الأصل في العقاب المماثلة
الحلقة: التاسعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020م
إن الوعيد والعقاب الإلهي مبني على العدل الإلهي، بحيث تكون العقوبة مكافئة للذنب الواقع ولذلك يصرّح القرآن بقوله:"وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا" (الشورى: 40) . وقال تعالى:"الشهرُ الحرام بِالشهرِ الحرامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" (البقرة: 194) . وقال تعالى:"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ" (النحل: 126).
بل قد يتجاوز الله بمشيئته عمن أساء يقول سبحانه:"وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (الشورى: 30) .
ويحرّض الله الناس على الصفح عمن ظلمهم أو أساء إليهم، فهو يسرّع لهم القصاص والمعاملة بالمثل ولكنه في الوقت يدعو إلى العفو والصفح ويوكل أجر فاعلهما عليه سبحانه، زيادة في الإغراء وحثاً على التسامح، فيقول تعالى:"وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" (الشورى: 40) . وقال تعالى:"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ" (النحل: 126)
والحاصل أن عقاب الله العبد يكون على قدر ذنبه وما أرتكبه، ولذلك ألمحت بعض الآيات بأن جزاء العقوبة هو ما كان يقترفه العبد، قال تعالى:"هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأعراف: 147) .
وبلفظ الخطاب ورد قوله تعالى:"إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النمل: 90) . وقوله:"وَمَاتُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الصافات: 39) .
وأما في جانب الوعد والثواب فيعامل الله عباده بالفضل والزيادة وإن كانت من جنس العمل الذي فعله العبد، يقول تعالى:"وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ" (محمد: 17) . وقال تعالى:"لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ" (إبراهيم: 7) . وقال تعالى:"فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ" (النساء ، آي : 173) .
والقرآن الكريم حافل بالتطبيقات المتنوعة على سنة الجزاء بجنس العمل، ولكن قبل الشروع في هذه النماذج نعرض للآيات القرآنية التي تعد حقائق أصيلة لهذه السنة، ومن الأمثلة على ذلك:
1 ـ قوله تعالى: " يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم"(يونس : 23) . فالمراد بالبغي هنا ما كان على النفس خاصة بإيرادها موارد التهلكة والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية، وقد يراد به ـ أيضاً ـ البغي على الناس، فالناس نفس واحدة، على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة والخطاب بـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ" يفيد العموم فيدخل فيه المخاطبون وغيرهم، وفي الآية ذم للبغي في أوجز لفظ، ومعنى "عَلَى أَنفُسِكُم" أي وبال البغي عليكم ولا يجنى ثمرته إلا أنتم .وقد دلت الآية على أن البغي يجازى صاحبه عليه في الدنيا والآخرة .
فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنزال أهله الرجوع إلى الله، وإنباؤه إياهم بما كانوا يعملونه وذلك في قوله تعالى في عجز الآية نفسها: "ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"، والمراد بالإنذار هنا لازمه وهو الجزاء.
وأما الدنيا فالشاهد الذي ذكرناه "إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم" ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم .
يقول محمد رشيد رضا: فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة، وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجز، فكيف إذا قدروا وفعلوا الغالب؟ وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب فأهون عقوبته عداوتهم والطعن عليهم، وقد تفضي إلى إغتيال أشخاصهم، أو إلى شل عروشهم والقضاء على حكمهم، إما بثورة من الشعب تستبدل بها عرشاً بعرض، أو نوعاً من الكم بنوع آخر، وإما بإغارة دولة قوية على الدولة التي يضعفها البغي، تسلبها إستقلالها وتستولي على بلادها . وتلك هي عدالة الله في تحقيق قانونه في الخلق وجزائهم بجنس ما يعملون .
2 ـ قال تعالى: "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر : 43) . "اسْتِكْبَارً افِي الْأَرْضِ" إي استكبروا عن اتباع آيات الله "وَمَكْرَ السَّيِّئِ"، أي: ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله. "وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"، أي: وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم . فمن سنن الله ونواميسه في خلقه "لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"
ولهذا قيل: وما ظالم إلا سيُبلى بظالم.
وقال الشاعر:
لكل شئ آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المُبردُ
فما يصيب مكرهم السيء أحداً إلا أنفسهم وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا ينتظرون إذن؟
إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم وهو معروف لهم وتمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد "فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر : 43) .
3 ـ قال تعالى: "فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ" (الفتح : 10) .
ما من بيعة بين الله وعبد من عباده إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله والله هو الغني عن العالمين، وبالمقابل فإن العبد هو الخاسر حتى ينكث وينقض عهده مع الله، فيتعرض لغضبه وعقابه على النكث الذي يكرهه ويمقته، فالله يحب الوفاء والأوفياء .
وقال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينجح حتى ينزل به: من مكر أو بغي، أو نكث، وتصديقها في كتاب الله تعالى: "لَايَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"(فاطر : 43).
"إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم"(يونس: 23) "فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ" (الفتح : 10) .
تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf