الثلاثاء

1446-11-15

|

2025-5-13

الإبراهيمي يكتب مقالاً بعنوان:

"حدِّثونا عن العدل فإننا نسيناه"

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 235

بقلم: د. علي محمد الصلابي

وظف الإبراهيمي قلمه الشجاع في كشف الاستعمار وتعريته أمام الشعب الجزائري بدون تردد ولا تلعثم، ومن هذه المقالات العظيمة في معانيها ومبناها هذا المقال الذي قال فيه:

ـ ومن أين نلتمس العدل؟

ـ أمن فرنسا الاستعمارية؟

إن فرنسا اثنتان، تلك التي يتمجد التاريخ بصحائفها البيضاء في العلم والعرفان، ويتغنَّى بروائعها في الأدب والفن، ويتحدَّث عن وقائعها في تحرير نفسها من الاستعباد الروحي والعقلي والبدني، ويشيد بأعلامها في السياسة والبيان. ونحن لم نر فرنسا الموصوفة بهذه الصفات ولم نعرفها، ولم نحسّ بها، ولا شأن لنا معها إلا شأن البعيد الدار، المختلف الأوطار عن الأوطار.

وأما فرنسا الثانية، التي تاريخها بتاريخنا من سنة 1830م إلى الان، فهي التي عرفناها فاتحة بالسيف، حاكمة بالحيف، وأيأسنا من عدلها أنها حققت لنا معنى المثل: المستجير بعمرو.. وكيف نستدفع البلاء بما هو أصل البلاء؟

إن فرنسا هذه التي نعرفها، دولة أشربت معاني الاستعمار وما يتبعه من احتقار وظلم واستعباد، وما يستلزمه من عتو وغطرسة وأنانية، ومن العجب أنها مع هذا تنتحل الصفات الأخرى التي تدَّعيها وتفخر بها في العالمين، فهي كالجزار يذكر الله ويذبح، ونحن لا نعرف إلا صحائفها السوداء في معاملتنا ووقائعها في ظلمنا وتقتيلنا، ولا نصدق بشيء مما تدّعيه لنفسها أو يدَّعيه لها المفتونون بها من العدل والديمقراطية.

لم نرَ من فرنسا الاستعمارية إلا الهضم لديننا، والمحو للغتنا ومقوِّماتنا، والزراية بجنسيتنا، والمنّ علينا بما لم نذق طعمه ولم نَرح رائحته، والاستكبار في الأرض بغير الحق، والنكران لفضلنا عليها في الأزمات، أفلا يعذرنا العقلاء، إذا أنكرنا كل فضيلة تتسم بها، أو يسمُها بها المفتونون بمدنيتها، المسبِّحون بحمدها.

والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً

حتى يروا عنده اثار إحسان

تريدنا فرنسا الاستعمارية على أن نحمدها بما لم تفعل، فنقول: عسى ولعلَّ.. ثم تريدنا على أن نحمدها بما فعلت معنا من ظلم وعدوان، وأن نصوِّر مساوئها فينا محاسن، وأن نسمِّي شرَّها خيراً، وجورها عدلاً، وإساءتها إحساناً، وإهانتها تشريفاً، وأن ننكر إحساسنا وعقولنا، وأن نتنكر للمنطق وللواقع، فلا نقول إلا ما يرضيها وإن جانب الحق، ولا نعمل إلا ما يوافق هواها وإن أسخط الله، فنقول: لا، ثم لا، لأن ترجمة هذا كلِّه أنها تلطمنا فتشكرها على اللطمة، وتعذِبنا فنقدم لها شواهد الإخلاص.

هذه هي فرنسا التي نعرفها، أو هذا هو الجانب الذي نعرفه من جوانب فرنسا، قلنا فيه ما نعرف، وشهدنا بما نعلم، فإن كان لها جانب غير الذي عرفناه، فسلوا عن العسل من ذاق طعمه، أما نحن فقد ذُقنا الحنظل، فوصفنا الحنظل.

ولو أن حاتماً جمع كل ما قاله في نفسه وقاله الشعراء فيه في ديوان، وقرأه على جار له حُرم رفده فلم ينل من لحوم نحائره حُزة ولا من أوبارها جزة، أكان يهتز لذلك ويشكره عليه، إن لم يكذبه؟ وكذلك نحن، لا نهتز لما تمتدح به فرنسا، أو يمدحها به المادحون ؛ ما دمنا لم نرَ منه في أنفسنا إلا عكسه ونقيضه، وقلْ أنت: أنا غني، فلعلك لا تجد من يكذبك، ولكنك حين تقول: أنا الجواد المفضل، تجد ـ لا محالة ـ من يقول لك: وأين الأثر؟ ولو أن ذكرك بالإحسان والعدل استفاض حتى ملأ مسامع الدنيا، لما أغنى عنك يوم الفخار شيئاً، إذا جاء جارُ بيتك يحمل من ترويعك له دلائل، ويستظهر على تجويعك له بشواهد وبينات.

إن الاستعمار غشاوة على الأبصار، ورين على البصائر. فهو ـ كما يرمي فاعله بالعمى عن الحقائق ـ يرمي المبتلى به بالعمى عن المحاسن، فلو أن فرنسا خلعت ثوب الاستعمار ومحت رسومه، لزالت هذه الغشاوة عن بصرها، فعرفت لنا حقوقنا، ولزالت عن أبصارنا فعرفنا لها محاسنها، وما دام الاستعمار، فالرين على البصائر والغشاوة على الأبصار، وليس في طبائع الأشياء غير هذا.

وإلى عقلاء العالم، وساقة القوافل البشرية نسوق الحديث، وإن كنا في شك من أن المادية الخبيثة أبقت في العقلاء معنى التعقُّل، حتى يدركوا كيف يسعد الأقوياء بشقوة الضعفاء، وفي مرية من أن الاستعمار ترك لأولئك الساقة وجهة غير وجهته التي يزاحم عليها سائق سائقاً ويجاري فيها متخلف سابقاً.

ثم قال: هل أتاكم نبأ عشرة ملايين من سلائل البشر الراقية، تحكمها فئة تعادل عشرها، ليس بينهما من الجوامع إلا الادمية، ولا من الصلات إلا صلة القوي بالضعيف، ولا من العلائق إلا امتصاص الأقل لدم الأكثر، وسمنه بهزاله، واعتزازه بإذلاله.

إن هذه الملايين تُساس بقوانين لا رأي لها فيها، وبمجموعة من النُّظم لا يد لها فيها، وبأنواع من الإدارات غابت عن وضعها، وهي موضع تنفيذها، وبعُصَب من الرجال ليس فيهم واحد منها.. إلا واحد يمسك عنقها للذبح واخر يضرب بدنها للإرضاء، وكيف ترجو هذه الملايين العدل أو تتخيله؟ وليس من أبنائها قاضٍ مستقل في محكمة، ولا رئيس مسؤول في إدارة، ولا ضابط كبير في ثكنة، ولا حاكم كبير ولا صغير في مركز، ولا مدير حرّ في مصلحة، بل كل فرد منها خادم مطيع، وكل أجنبي عنها مخدوم مطاع، وكل الوظائف الرئيسية في وطنها محتكرة لغيرها، وكل المنافع الثابتة أو النابتة في أرضها محرَّمة عليها.

تشريك المواطنين في الرأي والحكم هو سمة زمنكم، ولكن هذه السمة مطموسة في الجزائر، وحرية المعتقدات والأديان هي شعار زمنكم، ولكن هذا الشعار لا يوجد في الجزائر، وحرية التنقُّل هي مفخرة زمانكم، ولكنها معدومة في الجزائر، والمساواة في القانون والعدالة من ثمرات زمنكم، ولكنها محرَّمة في الجزائر، والديمقراطية هي دعوى زمنكم ولكنها باطلة في الجزائر، وحرمات المنازل والأعراض من تبجحات زمنكم، ولكنها مهتوكة في الجزائر، وعصمة الأبدان من الضرب والتعذيب من أكاذيب زمنكم، ولكن الجزائر أصبحت مدرسة عالية لتعليم النمط الرفيع من أنواع الضرب وأساليب التعذيب، وأصبحت تجاربه الأولى في أبداننا، ولولا هدير البحار وصخب الساسة، لسمعتم أنين المكلومين، ولامتزج في اذانكم حفيف السياط بالصراخ و«العياط»، وليوشكن إن تمارى زمنكم في التفنُّن، ولم تبادروا جرثومة الاستعمار بالاستئصال ؛ أن تستمرئوا لذة نيرون باحتراق روما، وأن يهاجر أبناؤكم إلى الجزائر للتخصص في فن التعذيب على أساتذته.

نعم نعم ـ ولا نُنكر الفضل ـ إن حرية الفضيلة من افات زمنكم، وهي موجودة على أكمل وجه وأتمَّ حال في الجزائر.

ويحكم!. إنكم لسائرون بهذه القوافل إلى الدمار، وإن حاديكم إليه هو الاستعمار، فعاملوه بالقطيعة تتواصلوا واقضوا عليه قبل أن يقضي عليكم.

ويحكم!. إن هذا العارض الذي تسمُّونه الاستعمار ليس ذاتياً في زمنكم، ولا هو من طبيعته، فإن تركتموه حتى يُلبس العصر الجديد لبوسه كان عوناً عليكم، إن الزمان لا تؤمن غوائله وتقلباته، أم أنتم في أمان من الزمان؟

ويحكم!. إن هذا الاستعمار الذي تؤيدونه، وهذه الديمقراطية التي تنوون إقرارها في العالم أو إقرار العالم عليها، ضدان لا يجتمعان، فلماذا تغشُّون أنفسكم وتغشُّون العالم وتكذبون على الحق؟

ويحكم!. أحيوا العدل وانشروه، وأميتوا الاستعمار واقبروه ؛ تكن الأمم كلها معكم بقلوبها وعقولها وأبدانها وأموالها، وتأمنوا البوائق التي تخشون انفجارها، فإن لم تفعلوا فأيقِنوا أن كل ما تنفقونه من جهد ووقت ومال في تمكين الاستعمار ضائع، ولا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً، ثم ما يزال بكم هذا الغول الذي تربُّونه وتحتضنونه حتى يُرديكم في هاوية.

أفكلما رثَّ حبل الاستعمار، وتصدَّع جداره، وأشرف على الفناء في حربين ماضيتين، جاءت أمريكا حاضنة الديمقراطية، تكفكف دموعه، وتنظم جموعه، وترمِّم جداره، وتعمر بالدولار داره؟

إن الأمم الضعيفة قد لُدغت من جحر واحد مرتين، فاحذروا الثالثة، وقد أصبحت هذه الأمم تلقب أمريكا بلقب لا يشرِّفها وهو أنها «نصيرة الاستعمار»، الاستعمار عمل أوَّله ختل، واخره قتل، وشر لا بقاء عليه، ثم لا بقاء له، ووحش مروض اخر صرعاه رائضه، ومرض اكل يأتي على المكاسب، ويثني بالمواهب، ومخلوق لئيم يُدان ولا يفي، وينتقم ولا يشتفي، ويستأصل ولا يكتفي، ويجاهر بالسوأى ولا يحتفي، وكنود أوْلى الأيدي عنده بالقطع يد مُدَّت بإحسان إليه.

والمساواة عدل تنمو عليه الأخوة، وتنبعث منه القوة، والاستقلال تكافؤ في الادمية واحترام الإنسانية، وتبادل المنفعة والخير، وتحقيق لسنة الله، والعدل من الأقوياء هو الميزان الذي يُقرّ كل شيء في نصابه، ولكن أين هو؟ لم يبق منه، إلا الحديث عنه، فحدِّثونا عنه، فإننا نسيناه؟

إن شيخنا العلامة الإبراهيمي يتحدث بمرارة عن مبدأ إنساني أصيل غرس الله محبته في فطرة الإنسان التي لم تتلوث ولم تنحرف، والذي بيّنه الله عز وجل في محكم كتابه، وجعله مقصداً من مقاصد القران الكريم، كيف غاب عن شعبه؟ وكيف مارس الاستعمار الظلم بكافة أشكاله وأنواعه وصوره البشعة من ظلم الأفراد إلى ظلم الجماعات والشعب بأكمله.

إن الإبراهيمي ينطلق في مفاهيمه ودعوته ونضاله وكفاحه من الفكر الإسلامي الأصيل المستمد من القران الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولذلك يرى أن العدل الحقيقي هو ميزان الله في الأرض، الذي يؤخذ به للضعيف من القوي، وللمحق من المبطل، والعدل إعطاء كل ذي حق حقه، وهو المساواة بين الناس جميعاً في إعطاء الحقوق، والمساواة في المكافأة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

والعادل هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه دون إفراط أو تفريط، أي القسط في الشيء، وأداء حقوق الله وحقوق العباد.

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022