حلقة من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان:
(المجاهد حسن خير الدين بربروسة)
الحلقة: السابعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
شرع حسن بن خير الدين حال وصوله يستعد للجهاد ومواجهة المسيحيين، فعمل على تحصين مدينة الجزائر، وذلك في المناطق التي أظهر هجوم شارل الخامس ضعفها، كما أخذ يعمل على توطيد النظام في الجزائر وبين صفوف الجيش، ثم انصرف إلى حل مشكلة تلمسان، إذ تبين له أن بقاء الأسرة الزيانية، ووجود الإسبان في وهران يعيقان حل المشكلة.
كان حاكم تلمسان (أبو زيان) أحمد الثاني قد تولى الحكم بدعم من العثمانيين، غير أنه ما لبث أن خضع لمؤامرات خارجية وانساق في تيارها، وأخذ يتقرب من الإسبان، مما أدى إلى كره الأهالي له، وقرروا خلعه عن العرش، ومبايعة أحد إخوته (الحسن) ؛ فتوجَّه أبو زيان إلى وهران طالباً الدعم من الإسبان، مقدماً لهم التعهدات بأن يحافظ على ولىء ه لهم، فقرر حاكم وهران إنتهاز هذه الفرصة، فجهز جيشاً، وانضم إليه جموع الخاضعين للإسبان من بني عامر وفليتة وبني راشد، وعلى رأسهم القىء د المنصور من بوغنام، وتقدموا إلى تلمسان لإبعاد الحسن، وإعادة تنصيب أبي زيان على عرش المدينة، وما أن علم حسن بن خير الدين بتحرك القوى الإسبانية، حتى قاد الجيش الإسلامي في تلمسان ليمنع الإسبان من الوصول إلى هدفهم، وتمكن حسن بن خير الدين من ذلك، ودعم حليفه الملك حسن في تلمسان، الذي اعترف بسلطة الدولة العثمانية، كما ترك الباشا حسن بن خير الدين حامية عثمانية بقيادة القىء د محمد في قلعة المشوار في تلمسان، إلا أنه مع ذلك ظل نفوذ الدولة العثمانية مهتزّاً خارج تلمسان، بسبب مضايقات بعض القبىء ل المجاورة بقيادة المزوار بوغنام، الذي يرغب في مساندة زوج ابنته الأمير مولاي أحمد، حليف الإسبان.
قامت الدولة العثمانية بدعم السلطان الشريف السعدي بنحو عشرين ألف مجاهد، فالتفوا حوله، ودفعوه إلى بناء مراكب حربية للاستيلاء على إسبانيا، فوافق الشريف السعدي على ذلك وصرف لهم أجورهم ومكافات لهم.
واستطاع الشريف السعدي أن ينهي الحكم الوطاسي، وأصبح الإسبان متخوفين من هجوم عثماني سعدي مشترك، فقاموا بإنهاء استحكامات مليلة، وفرضت عدة إجراءات أمنية على جبل طارق وقادش وغير ذلك من الاحتياطات.
لقد ظهر السعديون أول الأمر كمحررين للمغرب من الوجود المسيحي، فأكسبهم ذلك تأييد المسلمين؛ إذ اعتبروا ذلك نوعاً من الجهاد، فقدمت الدولة العثمانية مساعدات كبيرة لتحقيق ذلك، ثم عرضت على السعديين مشروع استرداد الأندلس، إلا أنه بعد أن دانت بلاد المغرب للشريف السعدي وانتهاء الحكم الوطاسي، توجه الشريف بأنظاره نحو تلمسان، فأرسل جيوشاً كبيرة لإنهاء الحكم العثماني فيها، وعندما شعر العثمانيون بتلك الأطماع وانحراف الشريف السعدي عن الهدف الإسلامي أرسلت له حملات ليعود إلى بلاده.
استمر المجاهدون شمال إفريقيا يهددون أمن غرب البحر المتوسط، فقاموا بمناوشات بحرية أزعجت التجارة والسفن المحملة بين إسبانيا وإيطاليا، وغطى المجاهدون من أهالي الشمال الإفريقي الجزء من البحر المتوسط بين سردينيا والساحل الإفريقي، وبذلك اضطرت السفن المسيحية أن تسلك الطرق الأكثر أماناً بالقرب من رأسي كورسيكا، ولكن الاحتلال الفرنسي للرأس بمساعدة العثمانيين هدد أيضاً الاتصالات بين إسبانيا وإيطاليا، ولم تكن هناك مهلة لشارل الخامس في الدفاع عن الطرق البحرية ضد القسطنطينية التي كانت حلمه منذ سنوات طفولته، كما أنه صار غير قادر على تقديم مصالح مباشرة لإسبانيا.
أ ـ آخر أيام خير الدين بربروسة:
استمر خير الدين في قيادة الأسطول العثماني، وحقق انتصارات رىء عة هزت أوروبا كلها، وبعد أن تحالفت الدولة العثمانية مع فرنسا جعل خير الدين من مدينة (مارسيليا) قاعدة لقيادته ومقرّاً لأسطوله، وهناك ـ في مارسيليا ـ باع خير الدين ورجال أسطوله الغنىء م التي حملوها معهم من إسبانيا، كما باعوا فيها رقيق الإسبان من الرجال والنساء، فتداولتهم أيدي القوم، واشتراهم الفرنسيون بضاعة رابحة، ثم أخذوا يبيعونهم بأرباح طىء لة إلى يهود (ليفورنو) الإيطالية، وكان هؤلاء بدورهم يعيدون بيع الأسرى الأرقاء إلى الإمبراطور (شارلكان) بأرباح خيالية.
وانضم الأسطول الفرنسي إلى الأسطول العثماني بأمر من ملك فرنسا. ووضع قىء د الأسطول الفرنسي (الأمير فرانسوا دبو بوربون) قواته تحت قيادة (خير الدين) باعتباره القىء د العام للقوات المتحالفة (العثمانية ـ الفرنسية) وكان أول عمل قام به (خير الدين) هو قيادة القوات لمهاجمة (نيس) وطرد حاكمها (دوق سافوا) وانتزاعها من الحكم الإسباني وإعادتها لملك فرنسا، ثم استقر خير الدين بأسطوله في مدينة (طولون) وجعلها قاعدة للجيش الإسلامي والأسطول الإسلامي، بعد أن غادرها معظم سكانها بأمر ملك فرنسا وتركوها في أيدي المسلمين.
ثارت ثىء رة المسيحية جمعاء ضد هذا التصرف الفرنسي، وأخذت الدعاية المضادة للمسلمين. تجتاح أرجاء أوروبا، يحملها الإسبان وغلاة الصليبية، ويستثمرونها إلى أقصى الحدود. ومن ذلك قولهم: (إن خير الدين قد اقتلع أجراس الكنىء س، فلم يعد يسمع في طولون إلا أذان المؤذنين) وبقي خير الدين والجند الإسلامي بمدينة طولون حتى سنة (1544م).
وكان (شارلكان) أثناء ذلك قد هاجم شمال شرقي فرنسا، وانهزم تحت جدران (شاتوتييري) ثم اضطر للذهاب إلى ألمانيا، حيث كانت حركة التمرد البروتستانتي ضد الكاثوليكية بصفة عامة، وضده بصورة خاصة، قد أخذت أبعاداً خطيرة، وأرغمه ذلك بعد أن هوى نجمه وذبل عوده بنتيجة نكبته أمام الجزائر ـ إلى عقد معاهدة مع ملك فرنسا يوم (18 أيلول/سبتمبر 1544م) في مدينة كريسبي دي فالوا. ونتج عن هذه المعاهدة جلاء (خير الدين) وقواته عن مدينة (طولون) ورجع إلى العاصمة (إسطنبول). وبما أن الحرب لم تتوقف بين إسبانيا والمسلمين ؛ فقد استمر (خير الدين) في ممارسة الأعمال القتالية أثناء طريق عودته، فتوقف أمام مدينة جنوى، وارتاع مجلس شيوخها فأرسل له مجموعة من الهدايا الثمينة مقابل عدم التعرض للمدينة بأذى، فتابع (خير الدين) طريقه حتى وصل جزيرة (ألبا) التي كانت تحت حكم إسبانيا ـ والتي أصبحت منفى نابليون بونابرت فيما بعد ـ فاحتلها، وغنم ما بها، كما احتل عدداً من المدن الساحلية، من بينها مدينة (لبياري) ورجع إلى العاصمة بسفنه مثقلة بالغنىء م فاستقبل كأحسن ما تستقبل به الأمم أبناءها البررة.
ولم يعمّر خير الدين بعد ذلك طويلاً، ومضى إلى جوار ربه، وكان قد سبقه رفيق جهاده حسن باشا الطوشي سنة (1544م).
وغاب بوفاة (خير الدين) نجم طالما أضاءت له سماء المسلمين في البر والبحر، وانطوت بغيابه صفحة ناصعة من صفحات الجهاد في سبيل الله لتبدأ صفحة جديدة.
لقد قاد خير الدين حروب الإيمان، وحقّق فوزاً عظيماً واتصف بالوفاء والإخلاص وإنكار الذات والاستعداد الدىء م للتضحية والصدق والشجاعة بكل أشكالها، ويحفظ لنا التاريخ رده على شارلكان عندما قال له: «يجب ألا تنسى أن الإسبان لم يخذلوا في معركة، وأنهم قتلوا أخويه إلياس وعروج، وإن تمادى فيما هو عليه وركب رأسه فإن عاقبته ستكون كعاقبة أخويه».
فأجاب خير الدين: «سترى غداً، وإن غداً ليس ببعيد، إن جنودك ستتطاير أشلاؤهم وإن مراكبك ستغرق، وإن قوادك سيرجعون إليك مكللين بعار الهزيمة». وعندما حاصر شارلكان الجزائر بعد وفاة عروج بربروسة خرج له خير الدين ومعه حزم وعزم، وتلا على جميع قواده وجنوده قوله تعالى: {إن تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *} [محمد :7] وتقدم للميدان ومعه رجاله، وقال لهم: «إن المسلمين في المشرق والمغرب يدعون لكم بالتوفيق، لأن انتصاركم انتصار لهم، وإن سحقكم لهؤلاء الجنود الصليبيين سيرفع من شأن المسلمين وشأن الإسلام».
فصاحوا كلهم الله أكبر، وهاجموا الإسبان فأبادوهم عن آخرهم.
وبعد حياة حافلة بالمغامرات، مكللة بالانتصارات، توفي بطل البحرية العثمانية ومؤسس إيالة الجزائر خير الدين بربروسة في (إسطنبول 1546م)، ودفن في سواحل بشكتاش بإسطنبول.
ب ـ تقييم جهود خير الدين في تثبيت الوجود العثماني في الجزائر:
تميزت الفترة التي تولى فيها خير الدين حكم الجزائر خلفاً لأخيه عروج بعدة خصىء ص هامة ميزت حكمه عن حكم أخيه، ومن جاء بعده من الولاة الأتراك:
الأولى: كثرة الثورات وحركات التمرد التي لعب زعماء القبىء ل والأمراء المحليون دوراً كبيراً في إثارتها لأسباب مختلفة. وقد رأينا كيف اندلعت هذه الثورات فور انتشار خبر استشهاد عروج. فتمردت تنس، وشرشال، وبلاد القبىء ل، ومدينة الجزائر، وسىء ر المناطق المحاذية لها. لكن الذي يجب التنويه إليه، هو موقف خير الدين الذي تميز بالحزم الشديد إزاء هذه الحركات ومن كان سببا فيها. فتمكن نتيجة لذلك من إخماد هذه الثورات بسرعة كبيرةٍ. متّبعا في ذلك مع كل حالة ما يناسبها من شدة ولين، حسب ما يقتضيه حال الثورة، وطبيعة أسبابها، ومن يقف وراءها. فتمكن بحسن سياسته من القضاء على هذه الثورات أو تقليصها، مستعملاً سلاح الترغيب تارة، والترهيب تارة أخرى. وذلك إما باستمالة زعمىء ها إلى صفه كما فعل ذلك مراراً مع أمراء بني زيان. أو بكسر شوكتهم وتجريدهم من سلطانهم بحيث لم يعودوا يشكلون خطراً يذكر، وإما بالقضاء عليهم نهىء ياً حينما يرى أن ذلك هو السيبل المناسب لمثل هؤلاء.
ولكن على الرغم من الحزم الذي أبداه خير الدين نحو هذه الثورات ومثيريها، إلا أنه لم يتمكن من اجتثاثها بشكل نهىء ي. وغاية ما وفق إليه هو إضعاف زعمىء ها، أو تسكينها مؤقتاً. الأمر الذي أدى إلى اشتعالها مرة أخرى في عصر خليفتيه حسن اغا، وصالح رايس ؛ الذي اقتنع في نهاية الأمر بضرورة القضاء النهىء ي على مملكة بني زيان سنة (1555م). الذين كانت لهم اليد الطولى في إثارة الكثير من هذه الثورات بإيعاز من حلفىء هم الإسبان الذين لم يفتؤوا يحلمون بالعودة إلى الجزائر.
الثانية: إلحاق الجزائر رسمياً بالدولة العثمانية، وما تلا ذلك من ارتباط السياسة الخارجية الجزائر بسياسة الدولة العثمانية، خصوصاً في صراعها مع أوربا المسيحية. فقد أدرك خير الدين بحكم معرفته العميقة بموازين القوى الدولية في ذلك العصر، أنه مهما كان الدعم المعنوي الذي يلقاه من القوى الدينية والشعبية المحلية المحبة له، والمقدرة لنضاله ونضال أخيه عروج ؛ ومهما كانت إمكانياته العسكرية، فإنه لا يستطيع أن يتصدى بمفرده لدولة قوية مثل إسبانيا لمدة طويلة. خصوصاً وأن إسبانيا لم تكن في ذلك العصر مجرد مملكة تنازعه النفوذ على الجزائر، بل كانت تعتبر أكبر وأقوى دولة أوربية. ولذلك فإنه جعل إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية هو الضامن الوحيد لحماية ما حققه من إنجازات بمعية أخيه عروج، ولما سيحققه في مستقبل نضاله الطويل ضد إسبانيا. وهي الدولة الإسلامية الوحيدة القادرة على دعم عمليات إنقاذ المسلمين الذين يعانون مختلف أنواع الإرهاب الديني في إسبانيا.
الثالثة: تحرير كافة المناطق التي كانت خاضعة للاحتلال الإسباني. فلم تبق في أيديهم سوى بجاية ووهران. حيث تم في عهد خير الدين تحرير تنس، وشرشال، وجيجل، والجزائر، ودلس، ومستغانم، وهنين، وقلعة سيدي راشد...... وغيرها . كما تصدى للحملات الإسبانية الرامية إلى إعادة احتلال مدينة الجزائر ، وشرشال، وغيرها من المدن التي طردوا منها. حتى يئسوا من العودة إلى الجزائر. فاقتنعوا أخيراً بالاكتفاء بإثارة الثورات، ودعم المتامرين على الوجود العثماني في الجزائر من أمراء بني زيان، أو غيرهم من الزعماء المحليين.
الرابعة: بروز الدور الفعال للأسطول العثماني الذي تولى خير الدين قيادته. حيث تمكن من نقل المعركة مع أوربا من البر إلى البحر، ونشر الرعب في سىء ر الدول المطلة على ساحل البحر المتوسط، واستطاع العثمانيون أن يسيطروا سيطرة كاملة على البحر المتوسط اعتباراً من معركة بروزة سنة (1538م). أما في غرب البحر المتوسط فقد كان البحارة العثمانيون يضربون السواحل الإيطالية والإسبانية بشكل مستمر، ويعترضون السفن الأوربية في عرض البحر. حتى صار الإمبراطور شرلكان نفسه يجد صعوبة كبيرة في سفره إلى إيطاليا عبر البحر بسبب خطر البحارة العثمانيين الذين كانوا ينطلقون من الجزائر.
الخامسة: بروز ما يمكن تسميته بالأهمية السياسية الجزائر. هذه الأهمية التي فقدتها منذ سقوط دولة الموحدين. فتحولت على إثرها إلى رقعة من الأرض يتنازع السيطرة عليها أمراء الدولة الحفصية والمرينية. بينما تحول بنو زيان إلى لاعب وسط الميدان، غاية ما يأمله هو المحافظة على التوازن بين القوتين المتنافستين!!.
لقد صنع خير الدين من الجزائر دولة متميزة عن جارتيها، وأقامها على نفس الرقعة الجغرافية التي تقوم عليها الدولة الجزائرية اليوم تقريباً. ولذلك فإن اعتبار خير الدين المؤسس الحقيقي للدولة الجزائرية الحديثة، لا يمكن وصفه بالأمر المجانب للصواب ؛ لأن وقىء ع تاريخ الجزائر الحديث شاهدة على ذلك. فبنو زيان في أوسع مراحل نفوذهم لم يتجاوزوا مدينة الشّلِفْ جنوباً، ومدينة الجزائر وما جاورها شمالاً. وبالرغم من امتداد نفوذ الدولة الزيانية إلى بجاية وقسنطينة شرقاً في إحدى فترات تاريخها، فإن ذلك لم يكن سوى لفترة قصيرة، ثم لم يتكرر ذلك بعد أبداً. أما وسط الجزائر وجنوبها فقد كان خاضعاً لنفوذ شيوخ القبىء ل، أو الأمراء المحليين الذين نصبوا أنفسهم في غياب سلطة مركزية قوية. وأما الجنوب الغربي الجزائر فقد كان إما تابعاً للمرينيين، أو للزيانيين اسمياً في أغلب الأحيان.
وكما يعود الفضل إلى خير الدين في صنع الكيان السياسي الجزائر كدولة، فإليه يعود الفضل أيضاً في الدور السياسي والعسكري المتميز الذي لعبته الجزائر منذ إلحاقها بالدولة العثمانية. إذ تحولت إلى جبهة متقدمة في الصراع مع أوربا المسيحية ممثلة في إمبراطورية شرلكان وحلفائه.
السادسة: إنقاذ عشرات الالاف من مسلمي الأندلس ونقلهم إلى الجزائر، ومنحهم إقطاعات كبيرة مكنتهم من أن يجعلوا من بعضها مدناً شكلوا أغلبية سكانها، مثل: البليدة وتنس وشرشال. بينما شكلوا في مدن أخرى جالية فعالة مثل: الجزائر وبجاية والمدية وغيرها. وقد رأينا كيف نظم خير الدين (36) حملة بحرية، نقل خلالها (70000) أندلسي إلى الجزائر. ولم يكتف هؤلاء الأندلسيون بلعب دور كبير في المجال المدني والعمراني والفني فحسب، بل كان لهم دور كبير في مساندة الوجود العثماني ضد خصومهم المحليين. إذ شكلوا السند الشعبي الأكثر إخلاصاً للأتراك العثمانيين.
ج ـ عزل حسن بن خير الدين عن الجزائر:
انتهج حسن بن خير الدين بربروسة ـ بعد أن هزم السعديين في تلمسان، ووطد دعائم الحكم العثماني فيها (959هـ 1551م) ـ سياسة مضادة لكل الدول الأجنبية، بما فيها فرنسا التي كانت ترتبط بالدولة العثمانية بروابط رسمية جيدة، ساعدت الفرنسيين على الإفادة من الامتيازات الاقتصادية التي منحت لها من إسطنبول، والتي شملت جميع أقاليم الدولة العثمانية، غير أن حسن بن خير الدين لم يلتزم بذلك، وأعلن عداءه لفرنسا في مناسبات عديدة، فما كان من فرنسا إلا أن أرسلت سفيرها المعتمد في إسطنبول إلى الجزائر، بهدف رفة المدى الذي سيصل إليه حسن بن خير الدين في عدىء ه لفرنسا، وفيما إذا كان هذا العداء سيؤثر على العلاقة الاقتصادية ما بين فرنسا وبيلربيكية الجزائر.
اجتمع سفير فرنسا بالبيلربك حسن بن خير الدين، وعرض عليه تقديم مساعدات عسكرية، لتنفيذ مشروع الدولة العثمانية في مهاجمة إسبانيا، ونجدة مسلمي الأندلس، لكن حسن بن خير الدين رفض هذا العرض، لمعرفته بمواقف فرنسا السابقة من الدولة العثمانية نفسها، وأعلن صراحة أن قضية الجهاد هي قضية خاصة بالمسلمين، وبين بأنه لا ينتصر بكافر على كافر، ورجع السفير الفرنسي إلى إسطنبول، حتى أوغر صدر الباب العالي بقوله: «إن السلطة الواسعة المطلقة التي يمارسها حسن بن خير الدين ومحاولته توسيع مملكته ؛ ستحطم وحدة الدولة العثمانية وتهدد كيانها بالانقسام» ، خاصة وأن والدته من الأسر الجزائرية المعروفة.
رأت الدولة العثمانية أنه لزاماً عليها تغيير سياستها في المنطقة، خاصة بعد أن صار المغرب حليفاً قوّياً للإسبان، مما أدى إلى قلب الموازين الاستراتيجية رأساً على عقب، فاتخذ السلطان عدة تدابير لمواجهة الحالة الجديدة، ومن ذلك عزل السلطان سليمان القانوني بيلربك الجزائر حسن بن خير الدين بدعوى الإساءة إلى حسن الجوار مع المغرب، كما دعا إلى الوحدة الإسلامية وإلى حسن الجوار.
أسندت الدولة العثمانية بيلربيكية الجزائر إلى صالح رايس في (صفر 960هـ يناير 1552م)، بدلاً من حسن بن خير الدين.
د ـ رسالة السلطان سليمان القانوني إلى حاكم فاس محمد السعدي:
(... هذا مثالنا الشريف العالي السلطاني وخطابنا المنيف السامي الخاقاني لازال نافذاً مطاعاً بالعون الرباني والصون الصمداني أصدرناه إلى الجناب العالي الأميري الكبير الأكرمي الأفخمي الأكملي الأرشدي، الأعدلي الهامي الماجد النصيري الذخيري الحسبي النسبي نسل السلالة الهاشمية فرع الشجرة الزكية النبوية طراز العصابة العلوية المحفوف بصنوف لطايف عواطف الملك الصمد حاكم ولاية فاس يومئذ الشرف محمد دام علوه وزاد سموه.
أصدرنا هذا المثال الشريف إلى جناب العالي نخصه منا سلام بتكميل صلاة (الصلات) المحبة بالتحيات الطيبات وتتأكد بعطره صلاة المودة بالتسليمات الزكيات. وبعد فإن الله جلت قدرته وعظمت مشيئته منذ أقامنا في دولة هىء لة نركب خيولها، ونعمة طىء لة نسحب ذيولها، وسيادة سىء دة كالشمس وضحاها، وسعادة ساعية كالقمر إذا تلاها، وخصنا خلافة جليلة عضد الإيمان بها منصور، ومنحنا سلطة ساعد الإسلام بها مرفوع، لا جرم وجب علينا وتحتم على ذمتنا أداء (شكر) هذا اللطف الجسيم والإحسان العميم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وكان أبداً دأبنا، ودىء ماً عادتنا الاهتمام بإجراء الشرع المبين، وإنقاذ سيد الأولين عليه الصلاة وعلى اله أجمعين، والقيام في إطفاء نايرة الكفر والطغيان وطي الظلم والعدوان ونشر العدل والإحسان.
ولما بلغ سمعنا الشريف أن أمير الأمراء بولاية الجزائر سابقاً حسن باشا لم يحسن المجاورة مع جيرانه ومال إلى جانب العنف والاعتساف، ونبذ وراء ظهره طرق الوفاق والىء تلاف، وسد باب الاتحاد مع المجاهدين حماة الدين، لذلك بدلناهم غيره، فأنعمنا بولاية الجزائر على مملوك حضرتنا العلية وخلاصة خدام أعتابنا الجليلة أمير الأمراء الكرام، كبير الكبراء الفخام، ذي الجلال والإكرام والاحترام، صاحب الفرد والاحتشام، المختص بمزيد عناية الملك الأعلى، صالح باشا دام إقباله لفرط شهامته وشجاعته وكمال دينه وديانته، فوضنا إليه تلك الديار وأمرنا بإقامة الشراع (الشرع) الشريف المتين، وإحياء تواقر سيد المرسلين، وصون الرعايا وحفظ البرايا ؛ الذين هم ودىء ع الله تعالى، وأن يكون مع أهالي الإسلام على أكمل اتحاد وأجمل اتفاق مجدّاً فيما يتعلق بالدولة والدين، وقيام ناموس سلطاننا المتين، مثابراً على دفع أعداء الدين، وقمع الكفرة الفجرة المتمردين، على أن أقصى مراد حضرتنا العلية إحياء مراسم الإسلام، وإطفاء ثائرة الكفرة والمتمردين اللئام، وذلك المرام يكون باتفاق أمراء واتحاد أمناء شرع سيد الأنام، ويتم به النظام ولا ينفي لاثارهم في الشهور والأعوام.
وأمرناه أيضاً أن ينظر إلى أحوال المسلمين بنظر الإشفاق والمراحم، وينظر بينهم بكمال العدالة وحسن المكارم، ليكونوا في أيام دولتهم العادلة امنين مطمئنين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولابد لكم أن تحسنوا المجاورة، وتذهبوا طريق حسن المعاشرة، مع كونكم أولاد سيد الأنبياء، وأحفاد سيد الأصفياء، سمعنا بعدلكم وإنصافكم، وبكمال التقوى وصفات الكمال اتصافكم، ولذلك الشأن كتبنا إليكم منشوراً يوجب مضمونه المصافاة، ويشفي مكنونه أن تكون المودة في أقصى الغايات، ولك أن تنبئوا بأخبار صحتكم الغالية إلى أعتابنا العالية...).
تحريراً في أوىء ل شهر محرم سنة تسع وخمسين وتسعمئة، الموافق (يناير 1552م) بمقام أدرنة. كما بعث السلطان سليمان القانوني بخطاب آخر إلى حاكم المغرب محمد الشيخ السعدي، يمنحه بخلع، والخطاب عبارة عن مرسوم سلطاني قال فيه: (... هذا مثالنا الشريف..إلخ أصدرنا إلى الجناب العالي حاكم فاس يومئذ الشريف محمد... نخصه بسلام تتكمل به صلات المحبة بالتحيات الطيبات، وتتأكد بعطره صلات المودة بالتسليمات الزاكيات وبعد...
فإن الله جلت قدرته وعظمته، منذ أقامنا في دولة هىء لة نركب خيولها، ونعمة طىء لة نسحب ذيولها، وسيادة سىء دة كالشمس وضحاها.
وإمضاء سنن سيد الأولين والاخرين، ومظاهرة حماة الدين، ومجاهدة الكفرة المتمردين، وأنت من أولاد سيد المرسلين، وقىء د الغر المحجلين صلوات الله عليه وسلامه، وقد سمع سيدتنا العلية حسن إقدامك وكمال دينك وديانتك وخلوص طويتك وصفاء سيرتك وقيامك في الذب عن المسلمين وقمع أعداء الدين، ولذلك الشأن حباك إحساننا الشريف العالي السلطاني، ورعاك جزيل فضلها السامي الخاقاني، فأنعمنا عليك وعلى ولديك بثلاث خلع سنية، لتكون صلة للمحبة منا وسبباً لنسج المودة بيننا، على أن أقصى مراد حضرتنا العلية أن تكون أهالي الإسلام وحماة دين النبي (ص) في أيام دولتنا العادلة في أكمل الراحة وأجمل الاستراحة، امنين مطمئنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون إن شاء الله تعالى...).
ه ـ مرسوم السلطان العثماني بتقليد صالح رايس مقاليد الولاية:
بعث السلطان العثماني مرسومه إلى العلماء والفقهاء وسىء ر رعايا الجزائر يعلمهم فيه بتقليد صالح رايس مقاليد الولاية، وقد جاء في ذلك المرسوم ما يلي: (... هذا مرسومنا.. أرسلناه إلى العلماء والفضلاء والفقهاء والىء مة والخطباء وجميع العلماء والقواد والنقباء وسىء ر رعايانا بولاية الجزائر الغربية، زيد توفيقهم ؛ يتضمن إعلامهم أن صدقاتنا الشريفة العالية الخاقانية وعوارضنا السنية السامية السلطانية، قد أنعمت على مملوك حضرتنا العالية، ومعتمد دولتنا القانية أمير الأمراء الكرام... صالح باشا، دام إقبالاً، بولاية الجزائر لفرط شهامته وشجاعته، وكمال قوته وصلابته، وحسن سيرته وصفاء سريرته، فوضنا إليه أمر تلك الأرض، وأمرناه بإحياء السنن والفروض والرعايا الذين هم ودىء ع الله تعالى، وحفظ الثغور وسد خارق الأمور، لتكون رعايا أهل الإسلام ثمة في أيام دولتنا العادلة في أكمل الراحة، وأجمل الاستراحة امنين مطمئنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلتكونوا مع أمير الأمراء المشار إليه على أحسن حال وأكمل اتفاق، مراد حضرتنا قيام قاموس الشرع القويم والصراط المستقيم، وإحيىء ه مراسم الإسلام وطريقة سيد الأنام وحفظ العباد وصون البلاد وقمع الكفرة الفجرة بكل ناد، وتقبلوا ذلك وتعتمدونه والله تعالى هو الموفق بمنه ويمنه والعلامة الشريفة حجة بمضمونه).تحريراً في أوىء ل محرم سنة تسع وخمسين وتسعمئة (الموافق يناير 1552م).
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي: