كرم نور الدين زنكي (رحمه الله)
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 99
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
اشتهر نور الدين بالإنفاق الواسع، والكرم العظيم، وكانت له أوقاف عظيمة، قال العماد: «وكلف نور الدين بإفادة الألطاف، والزيادة في الأوقاف، وتكثير الصدقات وتوفير النفقات وكسوة النسوة الأيامى، وإغناء فقراء الرعية، وإنجادها بعد إعدامها، وصون الأيتام والأرامل ببذله، وعون الضعفاء وتقوية المقوِّين بعدله، وعمارة المساجد المهجورة، وتعفية اثار الآثام، وإسقاط كل ما يدخل في شبهة الحرام، فما أبقى الجزية والخراج، وما تحصل من قسم الغلاّت على قويم المنهاج قال: وأمر أن يكتب مناشير لجميع أهل البلاد فكتب أكثر من ألف منشور، وحسبنا ما تصدَّق به على الفقراء في تلك الأشهر، فزاد على ثلاثين ألف دينار، وكانت عادته في الصدقة: أنَّه يحضر جماعة من أماثل البلد في كل محله، ويسألهم عمَّن يعرفون في جوارهم من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم.
وكان يرسم نفقته الخاصة في كل شهر من جزية أهل الذمة مبلغ ألفي قرطيس يصرفه في كسوته، ونفقته، وحوائجه المهمَّة حتى أجرة خياطه، وجامكية طباخه، ويتفضَّل منه ما كان يتصدق به في اخر الشهر، وأما ما كان يُهدى إليه من هدايا الملوك وغيرهم، فإنه كان لا يتصرف في شيء منه لا قليل ولا كثير، بل إذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ويحصِّل ثمنه، ويصرفه في عمارة المساجد المهجورة، وتقدم بإحصاء ما في محال دمشق من ذلك، فأناف على مئة مسجد، فأمر بعمارة ذلك كلِّه، وعين له وقوفاً»(1).
قال: ولو اشتغلت بذكر وقوفه، وصدقاته في كلّ بلد لطال الكتاب، ولم أبلغ إلى أمره، ومشاهدة أبنيته الدَّالة على خلوص نيَّته، تغني عن خيرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان فضلاً عن الربط، والمدارس، على اختلاف المذاهب، واختلاف المواهب، وفي شرح طوله طول، وعمله لله مبرور مقبول»(2).
وأدرَّ على الضعفاء والأيتام الصدقات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة من العلماء، ومعلمي الخط والقران، وعلى ساكني الحرمين، ومجاوري المسجدين، وجهز عسكراً يحفظ المدينة، وأقطع أمير مكة، ورفع عن الحجاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحجاج، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستخراج العين التي بأحُد، وكانت قد دفنتها كثرة السيول، وعمّر الربط، والخانقاهات، والبيمارستانات، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم، بقدر كفايتهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار، وحرَّان، والرقة، ومنبج، وشيزر، وحماة، وحمص، وبعلبك، وصرخد، وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حُسْنُ أثر، وحصل الكثير من كتب العلوم، ووقفها على طلاّبها(3).
وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده فقد قال ابن منير:
يـــــــا أيهـــــــــــــا الملـــــــــــــــكُ المنــــــــــــــــــــــادي جــــــــــــــــــــــــــودهُ فـــــــــي سائـــــــــــــــر الآفـــــــــــاق: هــــــــــل مــــــــــــــــن مُعْسِـــــــــــــــرِ
ولأنـــــــــــــــــــــــــــت أكــــــــــــرم مـــــــــــن أنـــــــــــــــــاسٍ نوَّهـــــــــــــوا باســـــــــــــــــــــــــــم ابـــــــن أوسٍ واستخصُّــــــــــــــــــوا البحتـــــــــــــــــــري
ذلَّـــــــــــــــــت لدولتــــــــــــــــك الرقــــــــــــاب ولا تـــــــــــــــــــــــــــــــــزل إن تغــــــــــــــــــز تغنـــــــــــــــــم أو تقاتــــــــــــــــــل تظفـــــــــــــــــــــــــــــــرِ(4)
كان نور الدين كما يصفه كثير من المؤرخين قليل الابتهاج بالشعر(5)، لا عن نفور من الشعر ذاته، وعدم توافق مع معطياته الوجدانية التي تهز العقول والقلوب، وإنما على نفور من الشعراء أنفسهم ومن مزايداتهم المعروفة على حساب الحق، وتملقهم الزائف للسلطة على حساب العدل(6).
إن نور الدين هنا يذكرنا بعمر بن عبد العزيز، لا في كراهيته للتجربة الشعرية، ولكن بتوجُّسه من ملق الشعراء، وضعفهم، ومزايداتهم، ومن ثم فإن نور الدين ـ كسلفه ـ لم يكن يُشْرِعُ الأبواب في وجوههم، بل لم يكن يعطيهم، وقد سئل يحيى بن محمد الوهراني في بغداد عن نور الدين، فأجاب في إحدى مقاماته: «وهو سهم للدولة سديد، وركن للخلافة شديد، وأمير زاهد مجاهد، غير أنه عرف بالمرعى الوبيل لابن السبيل، وبالمحل الجديب للشاعر الأديب، فليس لشاعر عنده من نعمة تجزى»(7).
وعبارة ـ غير أنه ـ ترد بعد عبارات المديح، تلك توحي بأن موقفه هذا لم يكن مرضيَّاً عنه من الجميع، فهناك دائماً من يريد أن يأخذ على حساب أيِّ شيء في كل عصر، كانت آذان هؤلاء قد اعتادت عبارة «أعطوه ألف دينارٍ» أو عبارة: سل ما شئت. ومن بين هؤلاء الشعراء: أسامة بن منقذ، الذي يمدحه ببيتين من الشعر يتضمان غمزاً مستوراً لموقف نور الدين من عطاء الشعراء:
سلطاننــــــــــا زاهـــــــــد والنـــــــــاس قــــــــــد زهــــــــــــــدت لـــــــــــــه فكــــــل علـــــــــــــى الخيـــــــــــــــــــرات منكمـــــــــــــــــــــش
أيامــــــــــه مثــــــــــــل شهــــــــــــر الصــــــــوم طاهـــــــــــــــــــرة مــــــن المعاصــــــــــي وفيهـــــــــــــــــــا الجـــــــــوع والعطـــــــــــــــــش
لكن أبا شامة المؤرخ الدمشقي، يتصدى بنفسه للردِّ على الرجلين: صاحب المقامة، وصاحب القصيدة؛ ولفضح الازدواجية التي يعانيها كثير من الشعراء، ولبيان حقيقة الموقف العظيم، فيقول: «ما كان ـ نور الدين ـ يبذل أموال المسلمين إلا في الجهاد، وما يعود نفعه على العباد. وكان كما قيل في حق عبد الله بن محيريز ـ وهو من سادات التابعين في الشام ـ: أنه كان جواداً حيث يحبُّ الله، وبخيلاً حيث تحبُّون، وأما شعر ابن منقذ فلا اعتبار به، فهو القائل في مدح نور الدين:
فــــــــــــــي كــــــــــلِّ عــــــــامٍ للبريَّـــــــــــــــــــة ليلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ فيهـــــا تَشُـــــــــــــــــــــــبُّ النـــــــــــــــــــــــــــــــــــارُ بالإيقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادِ
لكـــــــن لنــــورِ الديـــــن مـــــــــــــــن دون الـــــــــــــــــــــورى نـــــــــاران: نـــــــــــارُ قِـــــــــــــــــــــــــرى ونـــــــــــــــــــار جهــــــــــــــــــــــــــــادِ
أبــــــــــــداً يصرِّفُهـــــــــــــــــا نــــــــــــــــــــــــــداه وبأســـــــــــــــــــــــــه فالعــــــــــــــــــــــــــــــام أجمـــــــــــــــــــــــــع ليلــــــــــــــــــــــــــة الميـــــــــــــــــــــــــلادِ
مَلِــــــــــــــــــــكٌ لــــــــه فــــــــــــي كـــــل جيـــــــــــــــــدٍ منَّــــــــــــةٌ أبهــــــــــــــــى مــــــــــــــــــــن الأطـــــــــــــــــــــــــواق فـــــــــــي الأجيـــــــــادِ
أعلـــــــــــــى الملــــــــــوكِ يــــــــداً وأمنعهــــــــــــــــــم حمــــــــــىً وأمدُّهـــــــــــــــــــم كفــــــــــــــــــــــــاً ببــــــــــــــــــــــــــــذل تــــــــــــــــــــــــــــــــلادِ
يعطـــــــــــــــي الجزيــــــــــلَ مــــــــن النَّــــــــــــــوال تبرُّعــــــــــــــاً مـــــــــن غيــــــــــــــــــــرِ مسألــــــــــــــــــــــــــــةٍ ولا ميعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادِ
لا زال فـــــي سعــــــــــــــدٍ وملــــــــــــــــــــــــــــــكٍ دائـــــــــــــمٍ مــــــــا دامــــــــــــــــت الدنيـــــــــــا بغيــــــــــــــــــــــــر نفـــــــــــــــــــــادِ(8)
وعندما أسر الفرنج أخا أسامة بن منقذ نجم الدولة محمد؛ طلب من ابن عمه ناصر الدين محمد بن سلطان صاحب شيزر الإعانة في فكاكه، فلم يفعل، قال أسامة: «وادّخر الله سبحانه أجر خلاصه، وحسن ذكره للملك العادل نور الدين، رحمه الله تعالى، فوهبه فارساً من مقدَّمي الدَّاوية يقال له المشطوب، قد بذل الإفرنج فيه عشرة الاف دينار، فاستخلص به أخاه من الأسر»(9).
مراجع الحلقة التاسعة والتسعون:
(1) عيون الروضتين (1/346).
(2) المصدر نفسه (1/346).
(3) المصدر نفسه (1/351).
(4) شعر الجهاد الشامي في مواجهة الصليبيين ص 170.
(5) كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود ص 135.
(6) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 136.
(7) كتاب الروضتين نقلاً عضن نور الدين محمود ص 137.
(8) كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين زنكي في الأدب العربي ص 197.
(9) كتاب أخبار الدولتين (1/358).
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي
www.alsallabi.com