(رأي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في العلماء السابقين)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 221
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
كان كل واحد منهم يرى أنه مستحفظ على كتاب الله ومؤتمن علىسنَّة رسوله، في العمل بها وتبليغها كما هي، وحارس لهما أن يحرفهما الغالون أو يزيغ بهما عن حقيقتهما المبطلون، أو يعبث بهما المبتدعة، فكل واحد حذر أن يؤتى الإسلام من قبله، فهو ـ لذلك ـ يقظ الضمير، متأجج الشعور، مضبوط الأنفاس، دقيق الوزن، مرهف الحس، متتبع لما يأتي الناس وما يذرون من قول وعمل، سريع الاستجابة للحق إذا دعا إليه داعيه، وإلى نجدته إذا ريع سربه أو طرق بالسر حماه.
وكانوا يأخذون أنفسهم بالفزع لحرب الباطل لأول ما تنجم ناجمته، فلا يهدأ لهم خاطر حتى يوسعوه إبطالاً ومحواً، ولا يسكتون عليه حتى يستشري شرَّه ويستفحل أمره، فتستغلظ جذوره، ويتبوَّأ من نفوس العامة مكاناً مطمئناً.
وكانوا يذكرون دائماً عهد الله، وأنه أخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، وأن الحق هو ما جاء به محمد عن ربه لهداية البشر وصلاح حالهم، وكانوا يزنون أنفسهم دائماً بميزان الكتاب والسنة، فما وجدوا من زيغ أو عوج قوَّموه في الحال بالرجوع والإنابة، كما يفعل المفتونون بالجسمانيات في عصرنا هذا في وزن أبدانهم كل شهر.
وكان العلماء يردُّون كلَّ ما اختلفوا فيه من كل شيء إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى قول فلان، ورأي فلان، فإذا هم متِّفقون على الحق الذي لا يتعدد، ولقد أنكر الإمام مالك على ابن مهدي ـ وهو قرينه في العلم والإمامة ـ عزمه على الإحرام من المسجد النبوي، فقال ابن مهدي: إنما هي بضعة أميال أزيدها. فقال مالك: أو ما قرأت قوله تعالى:{فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣} [سورة النور:63] ؟
وأية فتنة أعظم من أن تسوِّل لك نفسك أنك جئت بأكمل مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كلاماً هذا معناه.. ثم تلا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وقال كلمته الجامعة التي كان عليها لالاء الوحي، وهي قوله: «فما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم بدين».
وكانوا يحكمون دينهم في عقولهم، ويحكمون عقولهم في ألسنتهم، فلا تصدر الألسنة إلا بعد مؤامرة العقل، ويعدون العقل مع النص أداة للفهم معزولة عن التصرُّف، ومع المجملات ميزاناً للترجيح، يدخل في حسابه المصلحة والضرورة والزمان والمكان والحال، ويميز بين الخير والشر، وبين خير الخيرين، وشر الشر الشرّين، لذلك غلب صوابهم على خطئهم في الفهم والاجتهاد، ولذلك أصبحت فهومهم للدين وسائل للوصول إلى الحق، واراؤهم في الدنيا موازين للمصلحة، وما هم بالمعصومين، ولكنهم لوقوفهم عند الحدود وارتياض نفوسهم على إيثار رضى الله، وشعورهم بثقل عهده، وفّقهم الله لإصابة الصواب.
وكانوا يزنون الشدائد التي تصيبهم في الطريق إلى إقامة دين الله بأجرها عنده، ومثوبتها في الدار الاخرة، لا بما يفوتهم من أعراض الدنيا وسلامة البدن وخفض العيش وراحة البال، فكل ما أصابهم من ذلك يعدُّونه طريقاً إلى الجنة ووسيلة إلى إرضاء الله، وكانوا ملوكاً على الملوك، واقفين لهم بالمرصاد، لا يقرونهم على باطل ولا منكر، ولا يسكتون لهم على مخالفة صريحة للدين، ولا يتساهلون معهم في حق الله، ولا يترضونهم فيما يسخط الله.
بتلك الخلال التي دللنا القارئ عليها، باللمحة المنبِّهة، قادوا الأمَّة المحمَّدية إلى سعادة الدنيا وسعادة الاخرة، وبسير الأمراء المصلحين على هداهم سادوا أغلب الجزء المعمور من هذه الأرض بالعدل والإحسان، إذ كان الأمير في السلم لا يصدر إلا عن رأيهم، والقائد في الحرب لا يسكن ولا يحرِّك إلا بإشارتهم في كل ما يرجع إلى الدين، فجماع أمر العلماء إذ ذاك أنهم كانوا «يقودون القادة».
ما رفعهم إلى تلك المنزلة بعد العلم والإخلاص، إلا أنهم كانوا «حاضرين» غير «غائبين»، كانوا يحضرون مجالس الرأي مبشرين شاهدين، وميادين الحرب مغيرين مجاهدين، طبعهم الإسلام على الشجاعة بقسميها: شجاعة الرأي وشجاعة اللقاء، فكانوا يلقون الرأي شجاعاً فيقهر الاراء، ويخوضون الميادين شجعاناً فيقهرون الأعداء. وللاراء اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي، كما للأناسي اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي، والعالم الجبان في أمة عضو أشلّ، يؤود ولا يذود، ولعمري إن في اتحاد صف الصلاة وصف القتال، في الاسم والاتجاه والشرائط لموقف عبرة للمتوسمين.
صدق أولئك العلماء ما عاهدوا الله عليه، وفهموا الجهاد الواسع، فجاهدوا في جميع ميادينه، فوضع الله القبول في كلامهم عند الخاصة والعامة، وإن القبول جزاء من الله على الإخلاص، يعجله لعباده المخلصين، وهو السر الإلهي في نفع العالم والانتفاع به، وهو السائق الذي يَدُعُّ النفوس المدبرة عن الحق إلى الإقبال عليه، ونفوذ الرأي وقبول الكلام من العالم الديني الذي لا يملك إلا السلاح الروحي، هو الفارق الأكبر بين صولة العلم وصولة الملك.
وهو الذي أخضع صولة الخلافة في عنفوانها لأحمد بن حنبل، وأخضع صولة الملك في رعونتها للعز بن عبد السلام، وإن موقف هذين الإمامين من الباطل لعبرة للعلماء لو كانوا يعتبرون، وإن في عاقبتهما الحميدة لاية من الله على تحقيق وعده بالنصر لمن ينصره.
نصر الله أولئك الرجال الذين كانوا يوم الرأي صدور محافل، ويوم الروع قادة جحافل، وفي التاريخ محققين لنقطة الاقتراب، بين الحرب والمحراب، ولقد كانوا يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر وإذا الباطل نافر، ويقذفون بعزائمهم في مزدحم الإيمان والكفر، فإذا الإيمان منصور، وإذا الكفر مكسور، ووصل الله ما انقطع منا بهم بإحياء تلك الخلال، فما لنا من فائت نتمنى ارتجاعه أعظم من بعث تلك الشجاعة، فهي أعظم ما أضعنا من خصالهم، وحرمناه ـ بسوء تربيتنا ـ من خلالهم.. ولعمري إن تلك القوى لم تمت، وإنما هي كامنة، وإن تلك الشعل لم تنطفأئ، فهي في كنف القران امنة، وما دامت نفحات القران تلامس العقول الصافية، وتلابس النفوس الزكية؛ فلا بدَّ من يوم يتحرَّك فيه العلماء، فيأتون بالأعاجيب، وما زلنا نلمح وراء كل داجية في تاريخ الإسلام نجماً يشرق، ونسمع بعد كل خفتة فيه صوتاً يخرق، من عالم يعيش شاهداً، ويموت شهيداً، ويترك بعده ما تتركه الشمس من شفق، يهدي السارين المدلجين إلى حين.
وما علمنا فيمن قرأنا أخبارهم وتقفينا اثارهم من علماء الإسلام، مثلاً شروداً في شجاعة النزال بعد الحافظ «الربيع بن سالم» عالم الأندلس، بل أعلم علمائها في فقه السنّة لعصره، فقد شهد وقعة تعدّ من حوامد الأعمار، فبذ الأبطال المساعير، وتقدم الصفوف مجلّياً ومحرّضاً والحرب تقذف تياراً بتيار، حتى لقي ربه من أقرب طريق.
ولا علمنا فيهم مثالاً في شجاعة الرأي العام أكمل من الإمام أحمد بن تيمية ـ وعصراهما متقاربان ـ فقد شنَّها حرباً شعواء على البدع والضلالات، أقوى ما كانت رسوخاً وشموخاً، وأكثر اتباعاً وشيوخاً يظاهرها الولاة القاسطون، ويؤازرها العلماء المتساهلون المتأوِّلون.
وقد ادَّخر الله لهذا العصر الذي تأذن فجر الإسلام فيه بالانبلاج، الواحد الذي بذ الجميع في شجاعة الرأي والفكر وقوة العلم والعقل، وجرأة اللسان والقلب، وهو محمد عبده، فهز النفوس الجامدة وحرَّك العقول الراكدة، وترك دوياً ملأ سمع الزمان، وسيكون له شأن.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: