من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة الفيل
الحلقة 157
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو القعدة 1442 هــ / يونيو 2021
* {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول }:
قيل: إن العَصْف هو: الشيء الذي تعصف به الرِّياح، ولذلك قال بعضهم: العَصْف: ورق الحنطة، وقال بعضهم: التبن.
والعَصْف ورد في القرآن الكريم في موضع آخر: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَان } [الرحمن: 12]، وهو: الورق أو التبن، وقيل: هو: القشر الذي يكون على حبة البُرِّ، فيزال عنها.
ومادة «عصف» هي ما يعصف أو يحطم من الزرع، مثل التبن، أو الورق اليابس.
والله لم يجعلهم كعَصْف فقط، بل كعَصْف مأكول، وكيف يكون العَصْف مأكولًا؟
يحتمل أن يكون معنى مأكول، أي: أكله الدود، فالورق قد يصير ضعيفًا شديد الضعف واهيًا.
ويحتمل أن يكون المعنى كزرع أُكِل حبه وبقي العَصْف وهو القشر.
ويحتمل أن يكون المعنى أُكِلَ أكثرُه، وبقي بعضه، فإنه إذا أكلت البهائم التبن أو غيره، فإنها تأكل منه، ويبقى منه بقية مقطعة ممزقة منثورة ذات اليمين وذات الشمال، وهذا أحقر ما يكون، يعني: لم يجعلهم مثل التبن فقط، بل مثل التبن الذي أكلت منه الحيوانات وفرَّقته، فلم يعد له قيمة، حتى إن البهائم استنكفت عن ذلك لحقارته.
وفي هذه القصة آية وعبرة أجراها الله تعالى حماية لبيته العتيق، فإن الله امتن بحمايته يوم كان الناس في الجاهلية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هذا إرهاصًا للبعثة، وحماية للنبي صلى الله عليه وسلم، وإيذانًا بانتشار الرسالة، وقوتها وعظمتها.
ومع ذلك يذكر التاريخ أن الكعبة على مدى حكم الإسلام لها قد تضرَّرت أكثر من مرة، فالـحَجَّاج حاصر الكعبة في عهد عبد الملك بن مَرْوان، ورماها بالـمِنجنيق، فتهدَّم بعضها، ومع ذلك لم يأت لجيشه ما جاء لأصحاب الفيل.
وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم أَخْبر أنه في آخر الزمان «يُخَرِّبُ الكعبةَ ذو السُّوَيْقَتَيْن من الحبشةِ». تصغير ساق!
وأصحاب الفيل هم من الحبشة، فربما يكون عندهم في بعض كتبهم أنهم هم الذين يُخرِّبون الكعبة، وهذا قد يكون موجودًا في الكتب السابقة، فلعلهم تلقَّوا في كتبهم التي يتوارثونها أن الحبشة يُخرِّبون الكعبة، فكل واحد منهم يستعجل أن يكون له هذا الذي يعتبره شرفًا، ويريد أن يتم هذا على يده، والله تعالى أعلم.
وهذا كثير ما يقع، كما تجده في هذه الأمة في الروايات والآثار الواردة في ظهور الـمَهْدي الذي يملأ الأرض قِسْطًا وعدلًا كما مُلئت جَوْرًا وظلمًا، فمنذ عهد بني أمية وكثير من الناس يدَّعون هذا، فقد يكون مجيء أصحاب الفيل إلى مكة؛ لأنهم يجدون في كتبهم مثلما نجد نحن في كتبنا أن الذي يهدم الكعبة هو ذو السُّوَيْقَتَيْن، فاستعجلوا ذلك وعاقبهم الله تعالى، وإنما يكون هدمها في آخر الزمان، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كأني به أسودَ أَفْحَجَ، يقلعُها حجرًا حجرًا».
والسؤال: لماذا أنزل الله تعالى ما أنزل على أصحاب الفيل، ولم يعاقب الـحَجَّاج ومَن معه، ولم يعاقب ذا السُّوَيْقَتَيْن؟
والجواب- والله أعلم-: أن العقوبات كانت تأخذ الأمم قبل البعثة المحمدية، كما حكى الله عن أمم الأنبياء، فهكذا قصة أصحاب الفيل، وأن قصة أصحاب الفيل وما نزل بهم كان من نوع الإرهاص بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، فهي حال خاصة تلفت أحياء العرب إلى هذا البيت وما سيكون حوله من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما بعد ذلك فقد تحمَّلت الأمة مسؤولية الجهاد والدفاع والمدافعة عن البيت، ولا يلزم أن مَن قصده بسوء يُنتظر به ما نزل بأصحاب الفيل؛ فالحَجَّاج أصاب الكعبة بالمِنجنيق، والقرامطة قصدوا الكعبة بالعدوان، وانتزعوا أعظم أحجارها؛ الحجر الأسود، ولم يصح حصول أمر استثنائي أو عقوبة سماوية بهم؛ ليتحمل المسلمون مسؤوليتهم، ويجري الله عقوبته على مَن ظلم بأيديهم:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [التوبة: ١٤].
أما ما يتعلق بذي السُّوَيْقَتَيْن فإن الأمر مختلف؛ لأن الكعبة إنما تكون عظمتها بمَن يطوف بها ويصلِّي إليها، والله جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، فلما لم يبق في الأرض مَن يحج، ولا مَن يعتمر، ولا مَن يصلِّي إلى البيت الحرام، فقد تعطلت منافعها، فيأذن الله تبارك وتعالى بهدمها آخر الزمان حينما لا يبقى في الأرض مسلم يقول: «الله الله»، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أيضًا: «وليُسْرَى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية». وذلك حينما يندرس الإسلام، وينتهي أمره قبيل قيام الساعة، والله تعالى أعلم.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7