظيم ، متقناً لحفظه ، وكان يستقرىء من يحضره في الليل ـ وهو في بُرجه ـ الجُزئين ، والثلاثة ، والأربعة، وهو يسمع، وكان يستقريء في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الاية ، والعشرين ، والزائد على ذلك ، ولقد اجتاز على صغيرٍ بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن ، فاستحسن قراءته ، فقرَّبه ، وجعل له حظاً من خاصِّ طعامه ، ووقف عليه وعلى أبيه جُزءاً من مزرعة ، وكان ـ رحمه الله تعالى ـ رقيق القلب ، غزير الدمعة إذا اسمع القران؛ يخشع قلبُه ، وتدمع عينه في معظم أوقاته.
7 ـ سماعه للحديث الشريف:
كان ـ رحمه الله تعالى ـ شديد الرغبة في سماع الحديث ، ومتى سمع عن شيخ ذي روايةٍ عاليةٍ ، وسماع كثير ، فإن كان ممَّن يحضر عنده؛ استحضره ، وسمع عليه ، فأسمع مَنْ يحضره في ذلك المكان من أولاده ، ومماليكه ، والمختصِّين به ، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له؛ وإن كان ذلك الشيخ ممَّن لا يطرق أبواب السَّلاطين ، ويتجافى عن الحضور في مجالسهم؛ سَعَى إليه ، وسمع عليه ، وتردَّد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية ـ حرسها الله تعالى ـ وروى عنه أحاديثَ كثيرةً ، وكان رحمه الله ـ يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يستحضرُني في خلوته ، ويُحضِر شيئاً من كتب الحديث ، ويقرأ هو ، فإذا مرَّ بحديثٍ فيه عبرةٌ؛ رقَّ قلبه ، ودمعت عينه.
8 ـ تعظيمه لشعائر الدِّين:
وكان ـ رحمه الله تعالى ـ كثير التعظيم لشعائر الدِّين ، قائلاً ببعث الأجسام ، ونشورها ، ومجازاة المحسن بالجنَّة، والمسيء بالنار ، ومصدِّقاً بجميع ما وردت به الشرائع ، منشرحاً بذلك صدره ، مبغضاً للفلاسفة ، والمعطِّلة ، والدَّهرية ، ومن يعاند الشَّريعة. ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر بقتل شاب نشءٍ ٍكان يقال له السَّهْرَوَرْدِي ، قيل عنه إنه كان معانداً للشَّرائع ، ومُبطلاً ، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره ، وعرَّف السُّلطان به ، فأمر بقتله ، وصلبه أياماً ، فقتله.
9 ـ حسن ظنـه بالله:
وقال ابن شدَّاد: وكان ـ قدَّس الله روحه ـ حسن الظنِّ بالله ، كثير الاعتماد عليه ، عظيم الإنابة إليه ، ولقد شاهدت من اثار ذلك ما أحكيه: وذلك: أنَّ الفرنج ـ خذلهم الله ـ كانوا نازلين ببيت نوبة ، وهو موضع قريب من القدس الشريف ـ حرسها الله تعالى ـ يكون بينهما بعض مرحلة ، وكان السلطان بالقُدس ، وقد أقام يَزَكاً على العدو محيطاً به ، وقد سير إليهم الجواسيس ، والمُخبرين ، فتواصلت الأخبار بقوَّة عزمهم على الصُّعود إلى القدس ، ومحاصرته ، وترتيب القتال عليه ، واشتدَّ خوف المسلمين بسبب ذلك ، فاستحضر الأمراء ، وعرَّفهم ما قد دهم المسلمين من الشدَّة ، وشاورهم في الإقامة بالقدس ، فأتوا بمجاملة ، باطنُها غيرُ ظاهرها ، وأصرّ الجميع: أنه لا مصلحة في إقامته بنفسه ، فإنَّها مخاطرةٌ بالإسلام؛ وذكروا أنهم يقيمون هم ، ويخرج هو ـ رحمه الله ـ بطائفةٍ من العسكر يكون حول العدوِّ ، كما كان الحال بعكَّا ، ويكون هو ومن معه بصدد منع ميرتهم ، والتضييق عليهم ، ويكونون هم بصدد حفظ البلد ، والدَّفع عنه ، وانفصل مجلس المشورة على ذلك؛ وهو مصرُّ على أن يقيم؛ بنفسه ، علماً منه إن لم يُقم؛ ما يقيم أحد. فلما انصرف الأمراء إلى بيوتهم؛ جاء من عندهم مَنْ أخبر: أنهم لا يقيمون إلا أن يقيم أخوه الملك العادل ، أو أحد أولاده ، حتى يكون هو الحاكم عليهم ، والذين يأتمرون بأمره. فعلم: أنَّ هذه إشارة منهم إلى عدم الإقامة ، وضاق صدره ، وتقسَّم فكره ، واشتدَّت فكرته.
ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة ـ وكان الزمان شتاءً ، وليس معنا ثالث إلا الله تعالى ، ونحن نُقسِّم أقساماً، ونرتَّب على كل قسم مقتضاه ، حتى أخذني الإشفاق عليه ، والخوف على مزاجه ، فإنه كالن يغلب عليه اليُبس، فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه ، لعلَّه ينام ساعة ، فقال رحمه الله ـ: لعلك جاءك النوم؟ ثم نهض ، فما وصلتُ إلى بيتي ، وأخذت لبعض شأني إلا وأذَّن المؤذِّن ، وطلع الصُّبح ، وكنت أصلِّي معه الصبح في معظم الوقت ، فدخلت عليه ، وهو يمرُّ الماء على أطرافه ، فقال: ما أخذني النوم أصلاً ، فقلت: قد علمتُ ، فقال: من أين؟ فقلت: لأني ما نمت ، وما بقي وقت للنَّوم. ثم اشتغلنا بالصلاة ، وجلسنا على ما كنَّا عليه ، فقلت له: قد وقع لي واقع ، وأظنُّه مفيداً إن شاء الله تعالى ، فقال: وما هو؟ فقلت له: الإخلاد إلى الله تعالى ، والإنابة إليه ، والاعتماد في كشف هذه الغُمَّة عليه. فقال: وكيف نصنع؟ فقلت: اليوم الجمعة يغتسل المولى عند الرَّواح ، ويصلي على العادة ، وبالأقصى ، موضع مَسْرى النبي صلى الله عليه وسلم ـ ويقدِّم المولى التصدُّق بشيء خفية على يد من يَثق به ، ويصلِّي المولى ركعتين بين الأذان ، والإقامة ، ويدعو الله في سجوده ، فقد ورد ذلك فيه حديث صحيح ، وتقول في باطنك: يا إلهي ، قد انقطعت أسبابي الأرضية في نُصرة دينك ، ولم يبقَ إلا الإخلاد إليك ، والاعتصام بحبلك ، والاعتماد على فضلك ، أنت حسبي ونعم الوكيل. فإنَّ الله أكرم من أن يخيِّب قصدك!. ففعل ذلك كلَّه ، وصليت إلى جانبه على العادة ، وصلَّى الركعتين بين الأذان ، والإقامة ، ورأيته ساجداً، ودموعه تتقاطر على شيبته ، وعلى سجَّادته ، ولا أسمع ما يقول. فلم ينقض ذلك اليوم حتى وصلت رقعةٌ من عز الدين جُرْديك ـ وكان على اليَزَك ـ يُخبر فيها: أن الفرنج متخبطون ، وقد راكب اليوم عسكرهم بأسره إلى الًُصحراء ،و وقفوا إلى قائم الظَّهيرة ، ثم عادوا إلى خيامهم. وفي بكرة السبت جاءت رقعة ثانية تخبر عنهم بمثل ذلك. ووصل في أثناء النهار جاسوس أخبر: أنهم اختلفوا ، فذهبت الفرنسيسيّة إلى أنهم لا بدَّ لهم من محاصرة القدس ، وذهب الأنكتار ، وأتباعه إلى أنه لا يخاطر بدين النَّصرانية ، ويرميهم في هذا الجبل مع عُدْم المياه ، فإن السُّلطان كان قد أفسد جميع ما حول القدس من المياه ، وأنهم خرجوا للمشورة ، ومن عادتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهر الخيل ، وأنهم قد نصُّوا على عشرة أنفسٍ منهم ، وحكَّموهم ،فبأيِّ شيء أشاروا به لا يخالفونهم ، ولما كانت بُكرة الإثين جاء البشير يُخبر: أنَّهم رحلوا عائدين إلى جهة الرَّملة.
