(ملامح منهج الإبراهيمي في تناول قضايا التاريخ)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 226
بقلم: د.علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
أ ـ تاريخ أمة متصل الحلقات:
يتناول الإبراهيمي التاريخ ـ وخاصة التاريخ الإسلامي ـ باعتباره تاريخ أمة متصل الحلقات، مترابط الأزمنة، وليس على أساس أُسر تعاقبت على الحكم، ليثبت أن الأمَّة هي التي تصنع العظماء في تاريخها، وعظماؤها هم نتاج وضع الأمَّة وظروفها، مما يحقق العبرة والعظة والاستنباط بعيداً عن التعصب المقيت لهذه الدولة أو تلك أو لهذا العنصر، وهو منهج أقرب إلى الروح العلمية من طريقة الأجزاء المبتورة والجزر المعزولة، لأن الدارس يتتبع تطور تاريخ أمته خطاً متصلاً، يرقب فيه أسرار النمو والازدهار وعوامل الضعف والانكسار.
ب ـ الاهتمام بالأحداث الكبرى:
لا يُعنى الشيخ الإبراهيمي بالتفاصيل والجزئيات، بل يعرض للأحداث الكبرى، والخطوط العريضة، ويأخذ بيد القارئ إلى لُبِّ الحدث وجوهر الموضوع. فعصر الإبراهيمي وجيله الذي يخاطبه أو يقرأ له يواجه من التحديات ما يمنعه من تتبع التفاصيل والإغراق فيها، بل يريد أن ينفذ سريعاً إلى الأدواء والعلل، ويصف الدواء الناجح، ويساعده على هذا المنهج: أدب رفيع، وبيان ساحر، ولغة محكمة.
ج ـ أهمية الوثائق والأدوات:
يرى الإبراهيمي أن التاريخ لا يُكتب «ساخنا»، وإنما يكتب بعد برود الحدث وسكون غباره، وهذا منهج المؤرخ العارف بواجبات المؤرخ وأدواته، فالحدث التاريخي لا يُكتب إلا عند توفر الوثائق والأدوات، ولا بد مع ذلك من تمتع المؤرخ بميزات تتمثل في: الثقافة العميقة، والذكاء الحاد، والنزاهة الخالصة، وقوة الاستنباط، والبحث عن العلل والأسباب، والغوص وراء الظواهر، ومعرفة الدوافع الباطنية.
د ـ تركيزه على التاريخ الجامع للمشرق والمغرب:
ركّز الإبراهيمي في أكثر مقالاته ومحاضراته وأحاديثه ـ وخاصة تلك التي كتبها أو ألقاها في بلاد المشرق العربي ـ على التاريخ الإسلامي الجامع للمشرق والمغرب، فيأتي بالشواهد من عصر الرسالة، ثم تاريخ الراشدين ومن بعدهم الأمويين والعباسيين، باعتبار أن هذه العصور تمثل الوحدة التاريخية للأمة الإسلامية، وهو منهج ذكي حصيف يقوم على قاعدة: خاطبوا الناس بما يفهمون، أما تواريخ المغرب الإسلامي من الفتح إلى الاحتلال فلا يعرض لها إلا قصد التعريف أو شرح السياق التاريخي، مبيناً أن أفق المغرب جزء لا يتجزأ من جسم الأمة، إن أضاعته أو تناسته أو فرّطت فيه هِيض جناحها، وضُربت في مقتلها. وأعداء الأمة لا يفرقون بين مشرق الأمَّة ومغربها.
هـ تعامله مع سنن التاريخ:
لقد رصد الإبراهيمي الواقع الإسلامي بكل ما يحمل من علل وأدواء وتخلف وتراجع حضاري شامل، من خلال رؤية تحليلية وبصيرة نافذة، فراح يستمد العلاج من سنن التاريخ ويتعرف على القوانين التي تحكم الاطراد الحضاري، محاولاً استجلاءها من الأصول الإسلامية: قراناً وسنة وتراث الإسلام الثقافي، غيرمتجاوز ذاتية الأمة ومقوماتها العقيدية والفكرية، التي صاغت وبلورت التجربة الإسلامية في التاريخ.
ففي مقال له بمجلة «الأخوة الإسلامية» بعنوان «حالة المسلمين» كتب مشخّصاً الداء وواصفاً الدواء:
نعترف أن نومنا كان ثقيلاً، وبأن عمر أمراضنا كان طويلاً، نعرف أن النوم الثقيل لا يصحو صاحبه إلا بصوت يصخّ أو بضرب يصكّ، وأن المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلا بتدبير حكيم قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم، ومما كانوا فيه مثلاً في الاخرين، ولكننا لم نصحُ من نوم إلا لنستغرق في نوم، ولم ننفلت من قبضة منِّوم إلا لنقع في قبضة منوِّم.
ثم يُرجع العلة كلها إلى رجلين: رجل سياسة لم يتديَّن، ورجل دين لم يخلص، فيقول: وما أضلّنا إلا المجرمون الذين يدعون بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق، ويدعون بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم رجال الدين الضالون الذين فرَّقوه إلى مذاهب وطوائف، والاخرون رجال السياسة الغاشون الذين بدلوا المشرب الواحد فجعلوه مشارب.
ثم يدعو إلى الرجوع إلى الأصل الذي صلح به سلف هذه الأمَّة، ووضعوا عليه أساس نهضتهم: فهل هبّة من روح الإسلام على أرواح المسلمين تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت، وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة، وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة، وأيديهم على بناء حصن الحق على الأسس التي وضعها محمد ﷺ؟
ويمكن أن نلمس اثار هذا المنهج في قضايا عديدة عرض لها الإبراهيمي، ونحن في هذا المقال نختار بعض القضايا مثل: أثر الدين في النهضة، وعروبة الشمال الأفريقي، والوحدة الإسلامية، لما بينها من التدخل، ولما فيها من حضور للتاريخ، واستشهاد بحوادثه، لخدمة الحاضر وبناء المستقبل، وقد قيل: إن التاريخ كله تاريخ معاصر، وذلك لما للتأثير البالغ للتجربة التاريخية على واقع الفرد والجماعة، وإلى إمكان تجدد الوقائع ذاتها إذا تهيأت الشروط وتشكلت الدوافع كما تشكلت أول مرة.
و ـ تتبع أسباب الصعود والنزول:
والشيخ الإبراهيمي يقرأ تاريخ الإسلام بفقه بصير يتابع فيه خطّه السائر، صاعداً إلى الأوج، أو نازلاً إلى القاع، ووراء ذلك أسباب دافعة وعلل مطّردة.. ويوم أن خرج الإسلام من جزيرة العرب وشرَّق وغرَّب في الأقطار الموات، استنهض الفكر في العقول والأنس في القلوب، وغزا مجاهيل البيد والفيافي والقفار وأحالها إلى روض ينسم بالحرية والحضارة والحياة.. وما كان ليحدث شيء من ذلك لولا الإسلام.
لذلك نراه ـ أي الإسلام ـ في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هادٍ، ويغزو مجاهل أفريقيا في الوسط والجنوب ومنتبذات اسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوربا مع الفتوحات العثمانية، كما دخل غربها في القديم في الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية ؛ وهو في كل ذلك يقحم الأذهان من غير استئذان، وليت تلك الفتوحات العربية هي التي غرسته أو مكّنت له، لأن الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراهاً على الدين، وإنما مكّنت للإسلام طبيعته ويسره ولطف مدخله على النفوس وملاءمته للفِطر والأذواق والعقول.
ثم يقرر الشيخ الإبراهيمي بعد هذه الحقيقة التاريخية، أن أمَّة الإسلام لو أبقت على هذا الدين سائقاً وقائداً، سليم العقائد، مجلوّ الحقائق، صافي الفطرة، لما وصلت إلى هذا الضعف والتفرق والشتات.. فيقول: ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال، لطبّق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوة والعزة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله، ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرَّقوه شيعاً ومذاهب، فضعف تأثّرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نرى ونسمع.
ويعود الإبراهيمي إلى الموضوع ذاته في موضع اخر ليثبت المعادلة التي تقررت عبر التاريخ الإسلامي، وهي أن العزة لن تعود إلى المسلمين ما بقوا يستمدون عزتهم من غير دينهم، ويستلهمون الرشد من غير كتابِهم. ودين الإسلام تقوى اثاره بقوة فهم المسلمين له، وإقامتهم لشعائره، ووقوفهم عند حدوده.
ففي حديث له ألقي من إذاعة «صوت العرب» بالقاهرة عام 1955م يقول: الجزائر ـ أيها المستعمرون الكرام ـ من أزكى المغارس التي غُرست فيها شجرة الإسلام، فنمت وترعرعت، ثم اتت أكلها طيباً مباركاً فيه من القرن الأول للهجرة، فقد حمل الفاتحون وفيهم أولو بقية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاليم الإسلام إلى شمال أفريقيا، وقلب هذا الشمال: هو ما نسمِّيه اليوم: الجزائر، فنشروها بالإقناع، وثبتوها بالشواهد العملية، بعد أن اجتثوا من الشمال وثنية البربر وبقايا العتوّ الروماني، نشروا عقائد الإسلام حتى استقرَّت في النفوس، وعباداته حتى اطمأنت إليها النفوس، وأحكامه حتى حققت العدل، وحفظت الحقوق، وصانت المصالح، وضمنت المساواة، وأخلاقه حتى تعايش الناس على المحبة وتعاونوا على البر والتقوى.
ويُرجع الشيخ الإبراهيمي كل تنوير حصل في هذا الشمال الإفريقي مبعثه إلى نور الإسلام الذي أشرف من المشرق، فبدد الظلمات وأزال الجهالات، وبعث سكان هذا الشمال خلقاً اخر، وما الاثار العلمية والأدبية والعمرانية التي كان لهذا الأفق فيها أوفر نصيب إلا من خير هذا الدين، فعمرت حواضر كانت مفاوز، وقفار لا يعرفها حيّ ولا يقف عندها إنسان.
فيقول: ومن قرأ تاريخ المدن الجزائرية العلمية التي كان لها في الحضارة أوفر نصيب: تلمسان وبجاية، وتيهرت، وقلعة بني حماد، والمسيلة، وطبنة، وبسكرة، من قرأ هذه التواريخ؛ علم أية سمات خالدة وسَمَ بها الإسلام هذا القطر.
هذه جولة قصيرة في ثقافة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي التاريخية وكتاباته عن بعض القضايا ذات الطابع التاريخي، ونلاحظ على ذلك باختصار أن الإبراهيمي: كان ظاهرة فريدة بين جيله في تفسيره العقلاني للحوادث التاريخية، سواء منها القديمة أو الحديثة أو المعاصرة، في وقت لم يدرس فيه التاريخ في مدرسة ولا جامعة، ولا شك أن ذلك يغير من نظرتنا المسبقة القائمة على أن علماء الفقه والأدب والدين لا يعرفون التطوُّرات التاريخية ونتائجها إلا سطحياً، أو أنهم لا يعرفون، إذا عرفوا، أكثر من وقائع التاريخ الإسلامي، وأنهم على كل حال لا يتقنون قواعد البحث العلمي، فقد أظهرت هذه الصفحات أن الشيخ الإبراهيمي كان له تصوُّره لمسيرة الحضارة الإنسانية في مختلف عصورها وروافدها، وهو إن لم يكن فيلسوفاً بالمعنى التقليدي للكلمة؛ فإنه استطاع أن يزاوج بين الدين والتاريخ والفلسفة.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: