(محمد البشير الإبراهيمي وإعداد جيل الشباب)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 219
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
إن الشباب هم الرأسمال البشري، صاحب الدور المتميِّز في الأمَّة، والشباب يحتاج لإعداد خاص يؤهلهم باتجاه ما تنتظره أمَّتهم منهم، وهذا يتطلب التهذيب الأخلاقي، والتزوّد بالعلوم، والتمرين على دور نافع في مسار الأمة الحضاري. والأمَّة التي تهمل شبابها تكون قد فرَّطت بالعناصر الأَولى بالعناية، وهذا يهدِّد مستقبلها.
لقد وجَّه الإبراهيمي إلى هذا قائلاً: إن الأمَّة الرشيدة هي التي تحرس شبّانها في طور الشباب من الافات التي تصاحب هذا الطور، طور له ما بعده من زيغ أو استقامة، وتحافظ على أهوائهم أن تتجه اتجاهاً غير محمود، وتحافظ على عقولهم أن تعلق بها الخيالات، فتنشأ عليها، ويعسر أو يتعذَّر رجوعهم عنها، وتحافظ على ميولهم وعواطفهم أن تطغى عليها الغرائز الحيوانية، لأن هذا الطور هو طوار تنبُّهها ويقظتها.
إنها قراءة موضوعية لمرحلة الشباب واستعداداته، تحتاج العناية الكافية كي يصل الشاب إلى برِّ الأمان، وشبابنا في تصارع الأنواء، وهياج عواطف المغريات، يحتاج أوَّل ما يحتاج إلى الالتزام الديني، والالتزام القومي العربي الذي يعني الالتزام بالقيم الناظمة للمسار الحضاري للأمَّة، فهذا هو العامل الحاسم في تكوين شخصية الشاب المحصَّن، ضد ما ينشره الأعداء والخصوم من مفاسد، تبعث نوازع المادة على حساب القيم والضوابط والفضائل. وينبِّه الإبراهيمي إلى هذا في قوله: إذا أحبَّ الشباب دينه وفضائل دينه ولغته وأسرار لغته، أحبَّ العرب جميعاً، وأصبح في نفسه دافع إلى الاجتماع في الدين والعروبة.
إن التوجيهات الانفة الذكر بشأن الشبان تتحقَّق بالرتبية، التي تتدرج في إعطاء التلامذة الجرعات التي ترتقي بالطلاب، ليكونوا شباب اليوم المستقيم ورجال الغد المأمول، بناء على ذلك اعتنى الإبراهيمي بالمنهاج والمقررات في هيكلية التعليم العربي في الجزائر الذي يقاوم مفاعيل التعليم الاستعماري، لأنه لكل منهج فلسفته ومنطلقاته، وما يكون في المناهج في الدورة الحضارية الإسلامية والعربية، هو حكماً غير تلك التي تكون في الدورة الحضارية الغربية، لذلك يكون الاستيراد خطيراً، كما أن التسليم بقيم التربية غير النابعة من هويَّة الأمة خطر داهم، هذا بالإضافة إلى الخطر الذي يتولَّد عن الانبهار بما عند غيرنا، لأن استيراد منتجات التقنية والالات مع الانفتاح على تجارب الشعوب أمر مقبول، أمَّا تسليم أجيالنا لمناهج تربوية غير أصيلة فيتهدَّدُ شبابنا وأجيالنا.
إنَّ المرحلة الأولى من التعليم عند الإبراهيمي تستغرق ستَّ سنوات، ومن تجاوز المرحلة الابتدائية هذه: يصبح صحيح التأدية للقراءة، طيِّع اليد والقلم بالكتابة، محصِّلاً لمبادأئ الدين الإسلامي علماً وعملاً، ولمبادأئ التاريخ الإسلامي الذي هو جزء من الدين، وأول تلك المبادأئ: السيرة النبوية،ءْءْ وسيرة الخلفاء الراشدين، وذوي الاثار الخالدة من الصحابة والتابعين، فإن انقطع عن التعليم استطاع بمعونة حظه من العربية أن يبلغ ما شاء بالدراسة والمطالعة، لأنه يقرأ قراءة صحيحة ويفهم فهماً صحيحاً، وخرج على الحالين برأس مال عظيم من دينه وفضائل دينه، وقوميته ولغته وتاريخه، ونتيجة هذا أن يكون عضواً حقيقياً من أمَّته، صالحاً للحياة لها وبها ومعها.
ويكمل الإبراهيمي فيقول: إنَّ مراحل التعليم الابتدائي هي ـ بالأصول ـ مراحل التكوين الأولى للناشئة، وعلى أساسها يُبْنى مستقبلها في الحياة، فإن كان هذا التكوين صالحاً كانوا صالحين لأمتهم ولأنفسهم، وإن ناقصاً مختلاً زائفاً بنيت حياة الجيل كله على فساد، وساءت اثاره في الأمَّة.
إن مناهج التعليم الابتدائي ـ كما حدَّدها الإبراهيمي ـ تشكِّل ثوابت لا غنى عنها في تكوين شخصية الشاب الجزائري والعربي عموماً، كي يتأهل بعدها لاستكمال مراحل الدراسة أو كي يخرج إلى الحياة وإلى سوق العمل، ومع العمل يستطيع، بناء لهذا الزَّاد الذي تناوله في وجبة التعليم الابتدائي، يستطيع أن يواصل تحصيل المعارف بواسطة المطالعة وتمحيص الكتب، كي يرتفع بنيان علومه لبنة بعد أخرى.
والمرحلة التأسيسية يتوزَّع فيها التحصيل فيما يلي:
ـ إتقان العربية قراءة وكتابة.
ـ مبادأئ الدين الإسلامي وأساساته التي لا تتقوَّم الشخصية إلا بها.
ـ الاطلاع على السيرة النبوية الشريفة وسيرة الصحابة والسلف، فذلك يشكل موطن نظام القدوة الحسنة التربوي للناشئة.
ـ تحصيل العلم بالتاريخ العربي الإسلامي، ففيه العبر والدروس، ويحمل التراث، وينقل الخبرات إلى الأجيال، ويحقق التواصل، وكما قيل: التاريخ ذاكرة الأمم والشعوب.
ـ ما سبق ذكره من العلوم يثبِّت الانتماء، ويربط الشباب مع هويته، ويؤصِّل تكوينه ديناً وقوميَّة ووطنية، وهذا هو منطلق جمعية العلماء الذي حدَّدته بالإسلام، والعروبة، والوطنية الجزائرية.
والشباب يحتاج مؤسسات الرعاية، ومواضع إبراز المواهب، وعند هذا لا يلبي المسجد بمفرده هذه الحاجة رغم أفضلية موقعه في فرائض المسلم، وارتباطه بالإسلام، فالمعلوم أن الشباب لهم هوايات وعواطف وانفعالات، وأوقات فراغ، وحاجات للتسلية وصرف الطاقات، لهذا عملت الجمعية، وفي قلبها الإبراهيمي، على تأسيس الأندية، فكما المسجد حاجة مسيسة للشيوخ وكبار السن، والحضانات والمدارس حاجة للأطفال والفتيان ؛ فإن الأندية حصن حصين للشباب إن قامت على التقوى، وسادتها القيم السامية، والأنماط الأخلاقية الفاضلة، هذا مع توفير ما يطلبه الشباب.
قال الإبراهيمي عن الأندية الشبابية: أنشأت الجمعية في مدَّة قصيرة عشرات النوادي في المدن والقرى، ودعت إليها الشبّان فاستجابوا وأقبلوا عليها لأنَّها أقرب إلى أمزجتهم، ولأن فيها شيئاً من التسلية والمرح، ولأن فيها قليلاً من جوّ المقهى.. وفي ظلِّ هذه الجواذب التقت الجمعية بالشبان، وقامت بحق الله فيهم، فنظمت لهم فيها محاضرات تهذب بها أخلاقهم، وتعرِّفهم بأنفسهم وقيمتهم ومنزلتهم في الأمَّة، وتجمع قوتهم، ودروساً تعلمهم بها دينهم ولغتهم وتاريخهم، فكان لمشروع النوادي اثار من الشباب تساوي اثار المدرسة في الأطفال، وتفوق اثار المساجد في الشيوخ والكهول.
إنَّ نوادي جمعية العلماء التي يشير إليها الإبراهيمي تشكِّل ضرورة تربوية، وفقدانها أو عدم وجودها سيخلف مشكلة، والمتفحِّص لشوارع المدن في الوطن العربي وسواه ؛ يعرف أهمية ما قررَّته جمعية العلماء، حيث نجد مقاهي شبكة المعلومات الدولية، وأماكن تسلية أخرى تعجُّ بالمفاسد وبعوامل الانحدار والانحراف، ولو أقامت الحكومات والمؤسسات الأهلية أندية كما فعلت جمعية العلماء لكانت أدَّت للشباب حقوقه، وعصمته من الزلل والانحرافات، التي تدفع الأوطان والأسر الثمن غالياً عندما يجنح الأحداث أو الشباب.
ولكن الإبراهيمي يكمل توجيهاته الحكيمة للشباب، حتى يدعوهم إلى الوسطية والاعتدال والابتعاد عن الغلو، ونجده يوجِّههم إلى تخصيص قدر من الوقت لكل نشاط بدني أو فكري بعد إتمام الواجبات المناطة بالفرد، ويقول للشباب: لا تقطعوا الفاضل من أوقاتكم في ذرع الأزقة إلا بمقدار ما تستعيدون به النشاط البدني، ولا في الجلوس في المقاهي إلا بقدر ما تدفعون به الملل والركود، ولا في قراءة الجرائد إلا بقدر ما تطّلعون به على الحوادث الكبرى.. خذوا من كل ذلك بمقدار، ووفروا الوقت كله للدرس النافع والمطالعة المثمرة.
إنَّ حاجات الشباب متنوعة خارج إطار العمل أو الدراسة، ولا بأس أن يخفف الشباب عن نفسه، ويروِّح في وقت بعد اخر، وضمن الحدود المقبولة، وقد أرشد إلى ذلك الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه: «روِّحوا عن النفس ساعة فساعة».
والإبراهيمي الذي امن بضرورة السعي لتحصيل المعارف عمل بشكل مستمر التزاماً بالقول المأثور: «اطلب العلم من المهد إلى اللحد». وهذا التحصيل لا يكون في قاعات المدارس والمعاهد والجامعات، وإنما له مصدر اخر أولى بالاعتماد من قبل الشباب، هذا المصدر هو المطالعة. ويشخِّص الإبراهيمي الدَّاء ويصف العلاج، فيقول: إنَّ شبابنا المتعلِّم كسول عن المطالعة، والمطالعة نصف العلم أو ثلثاه، فأوصيكم يا شباب الخير بإدمان المطالعة والإكباب عليها، ولتكن مطالعتكم بالنظام، حرصاً على الوقت أن يضيغ في غير طائل، وإذا كنتم تريدون الكمال فهذه إحدى سبل الكمال.
تأسيساً على ما تقدَّم نخلص إلى أن الإبراهيمي يحدِّد القواعد لإعداد الجيل بما يلي:
ـ الإعداد السليم من جهة الالتزام الديني.
ـ المناهج التعليمية التي تسهم في تكوين شخصية الناشئة مع التحصين من الزيغ والأهواء والمغريات.
ـ توفير الرعاية الدائمة للشباب بعد الخروج إلى سوق العمل أو قبله، وهذا يحتاج إلى المرافق العامة التي توفِّر له فرص الترويح عن النفس، وقضاء أوقات الفراغ بما هو مفيد، وبما يبعده عن شواطأئ الخطر، ومنزلقات الفساد.
ـ تنبيه المواهب والمعارف بالمطالعة ومتابعة البحث، لأن التحصيل والاكتساب من الأمور التي يحتاجها الفرد من المهد إلى اللحد.
ـ تفعيل العمل المؤسسي الأهلي، كي توظف من خلاله الطاقات المتطوعة من أجل الصالح العام، وفي رحابه يتم صقل شخصية الفرد، وتتم رعاية مواهبه، وتنمية ملكاته كي تتفتَّح له سبل الإبداع والعطاء دون حواجز أو معوقات.
إن الإمام محمد البشير الإبراهيمي يرى أن: الشباب في كل أمَّة هم الدم الجديد الضامن لحياتها واستمرار وجودها، وهم الامتداد الصحيح لتاريخها، وهم الورثة الحافظون لماثرها، وهم المصحِّحون لأغلاطها وأوضاعها المنحرفة، وهم الحاملون لخصائصها إلى من بعدهم من الأجيال.
وقال الإبراهيمي منادياً الشباب: يا شباب الإسلام!. وصيَّتي إليكم أن تتَّصلوا بالله تديناً، وبنبيكم اتباعاً، وبالإسلام عملاً، وبتاريخ أجدادكم اطلاعاً، وباداب دينكم تخلقاً، وباداب لغتكم استعمالاً، وبإخوانكم في الإسلام ولداتكم في الشبيبة اعتناءً واهتماماً، فإن فعلتم حزتم في الحياة الحظ الجليل ومن ثواب الله الأجر الجزيل.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: