الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة قريش
الحلقة 158
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو الحجة 1442 هــ / يوليو 2021

* تسمية السورة:
لها اسمان:
«سورة قريش»، وهو ما ورد في المصاحف كلها، وغالب كتب التفسير.
و«سورة {لإِيلاَفِ قُرَيْش}»، وجاءت هذه التسمية في رواية عَمرو بن ميمون الأَوْدي، لما ذكر صلاةَ عمر رضي الله عنه المغربَ، وقراءته بهاتين السورتين، وذكره البخاري في «صحيحه».
 * عدد آياتها: أربع آيات عند الجمهور، وعدَّها أهل المدينة خمس آيات.
 * وهي مكية بإجماع أهل العلم، كما قال ابن عطية.
ورُوي عن الضحاك والكَلْبي أنها مدنية، وهو قول ضعيف، فالسورة ذات علاقة وثيقة- على الأرجح- بـ«سورة الفيل».
وهي سورة منفصلة عن «سورة الفيل»، وجاءت في مصحف أُبي بن كعب رضي الله عنه بجوارها غير مفصول بينهما بالبسملة، ولعل أبيًّا كان يرى أن السورتين سورة واحدة، والله أعلم.
وهذا ليس نصًّا، فقد يكون الأمر فيها كالأمر في «سورة الأنفال» و«سورة براءة»، حيث لم يفصل بينهما بالبسملة، ومع ذلك فهما سورتان، وبعض المفسرين يحكي الإجماع على أنهما سورتان لا سورة واحدة.
والسورة على قصرها حوت فوائد وحِكَمًا عظيمة، وما أكثر الذين يقرؤونها ولا يدركون حِكَمها وفوائدها، أو لا يفهمون معناها.
 * {لإِيلاَفِ قُرَيْش}:
الإيلاف: مأخوذ من الإِلْف والأُلفة والتأليف، وهو أن يلزم الإنسان الشيء، ويعكف عليه، ويعتاده، حتى يصبح مألوفًا، فالمعنى: لإلف قريش، أي: لكي يألفوا ويعتادوا ويسهل عليهم أمر السفر.
وفي اللام في أول السورة ثلاثة احتمالات:
الأول: أن تكون متعلقة بما قبلها، في «سورة الفيل»، وعليه فالمعنى: أن الله تعالى يمتن بإهلاك أصحاب الفيل، وجعلهم كعَصْف مأكول، وحماية هذا البيت؛ من أجل «إيلاف قريش».
وذلك أن الله أهلك أصحاب الفيل؛ من أجل بقاء قريش ومصالحهم، وفي ذلك كثير من الحِكَم والأسرار التي منها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
ومنها: بقاء أثرهم؛ فقريش هم سَدَنة البيت وحماته، واستمرت مكانتهم في الإسلام، حتى قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش». يعني: أمر الخلافة والحكم والسلطان، وظلت قريش في عهد الخلفاء الراشدين، وبني أُمَيَّة، وبني العباس، محط أنظار المسلمين، وكانت فيهم السيادة والسلطان العام للأمة كلها.
ولأن لهذه القبيلة شأنًا عظيمًا في تاريخ الإسلام، فهي القبيلة الوحيدة التي ذُكر اسمها في القرآن الكريم.
والقول بترابط هاتين السورتين، وأن اللام فيها مرتبطة بما قبلها، قول ابن إسحاق في «السيرة»، وجماعة من أهل اللغة، كالفرَّاء والزجَّاج وأبي عُبيدة، وقال القرطبي: «هو معنى قول مجاهد».
وحسبك بمجاهد في التفسير؛ لأنه أخذه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا القول رواية عن سَعِيد بن جُبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الزمخشري: «وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلَّق معنى البيت بالذي قبله تعلُّقًا لا يصح إلا به».
وقال الطاهر ابن عاشور: «يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورةً مستقلةً، فهي ملحقة بـ«سورة الفيل»، فكما تُلحق الآية بآية نزلت قبلها، تُلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها».
لكن استنكر ابن جرير وجماعة أن تكون اللام متصلة بقصة الفيل، وأن ما في «سورة قريش» اعتماد على معنى مفهوم في أذهان السامعين، ولا يصح عندهم أن يكون المعنى: أهلكنا أصحاب الفيل من أجل إيلاف قريش.
وذكر البيت موجود في السورة نفسها: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت }. فحفظ الله تعالى الكعبة لإيلاف قريش، والمعنى تام وغير مرتبط بـ«سورة الفيل»، كما أن معنى «سورة الفيل» تام.
وقريش: اسم جد القبيلة، وجدُّهم عند جمهور أهل النسب: فِهر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانة، وبالإجماع فإن قريشًا هم بنو النَّضْر بن كِنانة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن بنو النَّضر بن كِنانة، لا نَقْفُو أُمَّنا، ولا نَنْتَفي من أَبِينا».
وقريش تصغير: قرش، وهو سمك ضخم مخيف، يأكل السمك، ويهاجم السفن، قيل: إن قريشًا سُمِّيت بذلك لضخامتها ومكانتها ومنزلتها؛ ولأن القبائل كلها تذوب فيها، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المدينة: «أُمرت بقريةٍ تأكل القُرَى». وليس المقصود حقيقة الأكل، وإنما المعنى: أنها تغلبها وتنتصر عليها، فسُمِّيت بهذا الاسم؛ لهيمنتها وقوتها.
وقيل: من القِرْش وهو المال؛ لأنهم أهل تجارة.
وقيل: من التَّقَرُّش، وهو الاجتماع؛ لأنهم تفرقوا ثم اجتمعوا.
وقد كانت مكة أرضًا جرداء، كما قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } [إبراهيم: 37]، فلما كان البيت بأرضهم؛ عظَّمهم العرب، ولما وقعت حادثة الفيل، وردَّ الله كيدهم، زاد قَدْر قريش، وارتفع شأنهم عند العرب، فكانوا يتسابقون إلى رضاهم وحمايتهم، ويسمونهم: جيران بيت الله، وأحيانًا يسمونهم: أهل الله.
ولو هدم البيت أو صار كغيره من البيوت بلا قدسية ولا مكانة؛ لزالت هذه المنزلة الرفيعة لقريش عند العرب، ولصاروا مثل القبائل الأخرى.
فالاحتمال الأول: أن يكون معنى: {لإِيلاَفِ قُرَيْش } أن الله تعالى حمى البيت، وأهلك مَن أراد به سوءًا، من أجل إيلاف قريش، وأن يألفوا رحلة الشتاء والصيف، وأن يتصرَّفوا في المعاش، وأن تكون لهم تلك المنزلة التي ستبقى في خدمة الدين والدعوة والرسالة.
وثَمَّ احتمال آخر، وهو أن يكون المعنى متعلِّقًا بآخر السورة في قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت }، أي: اعبدوا يا قريش ربَّ هذا البيت، الذي أنعم عليكم برحلة الشتاء والصيف، وغيرها من النعم، التي كان بها عزكم ومجدكم.
وإنما خص الله تعالى هذه النعمة بالذكر- وهي: رحلة الشتاء والصيف- لأنها سر تفوقهم، والبيت من ميراث الأنبياء عليهم السلام، وهو من الأماكن المعظَّمة عند الله تعالى، فكأنه يعاتب قريشًا ويقول: كيف يتحول بيت الله إلى معبد للأصنام؟! وقد كان فيه ثلاثمئة وستون صنمًا تُعْبَد من دون الله، فيكون في السورة تقديم وتأخير، يعني: اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع، وآمنكم من خوف، وآلفكم برحلة الشتاء والصيف.
وذكر هنا فضيلة الشرف بوراثة النبوة والبيت، وفضيلة المجد والسعي في الكسب والتجارة.
وفي السورة وجه ثالث، لا يكون له تعلق لا بآخر السورة، ولا بـ«سورة الفيل»، وإنما يكون ذلك على سبيل التعجب، فيكون في الآية محذوف تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، ومع ذلك فهم يَلِجُّون في شركهم ومعصيتهم، ولا يشكرون نعمة الله تعالى. وهذا المعنى أقرب من الذي قبله.


سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022