الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان:

(تولي علي قلج بيلربك أميرا على الجزائر)

الحلقة: التاسعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020


أسند منصب بيلربك الجزائر إلى قلج علي في (14 صفر سنة 976هـ الموافق أغسطس 1568م) وعرف عنه العزم في تسيير الإدارة والبطولة الحربية والشجاعة.
اتخذ قلج علي خطوات عملية لتنفيذ مشروع خطير للغاية، وهو إعادة الحكم الإسلامي في إسبانيا وتحرير الشمال الإفريقي من الجيوب الصليبية، فوجه اهتمامه إلى الأسطول أكثر من غيره وصار بعده مبعث قلق ورهبة للأوربيين، كما انتزع من الفرنسيين حق احتكار المرجان بمركز القالة بسبب تماطلهم وتخلفهم عن دفع الضريبة لثلاث سنوات مضت، وتصرفهم في المنطقة التي نزلوا فيها تصرف السادة.
أ ـ إعادة تونس للحكم العثماني:
صمم قلج علي على ضرورة تصفية القواعد الإسبانية في تونس، قبل أن يبدأ نشاطه في شبه الجزيرة الأيبيرية، وذلك لتعبئة الدفاع عن طرابلس والجزائر، وكان الإسبان قد اتخذوا من تونس نقطة ارتكاز وقاعدة انطلاق على العثمانيين في طرابلس والجزائر، لذلك لابد من تأمينها.
كان قلج علي على اتصال بالوزير الحفصي أبي الطيب الخضار، ورأى ذلك الوزير أن فتح تونس قد حان وقته، وأرسل إلى قلج علي يهون عليه أمرها ويتعهد له بتقديم العون.
جهز بيلربك الجزائر قلج علي جيشاً مؤلفاً من نحو سبعة الاف مقاتل وزحف به نحو تونس، فقابل سلطانها أبا العباس أحمد بباجة، ثم بعد قتال عنيف انهزم الأمير الحفصي، وتقدم قلج علي بمجموعة نحو تونس، وأخذ بيعة أهلها للسلطان سليم الثاني.ورتب حامية لحراسة البلاد تحت رعاية حيدر باشا وعاد إلى مقره بالجزائر، وبقيت منطقة حلق الواد بيد الإسبان، وكانت قوات قلج علي لا تكفي وحدها لتطهير البلاد من الاحتلال الإسباني، لذا فإنه كتب إلى إسطنبول يطلب مده بقوة تكفي لتحرير الموقع، وكان اهتمام قلج علي بشرق الجزائر سياسة اختص بها من دون أسلافه، فكان يرى أنه لابد من تأمين ظهره ليتسنى له التقدم إلى الغرب، ثم التوجه للأندلس، بعد أن يكون قد أضعف التواجد الإسباني في الشمال الإفريقي.
ب ـ ثورة مسلمي الأندلس:
كانت حركة الجهاد في الشمال الإفريقي قد شجعت مسلمي الأندلس، وفجرت طاقاتهم الكامنة، وجعلتهم يتغلبون على الحواجز النفسية التي بنيت في نفوسهم على مر السنين. وسادت الأقاليم الإسبانية موجة من الظلم والإرهاب والفظىء ع، فهذه الحالة المربكة وما صاحبها من مظالم وويلات جعلت بقية مسلمي إسبانيا في الجنوب، سواء من الذين ظلوا محافظين على دينهم أو المتنصرين ظاهرياً، يتأهبون للانقضاض على الحكم الإسباني.
سادت إسبانيا إرهاصات ثورة المسلمين في غرناطة، فشكل الملك الإسباني فيليب الثاني نوعاً جديداً من الميلشيات، تقيم في كل مدينة من مدن إسبانيا لمواجهة الثورة بين الذين استقبلوا مبعوثين من ملك فاس لجمع الخراج على تبعيتهم في الولاء لسيادة الأمير السعدي، كما تلقى مسلمو الأندلس مساعدات عثمانية، أصبح الموقف صعباً بالنسبة لإسبانيا خاصة غرناطة، ومما زاد الحالة خطورة أن بحرية فيليب الثاني كانت متفرقة في أنحاء بعيدة، وحصونه غير معززة والسواحل مكشوفة، خاصة الشواطىء الجنوبية موقع المجاهدين.
بعد أن أعيت النصارى كل الوسىء ل للقضاء على الروح الدينية لمسلمي الأندلس وتحويلهم للمسيحية؛ لجؤوا إلى العنف، فحرّموا على المسلمين التحدث بالعربية، والاتصال بالمسلمين في الشمال الإفريقي وفي بعض أقاليم إسبانيا، كما حرّموا على النساء الخروج إلى الشوارع متحجبات، وقفل أبواب دورهم وتحطيم الحمامات وإقامة الحفلات حسب تقاليدهم، كل ذلك فجر الثورة وقاد مسلمي الأندلس إلى حرب البورشارات ؛ التي هي أهم حرب أو ثورة مسلحة قام بها المسلمون بعد سقوط غرناطة، كانت هذه الحرب في عام (1568م) وتزعمها محمد بن أمية.
ج ـ خيانة السلطان السعدي الغالب بالله لمسلمي الأندلس:
بذل السلطان السعدي الغالب بالله الوعود المعسولة لرسل الثوار البورشارات، ووعدهم بالنصر وتقديم كل ما يحتاجونه من عتاد وسلاح ورجال.. لكن استمر الغالب بالله محافظاً على روابطه الودية مع فيليب الثاني، وعمل على خذلان أهل الأندلس: «وأما أهل الأندلس وغشه لهم وتوريطهم للهلكة في دينهم وأقواتهم وأولادهم وفي نفوسهم فأمر مستعظم عند جميع من في قلبه ذرة من الإيمان، وأدنى ملكة من الإسلام. وذلك أنه لما احتوى عليهم النصراني، وأخذ جميع أراضيهم وشملها سلطانه، بقي المسلمون بضع سنين تحت الذمة والذلة فقهروهم بكثرة المكس، فصاروا يكتبون إلى ملوك المسلمين شرقاً وغرباً وهم يناشدونهم الله في الإغاثة. وأكثر كتبهم إلى مولاي عبد الله لأنه هو القريب إلى أراضيهم، زمان قد قوي سلطانه وصحت أركانه وجندت أجناده وكثرت أعداده، فأمرهم غشاً منه بأن يقوموا على النصارى ليثق بهم في قولهم ويظهروا فعلهم، فلما قاموا على النصارى تراخى عما وعدهم به من الإغاثة، وكذب عليهم غشاً منه لهم ولدين الله جلّ وعلا، ومصلحة لملكه الزىء ل، وكانت بينه وبين النصارى مكاتبات في ذلك ومراسلات، وأنه استشارهم وأشار عليهم أن يخرجوا أهل الأندلس إلى ناحية المغرب. وقصده بذلك تعمير سواحله ويكون لهم بمدينتي فاس ومراكش جيش عظيم ينتفع به في صالح ملكه».
تسارعت الأحداث في إسبانيا، وبلغ عدد المجاهدين في أوىء ل سنة (976هـ 569هـ) أكثر من مئة وخمسين ألفاً، وصادف تلك الثورة صعوبات كبيرة بالنسبة للحكومة الإسبانية، إذ كانت غالبية الجيش متقدمة مع دوق البابا في الأراضي المنخفضة، وأثبتت الدوريات البحرية أنها غير قادرة على حرمان الثوار المسلمين من الاتصال بالعثمانيين في الجزائر.
د ـ قلج علي يقف موقف الأبطال مع مسلمي الأندلس:
كان قلج علي على اتصال مباشر بقيادة مسلمي الأندلس عبر قنوات خاصة أشرف عليها جهاز الاستخبارات العثمانية، واستطاع هذا القىء د أن يمد الثوار في إسبانيا بالرجال والأسلحة العتاد، وتم الاتفاق مع مسلمي الأندلس على القيام بثورة عارمة في الوقت الذي تصل فيه القوات الإسلامية من الجزائر إلى مناطق معينة على الساحل الإسباني.
جمع قلج علي جيشاً عظيماً قوامه أربعة عشر ألف رجل من رماة البنادق، وستين ألفاً من المجاهدين العثمانيين من مختلف أرجاء البلاد، وأرسلهم إلى مدينتي مستغانم ومازغران، استعداداً للهجوم على وهران، ثم النزول في بلاد الأندلس، وكان يرافق ذلك الجيش عدد كبير من المدافع وألف وأربعمئة بعير محملة بالبارود الخاص بالمدافع والبنادق.
وفي اليوم المتفق عليه وصلت أربعون سفينة من الأسطول العثماني أمام مرسى المرية الإسباني، لشد أزر الثورة ساعة نشوبها، لكن المخطط أخفق، وذلك بسبب سوء تصرف أحد رجال الثورة الأندلسيين، إذ انكشف أمره فداهمه الإسبان وضبطوا ما كان يخفيه من سلاح ، بعد أن نجح قلج علي في إنزال الأسلحة والعتاد والمتطوعين على الساحل الإسباني، لم تقع الثورة في الموعد المحدد لها، وضاعت بذلك فرصة مفاجأة الإسبان.
لقد قام قلج علي في (شعبان سنة 976هـ يانير سنة 1569م) ببعث أسطول الجزائر لتأييد الثىء رين في محاولتهم الأولى، وحاول إنزال الجند العثماني في الأماكن المتفق عليها، لكن الإسبان كانوا قد عرفوا ذلك بعد اكتشاف المخطط، فصدوا قلج علي عن النزول، وكانت الثورة في عنفوانها، وزوابع الشتاء قوية في البحر، فالأسطول الجزائري صار يقاوم الأعاصير من أجل الوصول إلى أماكن أخرى من الساحل ينزل بها المدد المطلوب، إلا أن قوة الزوابع أغرقت (32) سفينة جزىء رية تحمل الرجال والسلاح، وتمكنت ست سفن من إنزال شحنتها فوق سواحل الأندلس، وكان فيها المدافع والبارود والمجاهدون.
استمر قلج علي في إمداد مسلمي الأندلس رغم الكارثة التي حلت بقواته، وتمكن ذلك المجاهد الفذ من إنزال أربعة آلاف مجاهد من رماة البنادق، مع كمية كبيرة من الذخىء ر، وبعض من قادة المجاهدين العثمانيين، للعمل في مراكز قيادة جهاد مسلمي الأندلس.وعاد العثمانيون فأرسلوا دعماً جديداً من الرجال والسلاح وإعانة للثورة الأندلسية، فصدرت الأوامر إلى قلج علي بذلك في (23 شوال 977هـ 31 مارس 1570م) «..عليك بالتنفيذ لما جاء في هذا الحكم حال وصوله، وأن تعاون أهل الإسلام المذكورين بكل ما يتيسر تقديمه لهم، وأن الغفلة عن الكفار غير جىء زة..» وكان القىء د المجاهد قلج علي قد عزم على الذهاب بنفسه ليتولى قيادة الجهاد هناك، لكن ما شاع عن تجمع الأسطول الصليبي للقيام بمعركة حاسمة مع المسلمين، وأمر السلطان العثماني له بالاستعداد للمشاركة في هذه المعركة، جعله مضطراً للبقاء في الجزائر منتظراً لأوامر إسطنبول.
وفي غمرة الثورة الأندلسية اتهم زعيم الثورة ابن أمية بالتقاعس عن الجهاد، وهاجمه المتامرون وقتل في منزله، واختير مولاي عبد الله بن محمد بن عبو بدلاً منه، وبعث قلج علي تعزيزات له ونجح الزعيم الجديد في حملاته الأولى ضد النصارى الإسبان، وطوق جيشه مدينة أرجيه.
