الأربعاء

1447-01-14

|

2025-7-9

الثورة الجزائرية بين أحمد توفيق المدني وملك ليبيا

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 312

بقلم: د. علي محمد الصلابي

ذو الحجة 1443 ه/ يوليو 2022م

يقول الأستاذ أحمد توفيق المدني: رجعت للقاهرة يوم 23 ماي، فإذا بالأخ العقيد فتحي الديب ـ رئيس المخابرات المصرية ـ يدعوني بسرعة: القضية خطرة. ذهبت إليه فبادرني: أفتدري ماذا فعل الكلام في ليبيا؟ قلت: أخيراً إن شاء الله، قال: إن الملك أعطى أوامره بأن لا يدخل السلاح الجزائري أصلاً إلى ليبيا بواسطة البر، وأعلمونا رسمياً بأن ذلك السلاح يجب أن يرسل عن طريق البحر. ومعنى هذا أن فرنسا تتسلمه لقمة باردة كما تسلمت السفينة «اتوس» من قبل. ونحن نرفض إطلاقاً أن نسلم فرنسا سلاح الجزائر، فعليك يا شيخ توفيق أن تسافر حالاً دون أدنى انتظار إلى ليبيا وتقنع هؤلاء ال.... بوجوب فتح الحدود، وإعادة الحالة إلى سالف عهدها، وإلا فسيمنع السلاح عن الجزائريين، والأمر يومئذ لله.(1)

وبعد سفر شاق بالسيارة وصل إلى طرابلس، وقال: وأسرعت بمقابلة الرئيس ابن حليم، فإذا به مهموم كئيب، قلت دون مقدمات: كيف وقع هذا؟ قال: العلم عند الملك، قلت: وكيف العمل لإنقاذ الموقف؟ قال: الشايب «الملك» وحده هو الذي يستطيع أن يعمل شيئاً، قلت بصراحة: هل للأجانب من إنكليز وفرنسيس دخل في هذا؟ فابتسم ابتسامة صفراء وقال: ربما كان هذا، وإنما لا حجة لي عليه، أسرعْ بالذهاب لطبرق، وسأخبر الأخ الشلحي رئيس ديوان الملك بقدومك عليه، ورتّب الشلحي موعداً للأستاذ المدني، قال:

ذهبت وأنا متوتر الأعصاب متجهم عابس، وقد فارقني في تلك المناسبة ما كان مشتهراً عني من تفاؤل ومن ابتسام يكاد يكون تقليدياً، وأدخلوني على الملك في غرفة صغيرة بسيطة بلغت الحد الأقصى من البساطة، ووقف لي الملك كعادته مرحباً، فما كاد بصري يقع عليه حتى تشنجت وسالت دموعي مدراراً وما كنت قبل ذلك أعرف البكاء، إطلاقاً. قال لي الملك مندهشاً: يا لطيف، ماذا جرى؟ ماسبب هذه النوبة العاطفية؟ قلت وصوتي متهدج لا يكاد يبين:

أبكي على هذه اللحية البيضاء التي شابت في الإسلام والجهاد، وستساق إلى جهنم مجرمة اثمة، أبكي على هذا الجهاد الطويل الذي كان ماله الانهيار والاستخذاء، أبكي وأنا أرى المجاهدين والمجاهدات في الجزائر الدامية يمسكون بتلابيبك يوم القيامة، يقولون: ربنا هذا الذي أسلمنا للقتل، هذا هو سبب ما قاسينا من موت وخراب وانتهاك حرمات، هذا هو الذي منع سلاحنا، فمكّن العدو منا، فنكبنا بعد عز، وأجهز علينا بعد نصر مبين، هذا..

وما تركني الملك أستمر، بل تقدم خطوة، وأخذني من يدي وأجلسني إلى جانبه، وأصفرّ لونه فوق اصفراره الطبيعي، حتى أصبح كليمونة الصيف، وقال وصوته الضعيف لا يكاد يسمع: إن الذي قلته فظيع، فظيع جداً، فبيِّن لي الأمر، وإن كنت أنا قد أسأت عن غير علم، فأنا مستعد لإصلاح ما أفسدت، وأستغفر الله العظيم.

هدأ روعي شيئاً، وشرحت له فداحة الأمر الذي أصدره بمنع ورود السلاح الجزائري من مصر إلى ليبيا إلا بحراً، وفرنسا تتبعنا بجواسيسها في كل مكان، وقصصت عليه قصة السفينة «اتوس»، وكان على علم منها، وقلت له وأنا أتعمد المبالغة: إن لم يدخل السلاح الجزائري ليبيا فوراً حالاً، فإن الجهاد الجزائري يوشك يكون ماله الاندحار والانهيار والمسؤولية عليك وحدك.

قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وفكر قليلاً، ثم دق جرساً فجاءنا أحد الرجال بقهوة طيبة فتناولناها ونحن سكوت، وقال: إن إخواننا المصريين وخاصة ملحقهم العسكري إسماعيل صادق، قد فقدوا اتزانهم عندما وقع العدوان الثلاثي، وحاولوا إحداث فتنة نكراء بالبلاد الليبية، ودفعوا بالعامة المتحمسة إلى إحراق بعض المحلات، ووزعوا عليهم شيئاً من السلاح الجزائري، فاضطررنا لإصدار أمر بأن لا يدخل ذلك السلاح إلا بحراً، حتى تتسلمه الأيدي الجزائرية دون واسطة بمرفأ طرابلس، هذا فقط ما وقع، ولم يخطر ببالي أصلاً أن ذلك سيكون بلاء على الكرام المجاهدين. لكننا سنصلح الأمر حالاً، ثم ألقى بيده على الجرس فدقه مرتين، أو أكثر، فإذا بقائد عسكري ذي رتبة رفيعة يقف على الباب ويحيي التحية العسكرية ويقول في حزم: سيدي.

قال له الملك: أعط الأمر حالاً لقيادة الحدود الشرقية، بأن تفتح الطريق أمام السلاح الجزائري، وأن تسهل له أسباب المرور. فاندهش القائد العسكري، وظهرت على وجهه علامات الحيرة، وظل واقفاً.(2)

فقال له الملك بحزم: نفذ ما أمرتك حالاً، حالاً دون تردد. فألقى التحية العسكرية بقوة، ضارباً برجله الأرض، وما كاد يرجع أدراجه حتى قال له الملك: اسمع إذا ما نحن خسرنا استقلال ليبيا وكسبنا استقلال، فنحن الرابحون. وذهب «القائد محمود أبو قويطين». وقلت للملك وقد شرح الله صدري: هنيئاً لك يا سيدي. قال في شبه ابتسامة: بل هنيئاً للكرام المجاهدين في الجزائر، فإذا ما انتصر الإسلام يوماً، وسينتصر لا محالة، فالفضل لله أولاً، والفضل لهم أخيراً.

وفي صبيحة الغد، وأنا على مقربة من طبرق، رأيت سيارات النقل الضخمة تسير بأقصى سرعتها تحمل الأحرار المجاهدين الأبرار، طوبى لهم وحسن ماب.(3)

مراجع الحلفة الثانية عشر بعد الثلاثمائة:

)) أحمد توفيق مدني، حياة كفاح (3/454).

2)) حياة كفاح (3/456).

(3) المصدر نفسه (3/457).

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022