من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة قريش
الحلقة 159
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو الحجة 1442 هــ / يوليو 2021
* {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف }:
إيلاف هنا مجرورة؛ لأنها عطف بيان على إيلاف الأولى، فـ«إيلاف» الثانية هي «إيلاف» الأولى، وهذا مثل قول الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ }. فـ«الأسباب» الأولى هي «الأسباب» الثانية، لكن استأنف بها آية أخرى فقال: {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } [غافر: 36- 37].
والرحلة هي: الارتحال والمسير، ومنه نسمي الدابة: راحلة؛ لأن الإنسان يرتحلها؛ أي: يركبها إذا سافر، وقد كانت رحلة الشتاء إلى اليمن؛ لأن الجو فيها أدفأ، ورحلة الصيف إلى الشام؛ لأن الجو فيها أبرد، امتنَّ الله تعالى عليهم بذلك، وهذا من إضافة الفعل إلى زمانه.
وإذا أضيف الفعل إلى زمانه، فهل يلزم أن يستغرق الزمان كله؟
هل كل الشتاء وهم في اليمن؟ وكل الصيف وهم في الشام؟! كلا، فالرحلة تستغرق بعض الوقت، فعند ما نقول: صلاة الظهر؛ فإنها لا تأخذ إلا بعض الوقت.
والشتاء والصيف اسمان لفصلين من فصول السنة الشمسية، والشتاء يقدر فيها بحوالى (89) يومًا، والصيف يقدر فيها بـ(93) يومًا، والإمام مالك يقول: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها الآخر، والآية تصلح لهذا وهذا.
والآية فيها إشارة إلى معان كثيرة، منها:
1- أن الدعوة التي أذن الله أن تنطلق من جزيرة العرب ومن مكة، تحتاج إلى تواصل مع الأمم والشعوب الأخرى؛ ولهذا كانت الرحلة إلى اليمن وإلى الشام من إقامة العلاقة والتواصل والتعارف مع الناس، والاكتساب منهم؛ لأنه بالاتصال يتحقَّق التعارف، وهكذا الدعوة تحتاج إلى تواصل مع الأمم والشعوب الأخرى؛ ولذلك مهَّد تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الاتصال، الذي تمثل في رحلة الشتاء، ورحلة الصيف.
ولا يصح في الدعوة أن يعيش المسلمون في عزلة عن الناس، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراسل الملوك، فأرسل إلى كِسْرى وإلى الـمُقَوقس وإلى النَّجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، ثم كان يستقبل الوفود، فاستقبل نصارى نَجْران، واستقبل قبائل العرب من الجزيرة، وخاطبهم ودعاهم إلى الله، وهذا التواصل يحتاج إلى فهم الطرف الآخر، سواءً كان فردًا أو جماعة أو شعبًا أو قبيلة، فتفهم لغته وثقافته وتاريخه.
2- أن المصالح الدنيوية التي بها قِوام حياة الناس- مثل الاقتصاد- تحتاج إلى الاتصال، فهي مصالح متشابكة متبادلة، وهذا يخفى- مع ظهوره- على كثير من الناس، الذين يرون أن مجرد استفادة العدو من الشيء الذي نستفيد نحن منه يحتم علينا تركه وحرمان أنفسنا منه.
وهذا من الغلط البيِّن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونةٌ عند يهودي، وهذا اليهودي كان يستفيد من البيع، والنبي صلى الله عليه وسلم استفاد من الشراء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم راعى مصلحته، فمن الفقه أن ندرك هذه المصلحة المشتركة بين بني الإنسان، وأن على المرء أن يتحرَّى مصلحته ولو وافقت مصالح خصومه أو مخالفيه، ولا يعد هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان، أو الإعانة على الشر كما يتوهمه بعضهم!
فإذا كان للمسلمين عامة أو لطائفة منهم مصلحة في شيء، وهذه المصلحة قد يستفيد منها الكفار، فلا ينبغي أن نحرم أنفسنا من هذه المصلحة من أجل حرمان الآخرين، فمن الخطأ الكبير أن يكون تقديرنا للمصالح والمفاسد مبنيًّا على مراعاة حرمان الآخرين من هذه المصلحة، وإذا كانت هذه المفسدة سوف تضر الآخرين، لكنها تضرك أنت أيضًا، فهل من الحكمة أن تفعلها؟ كلا، فالمصالح الدنيوية والدينية متشابكة، ولا يوجد في الدنيا مصالح محضة أو مفاسد محضة، وإنما المصلحة الغالبة في طيها بعض المفسدة، والمفسدة الغالبة معها بعض المصلحة، فالقضية لها حسابات لا يمكن إدراكها إلا بالنظر السديد والعقل الراجح، ولهذا يحسن الاعتناء بدراسة مقاصد الشريعة.
