الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة قريش
الحلقة 161
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو الحجة 1442 هــ / يوليو 2021

* {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف }:
وثمة فرق بين {أَطْعَمَهُم } و«أشبعهم»؛ فالإطعام نعمة كبيرة لا يستغني عنها أحد، بخلاف الشبع، فليس محمودًا بكل حال؛ فقد يفضي إلى التخمة، وربما أضر بالصحة، والمرء يُذَمُّ إذا كان منهمكًا في ألوان الملذات من المآكل والمشارب؛ ولذلك عبَّر بالإطعام، لأنه القدر الذي يحتاج إليه.
ويحتمل أن يكون معناها: أطعمهم من جوع ألـمَّ بهم بعض الوقت، ومن ذلك أنهم كانوا إذا جاعوا جلسوا في خباء حتى يموتوا.
ومن ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما استعصت عليه قريش قال: «اللهمَّ أعني عليهم بسَبْعٍ كسَبْعِ يُوسف». فجاعوا حتى أكلوا الجلود، وورق الشجر، وحتى كان الواحد منهم ينظر إلى السماء، فيرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، حتى قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُون } [الدخان: 12]، فالله تعالى يذكِّرهم أنه هو الذي أطعمهم من جوع.
و{مِّن } هنا بدلية، أي: أبدلهم من الجوع إطعامًا.
ويحتمل أن يكون المعنى: أطعمهم من جوعٍ كان يقتضيه المقام، باعتبار طبيعة مكة، فهي بلد غير ذي زرع، ولكن الله مَنَّ عليهم بأن جلب لهم الأرزاق من كل مكان فصار يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، وهي دعوة إبراهيم عليه السلام:
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } [البقرة: 126].
{وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف }: يحتمل آمنهم من خوف ألـمَّ بهم كانوا عليه، وأقرب مثال مذكور قصة أصحاب الفيل، فأهل مكة خافوا منهم، وخرجوا إلى شَعَف الجبال.
أو يكون المعنى: آمنهم من خوفٍ كانوا خليقين به؛ لأنه لم يكن عندهم مَنَعَةٌ ولا سلاح؛ ولهذا قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67]، فالقبائل العربية كانت تتناحر فيما بينها، ويحارب بعضها بعضًا، وهذا البلد آمن، وهذه دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا } [البقرة: 126]، فاستجاب الله دعاءه، وجعل البلد آمنًا.
وهنا لفتات لطيفة في الآية الكريمة:
1- الإشارة إلى أهمية الأمن والطعام في حياة الفرد والجماعة، وهذه من الحاجات الفطرية الضرورية التي ركّب في الإنسان حاجته إليها، فالإنسان إذا جاع لن يفكِّر بشكل صحيح، ولن يعبد ربه كما ينبغي، ولن يتعلم، ولن يعمل، فالجوع يجعل الإنسان منقطعًا عن الخير الديني والدنيوي، وربما تجرَّأ على أن يكذب ويسرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجلَ إذا غَرِمَ- يعني: صار عليه دينٌ- حدَّث فكذبَ، ووعدَ فأخلفَ».
وقد جعل الجوع والخوف عقوبةً للأمم المذنبة، كما قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون } [النحل: 112]. فالجوع والخوف قد يحيط بالإنسان مثل اللِّباس، ويحول بينه وبين مصالح الدنيا والآخرة.
والاستقرار الذي يفضي إلى الحصول على الحاجات الضرورية، هو أصل لنمو الخير، وتحقق المصالح، وبالعكس من ذلك، فإن الحروب الأهلية مثلًا، والقلق وزوال الأمن واشتداد الجوع من العوائق والعوارض التي تحول بين الناس وبين مصالح الدنيا والآخرة، ففي البلد الذي يشيع فيه الخوف أو الفقر لا تطمع أن يكون أهله على مستوى مقنع من العلم والعمل والأخلاق والتفكير.
وكثير من بلاد الإسلام مبتلاة بأحد الأمرين، إما أن يكون فيها الفقر، فتجد مئات الملايين فقراء، مع أنها قد تكون بلادًا نفطية، كنيجيريا وغيرها؛ وفقرها بسبب سوء التنظيم، وسوء توزيع الثروة، وإما أن تُصاب بالخوف، بسبب الحروب الأهلية.
ومن المحزن أن ثمانية وعشرين من بين ثلاثين نزاعًا عالميًّا موجودة في البلاد الإسلامية، ولا نقول: إن هذا بسبب كيد أعدائنا فحسب؛ فنحن غير سالمين من التَّبِعَات، وليس كل ما ينزل بنا بسبب عدونا، وعدونا سيصنع، ولكن كما قال الله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [آل عمران: 111]، {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [آل عمران: 120]، فلو كنا على قدرٍ من الاستقامة لما استطاع الأعداء أن يوجدوا بيننا الحروب والصراعات.
2- أن الآية ليست خاصة بقريش، كما أنها ليست خاصة بما قبل النبوة، أو وقت النبوة، فها نحن اليوم بعد (1400) سنة، نقرأ السورة ونجد فيها أن الله ينعم على البلد الحرام وما حوله بالأمن، والطعام، ثم تأتي الدعوة للعبادة، بأن توظَّف هذه النعم لطاعة رب هذا البيت، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونشر دينه، والإحسان إلى عباده: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِين } [القصص: 17]. وكل مخاطب يرى البيت المشار إليه عيانًا أو عبر الشاشات المباشرة.
فعلى الأمة أن تحقِّق التواصل مع الأمم الأخرى وتألفهم، مع حفاظها على هويتها وثقافتها، من أجل أن تقدم لها الصورة الصحيحة للإسلام، وتبحث عن مصالحها الدينية والدنيوية في كل مكان.

سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022