من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة الفيل
الحلقة 156
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو القعدة 1442 هــ / يونيو 2021
* {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيل }:
ترمي: فعل مضارع، والمضارع يدل على أن الفعل يحدث الآن، وإنما جاء التعبير بالمضارع من أجل استحضار الحال، كأنك تتخيَّل هؤلاء القوم والطير ترميهم، كما قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } [فاطر: 9]، يعني: حالة إثارتها للسحاب؛ وقد جاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر هذه الحجارة التي يرمون بها، وقال: «لما أرسل اللهُ الحجارة على أصحاب الفيل، جعل لا تقع منها حجر برجل منهم، إلا نفط مكانه». قال: «فذلك أول ما كان من الجُدَرِي».
وهو مروي عن سَعيد بن جُبير وغيره، وذكره معظم المفسرين، ولم يكن العرب يعرفون مرض الجُدَري قبل الحادثة.
وهنا أود أن أشير إلى أن بعض المفسرين المعاصرين، كالشيخ المراغي، والشيخ محمد عبده، وجماعة قالوا: إن هذه الطير مثل الذباب أو البعوض التي تنقل الأمراض والأوبئة، وأنها نقلت مرض الجُدَري إلى هؤلاء، وقالوا: إن هذا فيه عبرة.
وفي كل صنع ربنا تبارك وتعالى عبرة وأُسوة، حتى خلق البعوض أو الذباب وما هو أحقر منهما، ففيه عبرة لـمَن اعتبر، لكن الله تعالى ذكر أنها ترميهم بحجارة، وتأويل الحجارة بالجراثيم أو الأوبئة بعيد لا يساعده السياق، وهذه الحجارة من جنس الحجارة التي عُوقب بها قوم لوط، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُود } [هود: 82]، والسِّجيل المنضود هو الحجارة من الطين، كما يدل لذلك قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِين } [الذاريات: 33].
فتبيَّن من هذا أن ما أُرسل على أصحاب الفيل هو نظير ما أُرسل على قوم لوط؛ ولذا فإن تأويل ذلك بالجراثيم أو الجدري بعيد.
والأقرب أن الأمر كان آية ربانية خارقة للمألوف، وربنا تعالى على كل شيء قدير، والذي أنزل على قوم لوط هذه الحجارة قادر على أن ينزلها على هؤلاء، فهذا من حكمته وقدرته وانتقامه ممن عصوا أمره.
وبعض المفسرين المتقدِّمين يذكرون عن الحجارة من سجِّيل شيئًا آخر، فبعضهم يقول: إن السِّجِّيل هو: السِّجِّين المذكور في قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّين } [المطففين: 7]، أي: فهي من النار، وبعضهم يقول: السِّجِّيل هي: السماء الدنيا.
وهذا لا يعرف في لغة العرب، وبعضهم يقول: السِّجِّيل هو: السِّجِل المذكور في قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء: 104]، أي: أن هذه الحجارة مما كُتب في القدر واللوح المحفوظ أن يعاقبوا بها.
وكل هذه الأقوال بعيدة، والقرآن يُفَسِّر بعضه بعضًا، فذكر الله تعالى عن قوم لوط أنهم عُوقبوا بحجارة من سِجِّيل، و{مِّن } هنا بيانية، يعني: المادة التي تكونت منها هذه الحجارة هي السِّجِّيل، وهي الطين المتحجِّر، وليست الحجارة الصخرية.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7