3- أن الله تعالى يحفظ الفرد والجماعة والدولة والأمة في الأخلاق العامة التي يحتاج الناس إليها، فإذا رأيت العدل يضرب بجِرَانِه في بلد أو دولة أو أمة، ورأيت المسامحة، والمحافظة على حقوق الناس، فهذه الصفات جديرة بأن تمنح أهلها التقدم والتمكين، ولو كانوا كفارًا.
وإذا رأيتَ الظلم والبغي والعدوان ومصادرة الحقوق ينتشر في دولة أو مجتمع؛ فهو جدير بأن يحل به عقاب الله تعالى، ولو كان مسلمًا، كما قال ابن تيمية رحمه الله : «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة».
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «تقومُ الساعةُ والرومُ أكثرُ الناس». وكثرتهم تعني القوة، والشجاعة، والتسلط، والكثرة ليست محصورة في الكثرة العددية.
ولماذا هذه الكثرة فيهم؟
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: «إن فيهم لخصالًا أربعًا: إنهم لأحلمُ الناس عند فتنة، وأسرعُهم إفاقةً بعد مصيبة، وأوشكُهم كرةً بعد فرة، وخيرُهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسةٌ حسنةٌ وجميلةٌ: وأمنعُهم من ظلم الملوك».
فهذه الأخلاق عامة متعلقة بحقوق الناس، وإقامة العدل وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه.
وإن الله سبحانه ذكَّر قريشًا حفظَ مكانتهم؛ لما جُبِلوا عليه من مكارم الأخلاق، وقد ذكر عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن قريشًا كانوا إذا أصابتهم مجاعة أو مَـخْمَصة أو مَسْغبة، أدخل الرجلُ أولاده في بيت أو خباء، فمكثوا فيه جائعين حتى يموتوا من الـمَخْمَصة، بسبب الكرامة والأَنَفَة، فقال لهم هاشم بن عبد مناف: يا معشر قريش، إنكم أحدثتم حدثًا، حيث تتركون أنفسكم وأولادكم في بيت حتى تموتوا من الجوع، وبهذا تقلون أنتم، وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله تعالى، والناس لكم في ذلك تَبَعٌ. ثم أجمع أمرهم على أن ينشئوا هاتين الرحلتين إلى اليمن وإلى الشام وما ربحوه في هذه الرحلات يقتسمونه بينهم، غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، ولذلك قال مطرود الخُزاعي، وهو يمدحهم:
يا أيُّها الرجلُ المحوِّلُ رحلَه * هلَّا مررْتَ بآلِ عبدِ منـافِ
الآخذونَ العهدَ من آفاقِهـا * والراحلونَ لرحلةِ الإيلافِ
والخالطون غنيَّهم بفقيرِهم * حتى يكونَ فقيرُهم كالكافي
فكان الفقير مثل الغني سواءً بسواء فيما يكسبونه، فلما كانت عندهم هذه الخصلة في بذل المال والإنصاف، وعدم تفضيل الغني على الفقير؛ جعل الله تعالى لهم هذه المنزلة.
فمعنى الآية: تذكير قريش بنعمة الله تعالى عليهم، وهي نعمة لم تكن لغيرهم ببركة لزومهم للبيت الحرام وحمايته، وعمارة المسجد الحرام، فكانت القبائل كلها تحترم قريشًا، وحتى القبائل التي لم تكن تعظم الأشهر الحرم، كقُضاعة، وخَثْعم، وطَيٍّ، كانوا يعظِّمون قريشًا.
ومن هنا صارت مكة مركزًا تجاريًّا تُجلب إليه البضائع من كل مكان، وكانت الحبشة ترسل البضائع عبر البحر إلى جدة، وهكذا الشام واليمن، وقامت حول مكة الأسواق المعروفة، مثل عُكاظ ومَـجَنَّة وذي الـمَجَاز، وانتشرت الحركة الاقتصادية، وصار العرب يقدمون مكة من أجل الحصول على مكاسبهم وأرزاقهم، ولذلك تحسَّنت لغة قريش وتهذَّبت، وصار عندهم شيء من الإبداع في العلم والأدب والشعر، والعلاقات الاجتماعية، وكل هذا فيه تمهيد لانبثاق رسالة الإسلام وانطلاقها من هذا البلد الحرام.
ولهذا امتن الله تعالى عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } [العنكبوت: 67]. وقال في الآية الأخرى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [القصص: 57].
وهذا الإيلاف الذي ذكره تعالى لقريش في بقائهم بمكة، هو نقيض ما حكاه عن اليهود: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا } [الأعراف: 168].
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7