الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

كثرة ذكر الأنبياء لله عز وجل، وشدة تضرّعهم ودعائهم له سبحانه مع قوة عبادتهم

الحلقة: السادسة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020

أ ـ تضرّعهم إلى الله وسؤاله قضاء حوائجهم:
قال تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ *وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الأنبياء: 83 ـ 90].
فقد جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ، ووجود طعم المحبة في التملّق له ، والإقرار له بصفة الرحمة ، وأنّه أرحم الراحمين ، والتوسل إليه بصفاته سبحانه ، وشدّة حاجته هو وفقره ، ومتى وجد المبتلَى هذا كُشِفَتْ عنه بلواه.
وفي قوله تعالى: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ *} ، أي: إنّ في صبرِ أيوب عليه السلام ودعائه عبرةً للعابدين من بعده ، ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه ، وفي هذه الايات أيضاً ذكر إسماعيل ، وإدريس ، وذا الكفل ، وأنهم من الصابرين ، وأنّ الله عزّ وجلّ جازاهم بأنْ أدخلهم في الصالحين.
فهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد وصفهم الله بالصبر ، فدلَّ على أنّهم وفّوها حقها ، وقاموا بها كما ينبغي ، ووصفهم أيضاً بالصلاح ، وهو يشمل صلاح القلب بمعرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه كل وقت ، وصلاح اللسان ، بأن يكون رطباً من ذكر الله ، وصلاح الجوارح باشتغالها بطاعة الله ، وكفِّها عن المعاصي ، فبصبرِهم وصلاحِهم أدخلهم الله في رحمته ، وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين ، وأثابهم الثوابَ العاجِلَ والاجل ، ولو لم يكن من ثوابهم إلا أن الله تعالى نوَّه بذكرهم في العالمين ، وجعل لهم لسانَ صدقٍ في الاخرين ، لكفى بذلك شرفاً وفضلاً.
وفي قوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *} [الانبياء : 87] ، قال ابن القيم: فإنّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه
للربّ تعالى ، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ، ما هو من أبلغ أدوية الكربِ والهمِّ والغمِّ ، وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج ، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثباتَ كلِّ كمال لله ، وسلبَ كل نقصٍ وعيبٍ ، والاعترافُ بالظلم يتضمّنُ إيمانَ العبد بالشرع والثوابِ والعقابِ ، ويوجِبُ انكساره ، ورجوعه إلى الله ، وإقالة عثرته ، والاعتراف بعبوديته ، وافتقاره إلى ربه ، فهاهنا أربعةُ أمورٍ قد وقع التوسل بها: التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف.
وقد وصف الله سبحانه: نبيّه يونس عليه السلام بأنّه كان من المسبّحين في وقت الرخاء ، فقال تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ *لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *} [الصافات : 143 ـ 144]. وفي قوله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ *} في وقته السابق بكثرة عبادته لربه ، وتسبيحه ، وتحميده وفي بطن الحوت.
هذا هو أدبُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في كثرة ذكر الله عزّ وجلّ وتسبيحهم في الرخاء والشدة ، وفي كلِّ حينٍ ، مع دعائهم لربهم ، واعترافهم بظلمهم لأنفسهم.
ويبقى في الايات السابقة وصفُ زكريا ويحيى عليهما السلام بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الانبياء : 90]. وفي قوله: أي: يبادرون {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة ، ويكمّلونها على الوجهِ اللائق الذي ينبغي ، ولا يتركون فضيلةً يقدرون عليها إلا انتهزوا الفرصةَ فيها أي: يسألوننا الأمور المرغوبَ فيها من مصالح الدنيا {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} ، ويتعوّذون بنا من الأمور المرهوبِ منها من مضارّ الدارين ، وهم راغبون لا غافلون راهبون. و أي: خاضعين {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *}، متضرّعين ، وهذا لكمال معرفتهم بربهم.هذه صلة الأنبياء بربهم: ذكر ، وتسبيح ودعاء.
ب ـ خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله عز وجل:
فبعد أن ذكر الله عز وجل مجموعةً من الأنبياء في سورة مريم ، أثنى عليهم بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا *} [مريم: 58].
فهذه خيرُ بيوت العالم ، اصطفاهم الله ، واختارهم ، واجتباهم ، وكان لهم عند تلاوةِ ايات الرحمن عليهم المتضمّنة للأخبارِ بالغيوب ، وصفات علام الغيوبِ ، والإخبار باليوم الاخر ، والوعد والوعيد. أي: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا *} لايات الله ، وخشعوا لها ، وأثّرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة ما أوجبَ لهم البكاءَ والإنابة والسجودَ لربهم ، ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا ايات الله: وفي إضافة الايات إلى اسمه (الرحمن) دلالةٌ على أنَّ اياته من رحمته بعباده وإحسانه {يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَاناً *} ، حيث هداهم بها إلى الحقِّ ، وبصّرهم من العمى ، وأنقذهم من الضلالةِ ، وعلّمهم من الجهالة.
ج ـ دعاؤهم عليهم الصلاة والسلام ربّهم بالثبات على الحق ، والموت على التوحيد والإسلام:
من ذلك قول الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ *} [ابراهيم : 35]. وقوله تعالى عن دعائه الاخر أيضاً: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *} وقوله تعالى عنه أيضاً: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا}[الممتحنة: 5].
وقوله تعالى عن موسى عليه السلام عندما أخذت قومَه الرجفةُ قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الاعراف : 155 ـ 156].
وقوله تعالى: عن سليمان عليه السلام أنه قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ *} [النمل : 19].
وقوله تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *} [يوسف: 101].
ومن دعاء يوسف عليه السلام: ينبغي للعبد أن يتضرّعَ إلى الله دائماً في تثبيت إيمانه ، ويعمل الأسباب لذلك: يسأل الله حسن الخاتمة ، وتمام النعمة ، ويتوسَّلُ بنعمه الحاصلة إلى ربه أن يتمّها عليه ، ويحسن له العاقبة ، وليس هذا من (يوسف) تمنياً للموت ـ كما ظنَّ بعضُهم ـ بل هو دعاءُ اللهِ أن يُحْسِنَ خاتمته ، ويتوفّاه على الإسلام. كما يسأل العبدُ ربَّه ذلك كلَّ وقت.
وقد جمعت هذه الدعوةُ الإقرارَ إليه ، والبراءةَ من موالاةِ غيرِ الله سبحانه ، وكون الوفاةِ على الإسلام أجلُّ غايات العبدِ ، وأنّ ذلك بيدِ الله ، لا بيدِ العبدِ ، والاعترافِ بالمعاد ، وطلبِ مرافقة السعداء.
د ـ القوة في طاعة الله وعبادته:
قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ *} [ص : 45].
ومعنى قال: أولو القوّة في {أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ *} ، والعلم بأمرِ اللهِ. وروي عن قتادة قال: أُعطُوا قوةً في العبادةِ ، وبَصَراً في الدّين.
والشواهد في ذكر عبادةِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرةٌ منها:
قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ *} [ابراهيم : 40].
وقوله تعالى في مدح إسماعيلَ عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا *} [مريم : 55].
وقوله تعالى في مدح إسحاق ويعقوب عليهما السلام: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ *} [الانبياء : 73].
وقوله تعالى: في وصف عبادة داود عليه السلام وإنابته ، وكثرة تسبيحه وخشوعه حتى إنّ الجبالَ والطيرَ تردِّدُ معه: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ *إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ *وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ *} [ص : 17 ـ 19].
ووصف نوبته بقوله سبحانه: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *} [ص : 24].
وقد وصف لنا الرسولُ صلى الله عليه وسلم جانباً من كثرة عبادة داود عليه السلام ، وقوّته فيها ، فقال: «أحبُّ الصلاةِ إلى الله صلاةُ داودَ ، وأحبُّ الصيامِ إلى الله صيامُ داود ، كان ينامُ نصفَ الليل ، ويقومُ ثلثه ، وينامُ سدسَه ، وكان يصومُ يوماً ، ويفطِرُ يوماً ، ولا يفرُّ إذا لاقى».
وأمّا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكثرةِ عبادتِه ، وقوّته فيها ، فهي كثيرةٌ جداً ، ولا غرابةَ في ذلك ، فهو الذي امتلأ قلبُه معرفةً بربّه سبحانه ، وحبّاً وتعظيماً له ، وهو الذي قال له ربُّه عزّ وجلّ: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً *} [المزمل : 1 ـ 4].
وهو الذي قال له ربه عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً *} [الإنسان : 26]. وقال له: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا *} [مريم : 65].
ومن أحواله صلى الله عليه وسلم في عبادته وقوته فيها:
* عن حذيفة رضي الله عنه قال: صلّيتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ ، فافتتحَ البقرةَ ، فقلتُ: يركَعُ عند المئةِ ، ثم مضى ، فقلتُ يصلّي بها في الركعةِ ، فمضى ، فقلت:
يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح ال عمران ، فقرأها ، يقرأ مسترسلاً ، إذا مرَّ بايةٍ فيها تسبيحٌ سبّحَ ، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل ، وإذا مرَّ بتعوّذ تعوّذ ، ثم ركع ، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم» فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» زاد في روايةٍ: «ربنا لك الحمد» ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع ، ثم سجدَ فقال: «سبحان ربي الأعلى» فكان سجودُه قريباً من قيامه.

* وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى تورّمت قدماه ، فقيل له: قد غفرَ اللهُ لكَ ما تقدّمَ من ذنبك وما تأخر ، قال: «أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟!».

يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022