فهذا ما شاهدته من اثار استنابته ، وإخلاده إلى الله تعالى. رحمه الله!.
ثانياً: عدله:
قال تعالى: {۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ} [النحل: 90] ، وأمر الله بفعل كلَّ ما هو معلوم يقتضي وجوبه ، قال تعالى: {۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ
أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ١٣٥} [النساء: 135] .. وقد كانت صفة العدل من أبرز صفات صلاح الدين الأيوبي القيادية ، وكان يؤمن بأنَّ العدل أحد نواميس الله في كونه ، وكان يقينه بأنَّ العدل ثمرةٌ من ثمرات الإيمان ، وكان تعلَّم ذلك من أستاذه الكبير ـ الذي جَدَّد معلم العدل ، وسار عليه صلاح الدين ـ السلطان نور الدين محمود زنكي ، فقد كان صلاح الدين عادلاً ، ناصراً للضعيف على القويٌّ ، وكان يجلس للعدل في كل يوم إثنين ، وخميس في مجلسٍ عام ، يحضره الفقهاء ، والقضاة ، والعلماء ، ويفتح الباب للمتحاكمين؛ حتى يصل إليه كلُّ أحد من كبيرٍ ، وصغير ، وعجوز هرمة ، وشيخ كبير ، وكان يفعل ذلك سفراً ، وحضراً ، على أنَّه كان في جميع أزمانه قابلاً لما يعرض عليه من القصص ، كاشفاً لما ينتهي إليه من المظالم ، وكان يجمع القصص في كلِّ يوم ، ويفتح باب العدل ، ولم يردَّ قاصداً للحوادث، و الحكومات ، ثم يجلس مع الكاتب ساعةً ، إما في الليل ، أو النهار ، ويوقِّع على كل قصَّةٍ بما يُطلق الله على قلبه ، ولم يردَّ قاصداً أبداً ، ولا منتحلاً ، وطالب حاجة ، وهو مع ذلك دائم الذكر ، والمواظبة على التلاوة ، ولقد كان رؤوفاً بالرعيَّة ، ناصراً للدين ، مواظباً على تلاوة القران العزيز ، عالماً بما فيه ، عاملاً به ، لا يعدوه أبداً ، رحمة الله عليه! وما استغاث إليه أحد إلا وقف ، وسمع قضيته ، وكشف ظلامته ، وأخذ قصَّته.
ولقد اشتغاث إليه إنسان من أهل دمشق ، يقال له: ابن زُهير على تقي الدِّين ـ ابن أخيه ـ فأنقذ إليه ليحضره إلى مجلس الحكم ، فما خلَّصه إلا أن أشهد عليه شاهدين معروفين مقبولي القول: أنَّه وكَّل القاضي أبا القاسم أمين الدِّين ـ قاضي حماة ـ في المخاصمة ، والمنازعة ، فحضر الشاهدان ، وأقاما الشَّهادة بعد دعوى الوكيل الوكالة الصَّحيحة ، وإنكار الخصم ، قال القاضي ابن شدَّاد. فلما ثبتت الوكالة؛ أمرت أبا القاسم بمساواة الخصم فساواه ـ وكان من خواص السُّلطان ـ رحمه الله ـ ثم جرت المحاكمة بينهما ، واتجهت اليمين على تقي الدِّين ، وانقضى المجلس على ذلك ، وقطعنا عن إحضاره دخول اللَّيل ، وكان تقي الدِّين من أعز الناس عليه ، وأعظمهم عنده ، ولكنه لم يُحابه في الحق.
وممَّا يدل على عدله: أنه كان يقف بجانب خصمه أمام القضاء دون أن يرى في ذلك جرحاً ، أو غضاضة؛ لأن الحق في نظره أحقُّ أن يتَّبع. وقد حدث أن أدعى تاجرٌ يدعى (عمر الخلاطي) على صلاح الدين: أنَّه أخذ منه أحد مماليكه ، ويدعى «سنقر» واستولى على ما كان لهذا المملوك من ثروةٍ طائلةٍ بدون وجه حقٍّ ، وعندما تقدَّم التاجر المدَّعي بظلامته إلى القاضي ابن شدَّاد. وأظهر صلاح الدين حلماً كبيراً ، ورضي أن يقف موقف الخصم من صاحب الدَّعوى ، وأحضر كلٌّ من الطرفين من لديه من شهود ، وما لديه من أدلَّة يثبت بها رأيه، حتى اتضح في النهاية ـ عند القاضي كذب الرجل، وإدعاؤه الباطل على صلاح الدين، ومع كلِّ هذا رفض صلاح الدين أن يترك المدعي يخرج من عنده خائباً، فأمر له بخلعة، ومبلغ من المال؛ ليدلَّل على كرمه في مواضع المؤاخذة مع القدرة.
ومما يدل على عدله سهره على مصالح الرعية ، وإزالته بعض المكوس ، والضرائب تخفيفاً عن الناس ، ورفعاً للظلم عن كواهلهم ، وقد ذكر ابن جبير من مناقب صلاح الدين ، واثاره التي أبقاها ذكراً جميلاً للدِّين والدنيا: أنَّه أزال كثيراً من المكوس ، والضرائب؛ التي كانت مفروضة على الناس على كلِّ ما يباع ، ويشترى مما دقَّ ، أو جلَّ؛ حتى كان يؤدى على شرب ماء النيل المكس ، فألغى صلاح الدين هذا كلَّه. وقد كانت هناك ضريبةٌ قدرها سبعة دنانير ونصف تفرض على كلِّ حاجٍّ في طريقه إلى الحجاز لتعمير مكة ، والمدينة ، ومساعدة الناس هناك ، وقد اشتطَّ الفاطميون في جمع هذه الضرائب ، ومن يعجز عن دفعها يعذب عذاباً أليماً ، ولكن صلاح الدين ألغى ذلك المكس ، واستعاض عنه معونةً مالية تعادل قيمة ما يؤخذ من الحجاج تدفع كلَّ عامٍ لأهل الحجاز ، وبذلك أراح الحجَّاج من عنت الجباة ، ولا سيما أنَّ نسبةً كبيرة منهم كانوا فقراء، لا يستطيعون دفع ما يؤخذ منهم ، فكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثاً عظيماً ، وخطاباً أليماً.
إنَّ العدل أشرف أوصاف الملك ، وأقوم لدولته؛ لأنه يبعث على الطاعة ، ويدعو إلى الألفة ، وبه تصلح الأعمال ، وتنمي الأموال ، وتنتعش الرعية وتكمل المزيَّة ، وقد ندب الله عزَّ وجلَّ الخلقءْ ليه ، وحثهم عليه.
ثالثاً: شجاعته:
إنَّ الشجاعة من أَحْمَدِ ألأوصاف التي يلزم الملك أن يتصف بها ضرورةً ، وأن تكون له طبعاً ، فيتطبع بها؛ ليحسم بهيبته موادَّ الأطماع المتعلقة بقلوب نظرائه ، ويحصل منه حماية البيضة ، ورعاية المملكة، والذبُّ عن الرعية ، ولقد كان صلاح الدين من عظماء الشُّجعان ، قويَّ النفس ، شديد البأس ، عظيم الثبات ، لا يهوله أمر ، ولقد رأيته ـ رحمه الله ـ مرابطاً في مقابلة عدَّة عظيمة من الفرنج ، ونُجُدُهم تتواصل ، وعساكرهم تتواتر ، وهو لا يزداد إلا قوَّة نفسٍ ، وصبر ، ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيِّف وسبعون مركباً على عكَّا ، وأنا أعدُّها من بعدة صلاة العصر إلى غروب الشمس ، وهو لا يزداد إلا قوَّة نفس. ولقد كان ـ رحمه الله ـ يعطي دستوراً في أوائل ويبقى في شرذمةٍ يسيرةٍ في مقابلة عدَّتهم الكثيرة. يقول ابن شدَّاد: وقد سألت باليان بن بارزان ، وهو من كبار ملوك السَّاحل ـ وهو جالس بين يديه ، رحمه الله! يوم انعقاد الصُّلح ـ عن عِدَّتهم ، فقال الترجمان عنه: إنه يقول: كنتُ وصاحب صَيْدا ـ وكان أيضاً من ملوكهم ، وعقلائهم ـ قاصدين عسكرنا من صُوْر ، فلمَّا أشرفنا عليه؛ تحازرناه ، فحزره هو بخمسمئة ألف ، وحرزتهم أنا بستمئة ألف ، أو قال عكس ذلك ، فقلتُ: فكم هلك منهم؟ فقال: أما بالقتل؛ فقريب من مئة ألف ، وأما بالموت ، والغرق؛ فلا نعلم ، وما رجع من هذا العالم إلا الأقل.
وكان لا بدَّ له من أن يطوف حول العدوِّ في كل يوم مرَّةً ، أو مرَّتين؛ إذا كنا قريباً منهم ، وكان صلاح الدين إذا اشتدَّ الحرب يطوف بين الصَّفين؛ ومعه صبيٌّ واحد ، وعلى يده جنيب ، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ، ويرتَّب الأطلاب ، ويأمرهم بالتقدُّم ، والوقوف في مواضع يراها ، وكان يشارف العدوَّ ، ويجاوره. قال ابن شدَّاد: ولقد قرىء عليه جزء من الحديث بين الصَّفين ، وذلك أني قلت له: قد سُمِع الحديث في جميع المواطن الشَّريفة ، ولم يُنْقل أنَّه سُمِع بين الصفَّين ، فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسناً. فأذن في ذلك، فأُحضر جزءٌ، وهناك أحضر من له به سماع، فقُرىء عليه، ونحن على ظهور الدَّواب بين الصفَّين ، ونمشي تارةً ، ونقف أخرى. وما رأيتُه استكثر العدو أصلاً ، ولا استعظم أمرهم قطُّ ، وكان مع ذلك في حال الفكر ، والتدبير تُذكر بين يديه الأقسام كلُّها، ويرتِّب على كلِّ قسمٍ مقتضاه من غير حدَّةٍ، ولا غضب يعتريه، رحمه الله!.
ولقد انهزم المسلمون في يوم المصافِّ الأكبر بمرج عكَّا؛ حتى القلب ، ورجاله ، ووقع الكُوس والعَلَموهو ـ رضي الله عنه ـ ثابت القدم في نفرٍ يسير ، قد انحاز إلى الجبل يجمع الناس ، ويردُّهم ، ويخجِّلهم حتى يرجعوا ، ولم يزل كذلك حتى نُصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم ، وقتل منهم زهاء سبعة الاف ما بين راجلٍ ، وفارس، ولم يزل مصابراً لهم ، وهم في العدَّة الوافرة ، إلى أن ظهر له ضعفُ المسلمين ، فصالح ، وهو مسؤول من جانبهم ، فإنَّ الضَّعف والهلاك كان فيهم أكثر ، ولكنَّهم كانوا يتوقَّعون النُّجد ، ونحن لا نتوقعها. وكانت المصلحة في الصُّلح ، وظهر ذلك لما أبدت الأقضية ، والأقدار ما كان في مكنونها.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf