(موقف السلطات الفرنسية من هجوم 20 أوت 1955م)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 278
بقلم: د.علي محمد الصلابي
شعبان 1443 ه/ مارس 2022م
لقد اعترف المسؤولون الفرنسيون أنفسهم بالذهول والقلق وخيبة الأمل مما لحق بالقوات العسكرية والمدنية من خسائر وأضرار مادية وبشرية، وصرحوا إثر تلك العمليات بقولهم: إن مبادرات المجاهدين قد سببت حيرة واضطراباً في صفوف الجيش الفرنسي المحارب في الجزائر.
وأما فيما يخص الإجراءات العسكرية التي قررت السلطات الفرنسية اتخاذها عقب تلك العمليات، فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أ ـ تعزيز القوات العسكرية الفرنسية في الجزائر:
بعد هجومات 20 أوت 1955م وما ترتب عليها من خسائر مادية وبشرية، أصبح هم السلطات العسكرية الفرنسية الوحيد هو إعادة الأمن إلى نصابه بأي طريقة كانت، وفرض إرادة فرنسا على الثوار الجزائريين، وإخضاعهم بالقوة للسلطات الفرنسية، وأن هجومها على الثوار سيتواصل وأن الحرب ضدهم لن تنتهي إلا بعد إعادة السلم العام.
وللتمكن من ضرب الثورة الجزائرية والقضاء عليها وعلى القائمين بها، لجأت السلطات الفرنسية إلى تعزيز قوات الجيش الفرنسي في الجزائر، عن طريق مضاعفة عدد الجنود والضباط الفرنسيين، الشيء الذي جعل هذه القوات ترتفع من 000،80 جندي وضابط في بداية 1955م إلى 000،190 جندي وضابط خلال نفس السنة، وبالإضافة إلى ذلك فإنها قد قامت بإجراء عسكري اخر، يتمثل في إرسال الفيالق وتوزيع السلاح على المستوطنين الأوروبيين المقيمين في القرى البعيدة عن المراكز العسكرية.
غير أن الشيء الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن عمليات 20 أوت 1955م قد أثرت في القوات العسكرية الفرنسية نفسها، حيث انتشرت بين الأفراد المجندين روح التمرد والعصيان ضد قرار تعزيز القوات العسكرية الفرنسية لمواجهة جبهة التحرير الوطني والشعب المساند لها، فقد تمرد أكثر من 400 جندي فرنسي ـ في القوات الجوية ـ في محطة ليون بفرنسا، ورفضوا الذهاب إلى الجزائر لأداء الخدمة العسكرية، ولتحاشي أي حادث تقرر إعادة الجنود إلى ثكناتهم، كما تمرد أكثر من 200 جندي من فرقة المدفعية رقم 401 وتظاهروا في كنيسة سان سيفيران، وقاموا بتوزيع منشورات عبروا فيها عن قلقهم وخجلهم من استخدامهم بالقوة في قضية ليست في صالح الفرنسيين.(1)
ب ـ أساليب القمع الوحشية التي استخدمتها فرنسا:
لقد عمد المسؤولون العسكريون الفرنسيون في الجزائر عقب تلك الهجومات، إلى استعمال أساليب وحشية جهنمية، وإلى توظيف سلوكيات عنيفة لا مسؤولة، تمثلت في اضطهاد المسلمين الجزائريين والانتقام منهم دون تفريق بين الكبار والصغار، وبين النساء والرجال، فقد أشعلوا النار في كل مكان، ونشروا الموت في المناطق كافة، باختصار لقد كان انتقام القوات العسكرية الفرنسية من الثورة والقائمين بها في المنطقة الثانية شديداً، فقد قامت بمجازر رهيبة واسعة النطاق، كما مارست أقسى أنواع التعذيب والتنكيل والإبادة الجماعية على سكان القرى والمشاتي والمدن التي وقعت بها هجومات 20 أوت 1955م.
ولم يكتف الضباط العسكريون الفرنسيون باستعمال تلك الأساليب اللاإنسانية، بل ذهب بهم حقدهم إلى أبعد من ذلك.. فقد أصبحوا يتفننون في تعذيب الشعب الجزائري إلى درجة فاقت النازيين في حد ذاتهم، حيث يقول أحد الضباط الفرنسيين في هذا الشأن: لقد كان الألمان في أساليبهم غلمان صغار بجانبنا.(2)
كان الانتقام في كل المدن والقرى بالشمال القسنطيني شديداً، فبمجرد أن وقع هجوم 20 أوت 1955م الذي فاجأ وأذهل كل الأوساط الفرنسية ؛ أسرع المستوطنون الأوروبيون إلى تنظيم أنفسهم على هيئة حرس غير نظامي، وفتكوا بسكان المنطقة الثانية معتمدين في ذلك على سياسة الإبادة الجماعية، والقضاء على الحيوانات وإحراق القرى والمداشير، فأعادوا إلى الأذهان ذكرى مذبحة 8 ماي 1945م، ففي وادي زناتي مثلاً كانت الإبادة جماعية، فقد امتلأت شوارع وطرقات هذه المدينة بجثث القتلى، التي كان الفرنسيون يجبرون الجزائريين على جمعها ودفنها لكي يعدَموا هُم بدورهم بعد ذلك.
وفي مدينة سكيكدة يكفي ذكر تلك الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الفرنسية بالملعب البلدي للمدينة، والتي ذهب ضحيتها 500،1 مواطن، لأخذ فكرة واضحة عن شراسة وهمجية أولئك الذين يدعون الحضارة والتمدن، وفي مدينة القل السياحية قامت القوات العسكرية الجوية الفرنسية بقنبلة القرى والمشاتي وتدمير المنازل، أما في مشنة الزفران بضواحي سكيكدة فقد قتلت القوات الفرنسية ما لا يقل عن 500،3 مواطن جزائري، كما استعملت القوات الجوية لحرق المزارع والبحث عن المجاهدين في الجبال والغابات، وتضاف إلى كل هذه المجازر الرهيبة تلك الاعتقالات العشوائية التي لم ينج منها أي جزائري، والزج بالمعتقلين في المعسكرات المزدحمة بالمساجين وإعدامهم في غالب الأحيان بدون أية محاكمة.
وباختصار لقد أصبحت الحالة السائدة في الجزائر انذاك يسودها قانون الإرهاب أو إرهاب من غير قانون.(3)
كل الأساليب الوحشية المستعملة قد أدت إلى نشر الوعي بين أفراد الشعب الجزائري، الذين أدركوا أكثر من أي وقت مضى، أن الطريق الوحيد للتخلص من الاحتلال الفرنسي هو مواصلة الكفاح المسلح ضده، فغادر سكان المنطقة الثانية المدن والقرى والمشاتي والتجؤوا إلى جبالها للوقوف بجانب الثوار.
ومن جهة أخرى فقد أدت تلك الأساليب إلى وضوح الرؤيا لدى الصحافة الفرنسية، التي اعترفت عقب هجمات 20 أوت 1955م ببشاعة وهمجية القوات الفرنسية، ونقلت تلك المجازر والإبادة الجماعية لإطلاع الرأي العام الفرنسي بما ترتكبه القوات الفرنسية في الجزائر.
وأما الصحافة الإنجليزية فقد علقت على الإعدامات التي تقوم بها السلطات العسكرية الفرنسية في الجزائر بقولها: متوسط عدد القتلى الجزائريين منذ 1954م زاد على 200 قتيل في الشهر، وأما في سنة 1956م فقد وصل المتوسط إلى 1400 قتيل في الشهر.(4)
ج ـ إنشاء الأقسام الإدارية المتخصصة « S.A.S »:
لقد تقرر في 26 ديسمبر 1955م عقب هجوم 20 أوت 1955م إنشاء أقسام إدارية متخصصة « S.A.S » بكل أنحاء القطر الجزائري، وهي عبارة عن مكاتب متخصصة في إدارة وتسيير شؤون الجزائريين بالأرياف الجزائرية، وقد تم استقدام ضباط عسكريين فرنسيين لتولي إدارتها، وذلك نظراً لما اكتسبوه من خبرة في المغرب الأقصى، الذي لا يختلف مجتمعه عن المجتمع الجزائري من حيث العادات والتقاليد واللغة، فقد تنقلوا في الأرياف وتدربوا فيها واطلعوا على حياة سكانها ودرسوا عاداتهم وتقاليدهم وتعلموا لغتهم، فأصبح الاتصال بهم والتعامل معهم أمراً سهلاً.
ويتمثل الدور الأساسي لهذه الأقسام في الاحتكاك بالمسلمين الجزائريين في الريف، والتقرب منهم بهدف الحصول على معلومات منهم حول الثورة والثوار، تخدم القوات العسكرية الفرنسية وتمكنهم من القضاء عليها، وذلك مقابل خدمات اجتماعية تقدم إليهم في شكل توفير العمل والغذاء والتعليم قصد تحسين مستوى معيشتهم، وهي محاولة استعمارية لتطويق الثورة وعزلها عن الشعب،وكذلك اختراق وتصفية وتدمير جيش التحرير الوطني.(5)
د ـ الإجراءات السياسية الإدارية:
فهجومات 20 أوت 1955م جعلت الحاكم العام بالجزائر يدرك خطورة الوضع السياسي الذي أصبح يهدد الجمهورية الفرنسية الرابعة، وهذا ما جعله يلتجأئ في شهر سبتمبر 1955م إلى تحضير مشروع لإحداث إصلاحات سياسية إدارية في الجزائر،وقدمه للمجلس الجزائري للموافقة عليه، وكان جاك سوستال قد ركز في ذلك المشروع على دمج الجزائر في فرنسا وإلحاقها بها وجعلها جزءاً لا يتجزأ من التراب الفرنسي، وذلك عن طريق التطبيق الفعلي لقانون 20 سبتمبر 1947م.
وكان جاك سوستال يعتقد أن إحداث بعض الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، ومنح الجزائريين بعض الحقوق السياسية والإدارية، سيكون كافياً لعزل الثورة والقائمين بها عن الشعب، وبالتالي القضاء عليها نهائياً، ومما تجدر الإشارة إليه أن جاك سوستال عند وضعه لبرنامجه الإصلاحي، قد كان اعتماده كبيراً على تلك المجموعة من النواب الممثلين للمسلمين الجزائريين بالمجلس الجزائري، أطلق عليها مجموعة المعتدلين أو مجموعة المثقفين المتنورين، غير أن جاك سوستال كان يجهل تماماً بأن جبهة التحرير الوطني قد جعلت إنذارات شديدة اللهجة لهذه الإطارات المثقفة والمتنورة، وذلك عن طريق المناضلين «عبان رمضان وبن خدة»، وكانت تلك الإنذارات تتمثل في الاتصالات الشخصية وتوزيع المناشير والمراسلات التهديدية، الخ..
وهكذا فبعد تلك الإنذارات، وبعد قتل وجرح كل من يتقرب من فرنسا، أو يبدي رغبته في التعاون معها ؛ قرر المنتخبون من المسلمين الجزائريين عشية انعقاد دورة المجلس الجزائري تكثيف التشاور فيما بينهم، وانتهوا إلى تحرير وثيقة أصدروها في شكل لائحة، أصبحت فيما بعد «لائحة مجموعة الواحد والستين».
وكانت اللائحة التي صيغت في 26 سبتمبر 1955م قد تمحورت حول ما يلي:
ـ وقف العلميات العسكرية.
ـ إلغاء قانون حالة الطوارأئ ومبدأ المسؤولية الجماعية.
ـ إطلاق سراح المساجين.
ـ التفاوض مع المحاربين.
ـ التنديد بسياسة الإدماج التي تجاوزها الزمن.
وأهم ما جاء فيها هو الاعتراف بأن جبهة التحرير الوطني هي الممثل الوحيد للشعب الجزائري، وبذلك تكون هذه اللائحة قد جاءت لتضفي الطابع الوطني على القضية الجزائرية.
إن سياسة الإدماج التي بقي جاك سوستال يدعو إليها ويدافع عنها قد تجاوزت الزمن، وفشل في مشروعه وتحطمت معنوياته في تطبيق سياسة الإدماج، واتخذ رئيس الحكومة الفرنسية ادقار فور بتاريخ 2 ديسمبر 1955م قراراً لحل المجلس الوطني الفرنسي ونتج عنه حل المجلس الجزائري، وتدهورت العلاقات السياسية بين رئيس الحكومة الفرنسية ادقار فور والحاكم العام بالجزائر جاك سوستال.(6)
مراجع الحلقة الثامنة والسبعون بعد المائتين:
)) عقيلة ضيف الله، التنظيم السياسي والإداري للثورة ص 230.
2)) المصدر نفسه ص 231.
3)) التنظيم السياسي والإدراي للثورة ص 232.
4)) المصدر نفسه ص 234.
(5) المصدر نفسه ص 234.
(6) المصدر نفسه ص 238.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: