من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
(سورة القيامة)
الحلقة التسعون
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
رجب 1442 هــ/ فبراير 2021
* تسمية السورة:
تسمى: «سورة القيامة»، وهو اسمها في المصاحف، وكتب التفسير.
وسُمِّيت في بعض التفاسير: «سورة {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }».
وسماها البعض: «سورة {لاَ أُقْسِمُ }».
وفي هذا نظر؛ لأن المقصود بالتسمية التمييز، وهذه التسمية لا تميزها؛ لأنها تصدق على «سورة البلد»: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد }.
* عدد آياتها: تسعٌ وثلاثون آية عند جمهور العلماء، وهي أربعون آية عند الكوفيين.
* وهي مكية بالاتفاق.
* {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }:
يستفتح سبحانه السورة بقوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }، وهو من حيث الظاهر نفي؛ لأن {لاَ } نافية، ومن هنا أخذ بعضهم المعنى على ظاهر اللفظ، وهو النفي؛ فيكون المعنى: أن الله تعالى لا يقسم بيوم القيامة، ولا يقسم بالنفس اللَّوَّامة، ولا يقسم بهذا البلد، ولا يقسم بمواقع النجوم.
وذهب الأكثرون- وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن جُبير، وقتادة، وابن جرير الطبري- إلى أن الآية قَسَم، وهو الأصح، فهو تعالى يقسم بيوم القيامة وبالنفس اللَّوَّامة، وإن كان ظاهر الصيغة «النفي»، والدليل على ذلك أمور:
1- من حيث اللغة، فإنه جار على قواعد اللغة، فالإنسان إذا أقسم على شيءٍ منفي فإنه يأتي بـ{لاَ }، كما لو قال لك إنسان مثلًا: إنك فعلت كذا وفعلت كذا، فقلت له: لا وربِّ الكعبة ما فعلته. فيكون فيه نفي، ومعناه القسم.
2- أن ذِكْر المقسَم به آيةٌ على وجود القَسَم، فهو هنا أقسم {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }، وأقسم {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة }، كذلك أقسم {بِهَذَا الْبَلَد } [البلد: 1]، وأقسم {بِمَوَاقِعِ النُّجُوم }[الواقعة: 75]، وأقسم {بِالْخُنَّس } [التكوير: 15]، فذِكْر المقسَم به يدل على وجود القَسَم.
3- أن الله تعالى ضمَّن السياق إشارة للمقسَم عليه واضحة جلية أو منصوصة، وهو جواب القَسَم، وهو شيءٌ عظيم، كالقَسَم هنا على البعث، مثل قوله تعالى:
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم } [الواقعة: 77]، فذكر الشيء المقسَم عليه- وهو البعث وعظمته- دليلٌ على أن الأمر فيه قَسَم.
وليس جيدًا أن يقال: إن {لاَ } هنا نافية للقَسَم، أو أن يقال: إنها زائدة، كما يقول بعضهم، فليس في القرآن شيٌ زائد، وإن كانوا يقصدون: أن لا إعراب لها.
وعادة القرآن القَسَم على أمور عظام، واستفتاح بعض السور بالقَسَم، وهذه منها، فالله تعالى يقسم بيوم القيامة، وهو يوم قيام الناس لرب العالمين، ويوم بعث الناس من قبورهم، وهي القيامة العامة التي يجادل بها المكذِّبون.
ويدخل في القَسَم: القيامة الخاصة، وهي قيامة كل فرد، كما ورد- وفي سنده ضعف-: «إذا ماتَ أحدُكم فقد قامت قيامتُه». وقد جاء في صحيح السنة ما يشهد لهذا المعنى من قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن غلام صغير: «إن يَعِشْ هذا لا يدركه الهَرَمُ حتى تقومَ عليكم ساعتُكم». فالمقصود- والله أعلم-: القيامة الخاصة.
فأنت نصيبك من هذه الدنيا هو عمرك المحدود، وقيامتك التي تخصُّك هي حينما ينهدم هذا الجسد بمغادرة الروح، كما ينهدم الكون في القيامة الكبرى، حيث يختل نظام الكون، ويُدمر ويتغير كل شيء.
* {وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة }:
هذا قَسَمٌ {بِالنَّفْسِ }، وقد أقسم تعالى بها في موضع آخر فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8]، والمقصود: القَسَم بكل نفس، سواءً كانت نفسًا مؤمنة أو غير مؤمنة، فالقَسَم هو بما خلقه الله تعالى من النفوس، سواء أُلهمت فجورها، أو أُلهمت تقواها.
وأقسم هنا {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة }: نفس المؤمن؛ وهي التي تلوم صاحبها، فإن كان مسيئًا لامته: لماذا أساء؟ وإن كان محسنًا لامته: لماذا لم يزدد إحسانًا؟ كما قال الحسن البصري رحمه الله: «إن المؤمنَ لا تراهُ إلا يلومُ نفسه؛ يقولُ: ما أردتُ بكلمتي؟ ما أردتُ بأكلتي؟ ما أردتُ بحديث نفسي؟ فلا تراهُ إلا يعاتبُها، وإن الفاجرَ يمضي قُدُمًا، فلا يُعاتبُ نفسه».
والنفس اللَّوَّامة تحمل صاحبها على الطموح والتطلُّع للأفضل. وغالب نفوس الناس ليست ممحضة للخير ولا خالصة للشر، بل هي في برزخ بين هذا وذاك؛ تغريها الشهوة ثم تندم وتحْدُوها التوبة إلى الملام، وهكذا لا تستلم للشر، ولا تَسْلم منه!
وكما أن منازل الناس في الجنة مختلفة، وبينهم كما بين المشرق والمغرب، فكذلك هم في الدنيا في مقدار طموحهم وأعمالهم؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلمُ آخرَ أهل النار خروجًا منها، وآخرَ أهل الجنة دخولًا: رجلٌ يخرجُ من النار حَبْوًا، فيقولُ اللهُ: اذهب فادخل الجنةَ. فيأتيها، فيخيلُ إليه أنها مَلْأَى، فيرجعُ فيقولُ: يا ربِّ، وجدتُها مَلْأَى. فيقولُ: اذهب فادخُل الجنةَ. فيأتيها فيخيلُ إليه أنها مَلْأَى، فيرجعُ فيقولُ: يا ربِّ، وجدتُها مَلْأَى، فيقولُ: اذهب فادخُل الجنةَ، فإن لك مثلَ الدنيا وعشرةَ أمثالها- أو: إن لك مثلَ عشرة أمثال الدنيا».
وكأن هذا الرجل كان في الدنيا من الناس الذين كلما فُتح لهم بابٌ من الخير تردَّدُوا وأحْجَمُوا وقالوا: لا مكان لنا. وإذا جيء لهم بمشروع خيري أو عمل أو إصلاح قالوا: ليس ثَمَّ مجال، فالمساجد مليئة والدروس مليئة وفرص الخير قد ضاقت بطلَّابها، فلا مكان لنا، حتى إذا وافوا الجنة وقيل لأحدهم: ادخل، يرجع ويقول: «وجدتُها ملْأى»!
ومن وراء هذا اللَّوم عمل وإنجاز وبر وخير، وكم استخرج الله به من نفس عبده من صدقة عظيمة لا يقدر عليها غيره، وبر بوالد، أو صلة رحم، أو عطف على مسكين، أو بحث عن أسباب المغفرة والتوبة، أو رحمة لملهوف رجاء أن يدخل صاحبها في عموم: «الراحمونَ يرحمهم الرحمنُ».
وكم وقع فيها من انكسار القلب، وتواضع النفس، والخوف من سوء العاقبة، وعدم الاعتداد بالعمل مهما كان.
ومن معاني {اللَّوَّامَة }- كما قال ابن تيمية وابن القيم-: التي تتلوَّم على صاحبها، والتلوم: التردد وعدم الاستقرار، وهذا من طبيعة النفس الإنسانية، فإن النفس متقلِّبة في الساعة الواحدة؛ بل في اللحظة الواحدة، ومشاعر الإنسان وأحاسيسه متردِّدة ما بين الغضب والرضا، والحزن والسرور، والتفاؤل والتشاؤم، والطمأنينة والقلق، والإيمان والشك، وسواها من الأحوال المتناقضة، وهذا أمرٌ جَبَلَ الله تعالى العباد عليه، حتى إن العبد في اللحظة الواحدة يجمع بين معصية وطاعة، فقد يسمع ما حرم الله أو يشاهد ما حرم الله، فيتذكَّر ويستغفر ويسبِّح، أو يركب سيارته لعمل مشبوه ويقرأ دعاء الراحلة، أو ينتظر موعدًا لا يرضاه إيمانه وهو يسبِّح ويستغفر، أو يسافر سفر معصية وهو يصلِّي ويصوم ويتصدَّق، وقد يلقى إنسانًا على غير طاعة ويدعوه إلى الإسلام فيسلم، أو يدعوه إلى التوبة من بدعة غليظة أو معصية ما كالمخدرات وهو مشارك له في معصية أهون منها، ولا يضيع عند الله تبارك وتعالى شيء، فهذه النفس متلاومة متحوِّلة متقلِّبة، وعلينا أن ندرك هذا في طبيعة الناس، فلا نعاملهم كما لو كانوا حجارةًَ أو حديدًا.
ولذلك سمِّي: إنسانًا، وسمي القلب: قلبًا؛ لتقلبه واختلاف أحواله.
وما سُمِّي الإنسانُ إلا لنَسْيِه * ولا القلبُ إلا أنه يتقلَّبُ
والله أقسم بالقيامة الكبرى، ثم بالنفس اللَّوَّامة؛ لأن القيامة الكبرى ليس المقصود بها: حشر الوحوش والبهائم، وإنما حشر الإنسان؛ ولهذا تكرر ذكره في هذه السورة خمس مرات؛ تنبيهًا على وظيفته، وما حمل من أمانة عظيمة.
* {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَه }:
لم يذكر السياق المقسَم عليه تصريحًا، بل جاء ضمنًا هنا، فالقَسَم على أن الله تعالى سيجمع عظام الناس، أي: سيبعثهم، وهذا كثير، كما في «سورة الحاقة»، و«سورة القارعة»، وغيرهما.
والمقصود: الكافر أو المكذِّب، وقيل: إنسانٌ خاص، هو أبو جهل أو الأَخْنس بن شَرِيق أو غيرهما من المشركين الذين كانوا ينكرون البعث، وقد كان أحدهم يأتي بالعظام، وهي رَمِيم، ويشير إليها ويقول: هل ستُجمع هذه العظام كلها؟ والله لا أؤمن حتى تجمع هذه العظام، والآيات وإن نزلت في معين، إلا أنها عامة تخاطب كل مَن ينكر البعث أو يشك فيه.
وجَمْعُ العظام تأكيد على البعث من جديد، فبعد جَمْعِ العظام تُكسى باللحم، وأشار إلى العظام لأسباب، منها:
1- أن العظام هي من أول ما يُخلق، كما قال الله سبحانه: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } [المؤمنون: 14].
2- أن العظام كما أنها أول ما يتكون من الإنسان فهي آخر ما يبقى منه، فيزول اللحم والشحم والدم، وتبقى العظام لفترة طويلة.
3- أن أصل الإنسان من العظم، كما جاء في الحديث، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «وليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبْلَى، إلا عظمًا واحدًا؛ وهو عَجْبُ الذَّنَب، ومنه يركَّبُ الخلقُ يومَ القيامة». وعَجْبُ الذَّنَب: العظم المستدير الصغير الذي يكون في أسفل الظهر، فمنه خُلق الإنسان، ومنه يُبعث ويُركَّب.
4- أن سبب النزول هو إنكار المشركين للبعث، وربما كانوا يستبعدون جمع العظام بعدما تفرقت أكثر مما يستبعدون غيره، ويضربون بها المثل؛ لأنهم يرون عظام الحيوانات من الإبل والبقر والحمير وغيرها وهي مرمية ذات اليمين وذات الشمال بعدما تحلَّلت أجزاؤها وبقيت عظامها، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العظام.
وهذا دليل على القدرة الإلهية أولًا، ودليل على الإرادة ثانيًا، فالله تعالى قدير وقد أراد ذلك، وأخبر أنه سوف يجمع عظامهم، وذكر العظام خاصة هنا يحدث هزة نفسية في القارئ الحيّ المتحرك وهو يرى نفسه فجأة قد بلي وصار عظامًا متفرقة.
وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حيًّا! ولعلها لا تزال كذلك في بعض النفوس إلى يومنا هذا! والقرآن يرد على هذا الحسبان بعدم جمع العظام مؤكدًا وقوعه: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه }.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: