الثلاثاء

1446-12-14

|

2025-6-10

(اهتمام الشيخ الإبراهيمي بتاريخ الجزائر)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 225

بقلم: د.علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر2021

تبرز ثقافة الشيخ البشير الإبراهيمي التاريخية فيما كتب عن تاريخ الإسلام في الجزائر ومؤسساته:

فالإسلام في رأيه انغرس في الجزائر منذ القرن الأول للهجرة، بعد أن اجتثت بقية الصحابة الوثنية عن البربر وعتوّ الرومان، ونشروا عقائد الإسلام حتى استقرت في النفوس وسادت المحبة بين السكان، لأن الفتح الإسلامي كان بعيداً عن معنى الفتح المتعارف عليه عند المؤرخين والحربيين، فهو ليس فتحاً مبنياً على القسوة والقهر.

ويرى الإبراهيمي أن الإسلام انحدر في شمال إفريقيا مع تاريخه، فهو مرَّة يضعف ومرَّات يقوى، ولكنَّه احتفظ دائماً بسلطانه على النفوس، ومن اثار الإسلام في الجزائر (وشمال إفريقيا عموماً) ازدهار العلوم والاداب وكثرة التأليف وظهور النوابغ، وعمران المساجد والمدارس والحصون والقصور، وانتشار الأوقاف التي قضت ـ كما قال ـ على الافات الثلاثة المبيدة للشعوب وهي الجهل والفقر والمرض.

واللافت للنظر أن الشيخ كتب عن هذه الإنجازات والاثار وكأنه أحد المؤرخين المعاصرين، فيقول: من اطلع على رواية المؤرخين وترجماتهم، ورأى بقايا الوثائق الوقفية المسجونة في مكاتب الاستعمار بالجزائر، عجب لما فعل الإسلام في نفوس أسلافنا، ومن قرأ تاريخ المدن الجزائرية العلمية التي كان لها من الحضارة أوفر نصيب، مثل: تلمسان وبجاية وتيهرت وقلعة بن حماد والمسيلة وطبنة وبسكرة ؛ علم أية سمات خالدة وسم بها الإسلام هذا القطر.

ويقف الإبراهيمي وقفة مؤرخ حديث أيضاً ليعرّف قرّاءه بتكوين خريطة الجزائر ودولتها، فيلاحظ أنها اليوم جديدة من حيث الحدود الجغرافية والإدارية.

لقد تشكَّلت خريطة الجزائر في العهد العثماني، وتمَّت في عهد الاحتلال الفرنسي، أمَّا قديماً فقد كانت قطعة من المملكة العربية الإسلامية التي أقامها الفاتحون منذ القرن الأول الهجري، وجعلوا عاصمتها القيروان، لقد كانت القيروان هي التي تتحكم في تونس والجزائر ومراكش ثم الأندلس بعد فتحها، وكان والي القيروان هو الذي يعين ولاة هذه الأقطار، ولا دخل لمركز الخلافة في المشرق في تعيينهم. ولما ظهرت الدعوة الأموية في الأندلس على يد عبد الرحمن بن معاوية انفصلت مراكش عن القيروان، وليس بين مراكش والجزائر ولا بين تونس والجزائر حدود فاصلة، بل إن الأطلس زاد العلاقة بين هذه الأقطار متانة، كما زادها الإسلام متانة أخرى، لأنه هو الذي جمع الأقطار الثلاثة في ملاءة واحدة.

تناول الشيخ الإبراهيمي تاريخ الجزائر في مناسبتين على الأقل: الأولى في أربع محاضرات بعنوان: «الاستعمار الفرنسي في الجزائر» ألقاها على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة سنة 1955م، والثانية مقالة بعنوان «فرنسا وثورة الجزائر» كتبها في القاهرة 1959م، أما محاضرات المعهد فقد ارتجلها ثم كتبها وقدمها لإدارة المعهد لطبعها وتوزيعها على طلبته، «وهو تقليد كان المعهد يتعامل به مع الأساتذة الزائرين».

ابتعد الشيخ في المحاضرات عن أسلوب الأدب والسياسة والصحافة وعالج الموضوع بأسلوب تاريخي، وقد اعترف بأنه كان في الكتابة أكثر هدوءاً منه في الإلقاء، أي أنه كان أكثر علمية ومنهجيَّة.

وفي هذه المحاضرات قسم تاريخ الجزائر إلى مراحل، وجعل المرحلة الأخيرة هي الاحتلال الفرنسي، وتحدَّث أثناء المرحلة الأخيرة عن دور الأحزاب والجمعيات والقادة، ووصف منهجه بقوله: ألممت فيما كتب بشيء من تاريخ الجزائر من يوم أسلمتْ، ومن يوم تعرّبت، ثم بشيء من أخبار الدول التي قامت بها من أهلها، ثم مررت بتاريخ العهد التركي «كذا»، وهو أطول العهود فيها، مروراً أهدأ مما سمعه الطلاب مني وأبطأ.

وأما مقالته «فرنسا وثورة الجزائر»، فقد ظهر فيها عارفاً بواجبات المؤرخ وأدواته، بل ظهر فيها كأحد المنظّرين وليس فقط أحد رواة الأخبار، فمن رأيه أن التاريخ لا يكتب «ساخناً»، وإنما يكتب بعد برودة الحدث وسكون غباره، والأهم من ذلك عنده هو ألا يكتب عن الحدث التاريخي إلا بعد توفُّر الوثائق والأدوات، ولا بد مع ذلك من تمتُّع المؤرخ بميزات تتمثل في الثقافة العميقة والذكاء الحاد والنزاهة الخالصة.

ويرى الإبراهيمي أنَّ التاريخ الوطني لا يكتبه إلا مؤرخ وطني، وهذه قضية حيوية في كل العصور وعند مختلف الأمم، فالمؤرخ هو صوت أمته، وهو المعبر عن هويتها الحقيقية مهما تفنَّن الاخرون وأخلصوا في الكتابة عنها.

لقد تمنَّى الإبراهيمي في هذا الصدد أن يقيض الله للجزائر مؤرخاً من أبنائها تتوفَّر فيه الميزات التالية: وهو أن يكون مستنير البصيرة مسدد الفكر والتعليم، صحيح الاستنتاج.. لكي يكتب: تاريخاً لا يقف عند الظواهر والسطحيات.. بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى «ارتكاب» هذه المجازر البشرية، وإلى العوامل التي تدفع المقاتلين «الجزائريين» إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول.

وقد تواضع الإبراهيمي فقال إنه لا يضع بذلك خطة لكتابة تاريخ الثورة، مثلاً، ولا يرسم الطريق لهذا المؤرخ الوطني أو الفارس المنتظر، ولكنه يريد أن يقول: لعل هذا المؤرخ الذي أعدَّه الله لهذه المنقبة لم يولد بعد، وإنما الشرط أن يكون جزائرياً.

هذه الجملة من المواصفات التي ساقها الشيخ الإبراهيمي للمؤرخ عموماً، ومؤرخ الثورة خصوصاً، يجب أن تكون ضمن مواصفات الكتابة التاريخية عندنا، فالمؤرخ في نظره يجب أن يكون متين الثقافة، قوي الاستنباط، قادراً على ربط الأسباب بالمسبِّبات، عارفاً بطرق الغوص فيما وراء مظاهر الأشياء واستكناه الدوافع الباطنة، لكأن الشيخ الإبراهيمي وهو يضع هذه المواصفات للمؤرخ ينظر في «مقدمة ابن خلدون» التي نعرف من مقالته «تلمسان وابن خلدون» أنه قرأها وأعجب بها وبصاحبها.

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022