الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة الماعون
الحلقة 162
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو الحجة 1442 هــ / أغسطس 2021

* تسمية السورة:
لهذه السورة أسماء عديدة، والمشهور في غالب كتب التفسير والمصاحف:
«سورة الماعون» ؛ وذلك لذكر الماعون في آخرها.
و«سورة {أَرَأَيْتَ}». ورد ذلك في «صحيح البخاري»، وبعض كتب التفسير، باعتبار أول لفظ فيها.
و«سورة الدِّين» ؛ لقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين}.
و«سورة اليتيم»؛ لذكره فيها.
وبعضهم سمَّاها: «سورة التكذيب»؛ لقوله تعالى: {يُكَذِّبُ}.
 * عدد آياتها: ست آيات، باعتبار أن قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون}،
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون } آية واحدة، وبعضهم يفصلها فيجعلها آيتين، فتصبح سبعًا، كما هو في المصاحف اليوم.
 * وهي مكية على قول جمهور المفسرين. وقال ابن عطية: «مكية بلا خلاف علمته».
وقيل: نزلت بالمدينة، وهو قول قتادة.
وقيل: نزل بمكة الآيات الثلاث الأول، والباقي نزل بالمدينة، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره بعض المصنِّفين في التفسير.
 * سبب نـزولها: قال بعضهم: إنها نزلت في أبي سفيان، وكان كريمًا ينحر في كل أسبوع ناقة، ويوزِّعها على الناس، فجاءه يتيم يطلب منه لحمًا أو غيره فقرعه بعصا.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل، وقيل: في الوليد بن المغيرة، وقيل: في أبي جهل، ولأبي جهل قصة ذكرها ابن هشام وغيره من أهل السير، وهي قصته مع الأَرَاشي، حيث أخذ ماله، ورفض أن يعطيه حقه، فقيل له: استشفع إلى أبي جهل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو لا يدري ما بينه وبينه، فأخذ الأمر على التصديق، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبي جهل، واستخرج للرجل حقه، فقالوا لأبي جهل في ذلك، فقال: والله، لقد رأيتُ شيئًا وهولًا بيني وبينه. فأصابه رعب وأعطى الرجل حقه!.
وقيل: إن السورة عامة، وإنها لم تنزل في شأن أحد بعينه، وإنما نزلت فيمَن كان هذا حاله.
 * {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين }:
هذا استفهام على سبيل التعجُّب، فهو تعالى يريد إثارة العجب والدهشة ممَن يتصف بصفات معينة، فهو حديث عن فئة من الناس تعيش بين أظهرنا، ونخالطها، ويُراد منا أن نلتفت ونتفطن لبعض مواطن الغرابة في حياتها وسلوكها!
وهذه الرؤية قد تكون بصرية؛ لأنهم أناس نشاهدهم ونراهم، وربما كانت علمية؛ وهي في الحالين تتعلق بأمر محسوس مشاهد.
{أَرَأَيْتَ} خطاب عام لكل مَن يصلح له الخطاب.
ويحتمل أن يكون المقصود {بِالدِّين}: الإسلام، كما قال الله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19].
ويحتمل أن يكون المقصود: الجزاء والحساب، وهذا كثير الورود في القرآن، كما في قوله: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّين } [الانفطار: 9]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين ۝ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين } [الانفطار: 17- 18]، فالغالب أن كلمة «الدين» في القرآن يقصد بها الدينونة، ويقال: كما تَدِين تُدان. أي: كما تفعل تُجازى.
وفي هذا إشارة إلى أثر الوازع الإيماني في القلوب، وأن الإيمان بالدار الآخرة من أعظم الأركان؛ ولهذا قال تعالى عن أنبيائه: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار ۝ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَار } [ص: 46- 47]، فثَمَّ فرق جوهري بين إنسان يعيش في هذه الدنيا وهو مستيقن بالجزاء على الأعمال يوم القيامة، وآخر يرى أَلَّا بعث ولا نشور ولا جزاء ولا حساب؛ ولذا فحساباته تنتهي عند آخر لحظة في الدنيا.
والإيمان بالبعث والنشور والحساب يحمل الإنسان على مراعاة حقوق الخلق، ولذا قرن هنا التكذيب بدعِّ اليتيم، وترك الحض على طعام المسكين.
فأعظم ضمانة لحفظ حقوق الناس وعدم ظلمهم والإحسان إليهم هي الإيمان بالدار الآخرة؛ فالمؤمن يتعب في جمع المال ثم يُخرج منه حقه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُوم ۝ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم } [المعارج: 24- 25]؛ لأنه يرجو الثواب في الآخرة، ولو لم يجد أثره وثمرته في الدنيا.
والتكذيب في القلب، والسورة تكشف عن العلامات الظاهرة في الأحوال والأخلاق والمعاملات التي تطبع أولئك المكذِّبين.
وقال بعض المفسرين: إن الفاء في قوله: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم }، واقعة في جواب شرط محذوف، وكأن التقدير: إن كنت تريد أن تعرفه، فهو
{الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم }، فتركيز السورة ليس على التكذيب بيوم الدين، مع أنه أعظم الفجور والكفر؛ بل على ذكر أخلاق اجتماعية فاسدة منحرفة، وتعليلها بأنها لا تصدر إلا من أقوام خلت قلوبهم من الإيمان.
وهل كان أولئك الطغاة المتجاهلون للحقوق الإنسانية مكذِّبين أم كانوا جاحدين؟
يحتمل أن أحدهم يكذِّب بلسانه، ولا يقيم للدين وزنًا في حياته، كشأن غالب البشر اليوم الذين لا يقيمون للدين وزنًا، ولكنهم يجرون على ألسنتهم كلمات التكذيب أو الشك أو اللامبالاة.
والكفار أنواع، والله تعالى وصف كل نوع منهم بصفته، فمن الكفار مَن لا يؤمن بيوم الدين، ويكذِّب به ظاهرًا وباطنًا.
ومنهم مَن يقر بقلبه ويجحد بلسانه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون} [الأنعام: 33]، وكما في الآية الأخرى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [النمل: 14].
ومنهم مَن يقع عنده شك وتردُّد.
ومنهم الغافل، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون } [يونس: 7]، فيكون غافلًا عن قضية الدِّين أصلًا، بانشغاله بهموم وظيفته وتأمين مستقبله.

سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022