انزعجت الحكومة الإسبانية لهذه التطورات، وعينت دون جوان النمساوي على قيادة الأسطول الإسباني «وهو ابن غير شرعي للإمبراطور شارل» فباشر قمع الثورة في سنواتها (977هـ 978هـ/1569م ـ 1570م)، وأتى من الفظىء ع ما بخلت بأمثاله كتب الوقىء ع فذبح النساء والأطفال أمام عينيه، وأحرق المساكن ودمر البلاد، وكان شعاره لا هوادة. وانتهى الأمر بإذعان مسلمي الأندلس، لكنه إذعان مؤقت، إذ لم يلبث مولاي عبد الله أن أعاد الكرة فاحتال الإسبان عليه، حتى قتلوه غيلة، وجعلوا رأسه منصوباً فوق أحد أبواب غرناطة زمناً طويلاً.
ه ـ المتوكل على الله بن عبد الله الغالب السعدي:
تولى أمر السعديين بعد وفاة عبد الله الغالب بالله ابنه المتوكل على الله الذي كان يضمر الشر لعميه عبد الملك أبي مروان وأحمد المنصور، فخرجا من المغرب واتجها إلى السلطان العثماني ليستنجدوا به، وما من شك في أن انتصار العثمانيين في تونس ضد الإسبان واستتباب الأمر فيها ؛ قد شجعهم على مساعدة المولى عبد الملك المطالب بالعرش المغربي، لبسط نفوذه على البلاد، ولأن الاستيلاء على المغرب يؤمن الحدود الغربية للدولة العثمانية، ويوطد أقدام العثمانيين في مجموع الشمال الإفريقي، علاوة على أن ضم المغرب من شأنه أن يبعث الرعب في قلوب الإسبان والبرتغال، ويبعثهم على طلب ود السلطان في إسطنبول، تابع المتوكل على الله خطة والده في التقرب من الدول المسيحية ومسالمتها لصد العثمانيين، حيث لم يعد لديه شك في أنهم سينجدون عميه بقوات عسكرية، فعقد اتفاقاً مع إنجلترا، التي كانت ترغب في تجارتها مع المغرب، للفوىء د التي تعود على التجار الإنجليز من وراء ذلك، زيادة على أنها تدرك الأهمية العظمى التي للمغرب، خصوصاً وقد كانت إنجلترا في حالة حرب ضد إسبانيا، وتوقيع المتوكل للاتفاقية التجارية مع الإنجليز ؛ يعد العمل الوحيد الذي قام به خلال حكمه القصير، وقد فعل ذلك باعتبار أن الإنجليز كانوا من بين التجار الأجانب الذين يبيعون مواد الحرب من ذخىء ر وأسلحة للمغاربة منذ زمن بعيد، ولا تخفى علينا حاجة المتوكل في هذا الوقت إلى السلاح، لصد الخطر العثماني، ولمقاومة عمه المطالب بالعرش.
وجدت الدولة العثمانية في انشغال ملك إسبانيا فيليب الثاني بأحداث أوروبا الغربية، حيث ثورة الأراضي المنخفضة، فرصة مناسبة للتدخل في المغرب، فأمدوا المولى عبد الملك بجيش قوامه خمسة الاف مقاتل، مسلحين بأحسن الأسلحة، ودخل المولى عبد الملك فاس بعد أن أحرز انتصاراً كبيراً على ابن أخيه المتوكل، وعاد الجيش أدراجه إلى الجزائر.
و ـ وقام عبد الملك بإصلاحات في دولته من أهمها:
أ ـ أمر بتجديد السفن، وبصنع المراكب الجديدة فانتعشت بذلك الصناعة عامة.
ب ـ اهتم بالتجارة البحرية، وكان للأموال التي غنمها من حروبه على سواحل المغرب سبب في انتعاش ونمو الميزان الاقتصادي للدولة.
ج ـ أسس جيشاً نظامياً متطوراً، واستفاد من خبرة الجندية العثمانية، وتشبه بهم في التسليح والرتب.
د ـ استطاع أن يبني علاقات متينة مع العثمانيين، وجعل منهم حلفاء وأصدقاء وإخوة مخلصين للمسلمين في المغرب.
ه ـ فرض احترامه على أهل عصره، حتى الأوروبيين احترموه وأجلُّوه. قال الشاعر الفرنسي أكبريبا دو بين المعاصر لأحداث هذه الفترة: «كان عبد الملك جميل الوجه، بل أجمل قومه، وكان فكره نيراً بطبيعته، وكان يحسن اللغات الإسبانية والإيطالية والأرمنية والروسية، وكان شاعراً مجيداً في اللغة العربية، وباختصار فإن معارفه لو كانت عند أمير من أمرىء نا لقلنا إن هذه أكثر مما يلزم بالنسبة لنبيل فأحرى للملك».
و ـ اهتم بتقوية مؤسسات الدولة ودواوينها وأجهزتها، واستطاع أن يشكل جهازاً شورياً للدولة، وأصبح على معرفة بأمور الدولة الداخلية وأحوال السكان عامة، وعلى دراية بالسياسة الدولية، وخاصة الدول التي لها علاقة بالسياسة المغربية، وكان أخوه أبو العباس أحمد المنصور بالله الملقب في كتب التاريخ بالذهبي ساعده الأيمن في كل شؤون الدولة، وقد حقق انتصاراً كبيراً واستشهد في معركة وادي المخازن التي تحدثنا عنها.
ز ـ اقتراح عثماني على السعديين:
بدأت القوات الإسبانية في اكتساح الأراضي البرتغالية، ولم يستطع الأمير البرتغالي دون أنطونيو مقاومة تلك القوات الإسبانية التي ضمت أراضيه إلى سنة (988هـ 1580م) ؛ عند ذلك اقترح السلطان العثماني مراد الثالث عقد تحالف عسكري ضد الإسبان على أساس إمداده بأسطول حربي وقوات عسكرية. فبعث في (رجب 988هـ سبتمبر 1580م) برسالة قال فيها: «..فلما وصل بمسامعنا الشريفة ومشاعرنا الحقانية المنيفة خبر طاغية قشتالة، وأنه استولى على سلطنة برتغالي أو كاد، وأنه جعل أهلها في الأغلال والأصفاد، وأنه لكم جار وعدو مضرار حرّكتنا الحمية الإسلامية لإظهار الألفة الأزلية، أن تتخذ عهداً وتؤكد أن المملكتين محروستا الجوانب ونعلق العهد بالكعبة.. فإذا تم هذا الشأن نوجه لكم ثلاثمئة غراب سلطانية، وجيش عز ونصر وكماة عثمانية، نستفتح بها إن شاء الله بلاد الأندلس..».
كان قلج علي بعد استقرار الدولة العثمانية في تونس بدأت أنظاره تتطلع إلى المغرب، وأخذ يعمل على توحيد الوجهة السياسية لبلاد المغرب الإسلامي لضمه إلى الدولة العثمانية، خاصة بعد تذبذب موقف المولى أحمد المنصور الأخير من الدولة، صدرت الأوامر إلى قلج علي قىء د الأسطول العثماني بالتوجه إلى المغرب لضمه للدولة العثمانية، فوصل قلج علي إلى الجزائر في (جمادى الثانية 989هـ يونيو 1581م) بينما كان المنصور يرابط عند نهر تانسيفت، وكانت القوات المغربية قد استعدت لمواجهة التدخل العثماني، إذ جهز جنوده وتقدم بها حتى حدود بلاده، كما سد مدخل مملكته وحصّن الثغور، وإلى جانب تلك الاستعدادات وجّه المنصور سفارة خاصة إلى اسطنبول، وذلك بعد أن توصل إلى شبه اتفاق عسكري مع الملك الإسباني الذي انتهى من مشاكله بدخوله إلى العاصمة البرتغالية لشبونة في (27 جمادى الثانية 989هـ 31 يوليو 1581م)، على أساس تقديم المساعدة العسكرية للمغرب لمواجهة التدخل العثماني مقابل التنازل عن مدينة العرىء ش وامتيازات أخرى، وأمام تطور الأحداث لم يجد السلطان العثماني بدّاً من قبول الأمر الواقع، والتراجع عن غزو المغرب ؛ بأن أمر قلج علي وجعفر باشا نىء ب قلج علي في الجزائر بالتخلي عن العمل بالمغرب ، والانتقال إلى الشرق ، حيث اضطربت الأمور في الحجاز فتخلى قلج علي عن هدفه الطموح في استرداد الأندلس بعد توحيد الجبهة لبلاد المغرب الإسلامي.
تردد السفراء بين الأستانة وفاس، فتوجهت سفارات أحمد بن ودة والشاظمي وأبي الحسن علي بن محمد التمكروتي بين عامي (979هـ 1588م/999هـ 1590م)، واستقبل أحمد المنصور سفيراً عثمانياً في (998هـ 1589م) ، لم تتحقق رغبة السلطان العثماني في التحالف مع السعديين لاسترداد الأندلس، وذلك بسبب انشغال الدول بحروبها المضنية ضد الشيعة الصفوية في إيران والهابسبرج في وسط أوروبا، بالإضافة إلى واجبها نحو حماية مقدسات الأمة الإسلامية في الحجاز، وتدعيم حزامه الأمني.
ح ـ جهاد الوالي الجزائري وتغير الأوضاع:
جهز الوالي العثماني في الجزائر أسطوله في سنة (990هـ 1582م) لمحاربة إسبانيا فوق أرضها، فنزل المجاهدون المسلمون في برشلونة، فأعملوا فيها تدميراً، ثم عبروا مضيق جبل طارق وهاجموا جزر الكناري التي تحتلها إسبانيا، فدمروا المراكز العسكرية، وغنموا ما فيها، ولم يكن الأسطول العثماني يذهب إلى الأندلس لمجرد التنكيل بالإسبانيين ولتدمير منشاتهم، بل كان بالدرجة الأولى لإنقاذ المسلمين من نكبتهم، وتعرض المجاهدون أثناء ذلك لمعارك قاسية وهزائم أحياناً.
ازداد تطاول الإنكشارية في الجزائر على الأهالي في الوقت الذي انصرف رجال البحر ليمارسوا الجهاد البحري على نطاق واسع، لذلك حضر حسن فنزيانو من نشاطه البحري، الذي بادر إلى عودته إلى الجزائر، حينما بلغه انتشار الفوضى بين الجنود، فانتصب على الجزائر للمرة الثانية وفرض طاعته على الرعية وذلك في (ربيع الثاني سنة 991هـ إبريل 1583م). ولم يعارض الباب العالي في توليه لما كان له من العقل في حسم الخلاف وإطفاء نار الفتن واستتباب الأمن بالجزائر، باشر حسن فنزيانو تسيير الإدارة بما عهد منه من نشاط وحزم، فإنه لم يترك قيادة الأسطول العثماني بالجزائر لغيره، وكثرت في أيامه المغانم بما كانت تجلبه السفن من السواحل الإسبانية والجزر الشرقية من نفىء س، وبما كان يستولى عليه من الأسرى والمغانم في غزواته.
وفي (992هـ 1584م) أبحر حسن فنزيانو بأسطوله إلى ثغر بلنسية، وحمل أعداداً كبيرة من مسلمي الأندلس ؛ إذ أنقذهم من اضطهاد الإسبان، كما استطاع في السنة التالية إنقاذ جميع سكان كالوسا، إذ حملهم إلى الجزائر. وفي السنة التي بعدها توغل مراد رايس في المحيط الأطلسي فأغار على جزر الكناري وغنم منها غنىء م كثيرة بما فيهم زوجة حاكم تلك الجزر، وبقي حسن فنزيانو على رأس الحكومة العثمانية بالجزائر إلى أن استدعاه السلطان في إسطنبول ليتولى منصب إمارة البحر «قبوادان دوريا» ، وذلك بعد وفاة قلج علي سنة (995هـ 1587م).
ط ـ انتهاء نظام البيلربك في الجزائر:
بوفاة قلج علي انتهى في الجزائر نظام البيلربك الذي جعل من حكام الجزائر ملوكاً واسعي السلطة والنفوذ، واستعيض عنه بنظام الباشوية، مثلها في ذلك تونس وطرابلس، ويفسر هذا التغيير في شكل الحكم العثماني بخوف السلطان العثماني في أن يتجه البيلربك بسبب قوتهم وضعف البحرية العثمانية نحو الاستقلال.
وكان الباشا موظفاً ترسله الأستانة لمدة ثلاث سنوات، يتولى خلالها حكم البلاد دون أن يكون له سند أساسي، أو سند محلي بين القوى التي تسيطر على البلاد، ويكون الباشا في كل من طرابلس وتونس والجزائر وكيلاً للسلطان، ويكون مطلق التصرف لبعد الولاية عن العاصمة إسطنبول.
كانت أحداث ما بعد (997هـ 1588م) في النيابات العثمانية الثلاث طرابلس وتونس والجزائر ؛ءَ تفيد بسطوة الجنود ورجال البحرية على السلطنة فيها على حساب سلطة الباشا، إلا أن طبيعة علاقات السلطة في داخل الولاية مع إمساك السلطنة العثمانية بسلطة إصدار الغرامات، قد ضمنا تحقيق الأهداف العثمانية في الحكم، من حيث الخطبة باسم السلطان وتحصيل الأموال سنوياً والمساهمة في حروب الدولة، والقبول بالباشا القادم من الأستانة ممثلاً أعلى للسلطان في حكم النيابة، وهي جميعها من رموز السيادة العثمانية الرسمية.
كان ذلك هو التحول الذي جرى في الدولة نحو الشمال الإفريقي، إثر معركة ليبانتو سنة (978هـ 1571م)، فبعد أن كان الشمال الإفريقي تحت مسؤولية البيلربك الموجود في الجزائر، انقسمت المنطقة إلى ثلاث ولايات هي: طرابلس وتونس والجزائر وصارت ولايات عادية، مثلها مثل سىء ر الولايات العثمانية الأخرى، لقد كان موقف الدولة السعدية من جهة، وتصرف بعض الإنكشاريين من جهة، وجبهات المشرق من جهة، وغير ذلك من الأسباب أضعفت همة الدولة في إرجاع الأندلس.
لقد حالت عدة أسباب دون ضم المغرب الأقصى للدولة العثمانية منها:
أ ـ ظهور شخصية قوية حاكمة في المغرب، ونعني به المنصور السعدي.
ب ـ وفاة قلج علي في (1587م) ومن بعده أدخل الشمال الإفريقي في نظام الولايات.
ج ـ كان النصر الذي أحرزه المغاربة على البرتغاليين في معركة وادي المخازن سبباً في تقدير السلطات العثمانية للسعديين واحترامهم.
لقد كانت الدولة العثمانية في جهودها البحرية في البحر المتوسط أكثر توفيقاً من البحر الأحمر والمحيطات لعدة أسباب منها:
1 ـ قرب الشمال الإفريقي من كل من إسطنبول ومصر ؛ يجعل الإمدادات متلاحقة ويجعل صورة الأحداث واضحة، والتطورات العسكرية مفهومة، بعكس الحال في المحيطات حيث كانت تطورات الأمور لا تصل إلا بعد وقت طويل وبشكل غير واضح.
2 ـ كانت للعثمانيين قواعد قوية في شمال إفريقية، تستند إلى خلفية إسلامية واسعة، وخبرة عملية في محاربة النصارى، وكانوا على استعداد للتعاون مع العثمانيين والدخول تحت نفوذهم.
3 ـ لم تكن هناك مقاومة مذهبية عنيفة في شمال إفريقية، بل كانت الهيمنة للمذهب السني، الذي استطاع أن يقف أمام المذاهب المنحرفة ويجتثها من جذورها.

 

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022