إضاءات حول أهم معالم التجديد والإصلاح في دولة نور الدين
من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 100
بقلم: د.علي محمد الصلابي
رجب 1444ه/ يناير 2023م
اتخذ نور الدين محمود من سيرة عمر بن عبد العزيز نموذجاً يقتدى بها في دولته، فقد كتب الشيخ العلامة أبو حفص معين الدين عمر بن محمود بن خضر الإربلي، سيرة عمر بن عبد العزيز، لكي يستفيد منها نور الدين في إدارة دولته، ولقد اتت معالم الإصلاح، والتجديد الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية، فقد اقتنع نور الدين بأهمية التجارب الإصلاحية في تقوية وإثراء المشروع النهضوي، وتمكينه في إيجاد وصياغة الرؤية اللازمة في نهوض الأمة، وتسلمها القيادة، فللتجارب التاريخية دور كبير في تطوير الدول، وتجديد معاني الإيمان في الأمة، ولذلك حرص على معرفة هذه السير المباركة؛ لكي يقتدي برجالها.
قال أبو حفص معين الدين الإربلي في مقدمة كتابه عن عمر بن عبد العزيز وتقديمه ذلك الكتاب لنور الدين «... علماً منه الاقتداء عن سلف الفضلاء العقلاء، يكمل الأجر، ويبقى الذكر، واتباع سنن المهديين الراشدين، يصلح السريرة، ويحسن السيرة، وإن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بسلفه من الأنبياء، فقال عز من قائل: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ﴾[الأنعام :90] وقال تعالى:﴿وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ﴾ [هود:120] فلذلك اشتد حرصه ـ أدام الله سعادته ـ على جمع السير الصالحة، والاثار الواضحة، فحينئذ رأيت حقاً على بذل الوسع في مساعدته، واستنفاذ القوة في معاضدته، بحكم صدق الولاء وأكيد الإخاء، فصرفت وجه همتي إلى جمع سيرة السعيد الرشيد عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ والتجأت إلى الله الكريم ـ جل اسمه ـ أن يحسن معونتي، ويُيسِّر ما صرفت إليه عزيمتي، فحين شرح الله صدري لذلك؛ ولاحت إمارات المعونة، بادرت إلى جمع هذه السيرة برسم خزانته المعمورة معاونة على البر والتقوى(1).
لقد قدَّم هذا الشيخ الجليل منهاجاً علمياً عملياً لنور الدين زنكي من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز، فبنى دولة العقيدة، وحكَّم الشريعة، وقمع البدع، وأقام العدل، ورفع الضرائب، والمكوس عن الأمة، وعمل على إحياء السنة، وعمَّق هوية الأمة، وفجَّر روح الجهاد فيها، ونشر العلم، وساهم في تحقيق الازدهار والرخاء، وكان نسيج وحدِه، في زهده وورعه وعبادته وصدقه، واهتم بالإدارة والاقتصاد والقوات المسلحة، والمدارس العلمية، والمؤسسات الاجتماعية، وكان شديد التقيد بأحكام الشريعة الغراء.
يقول شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة عن نور الدين زنكي: «... فأطربني ما رأيت من اثاره، وسمعت من أخباره، مع تأخر زمانه، وتغير خِلانه، ثم وقفت بعد ذلك في غير هذا الكتاب على سيرة سَيِّد الملوك بعده، الملك الناصر صلاح الدين، فوجدتهما في المتأخرين كالعُمرين ـ رضي الله عنهما ـ في العدل والجهاد، واجتهدا في إعزاز دين الله أيَّ اجتهادٍ، وهما مَلِكا بلدتنا وسُلطانا خُطَّتنا، خصَّنا الله تعالى بهما، فوجب علينا القيام بذكر فضلهما، فعزمت على إفراد ذكر دولتيهما بتصنيفٍ يتضمن التقريظ لهما والتعريف، فلعلَّه يقف عليه من الملوك من يسلك في ولايته ذلك السلوك، فلا أبعد أنهما حجة من الله على الملوك المتأخرين، وذكرى منه سبحانه، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فإنهم قد يستبعدون طريقة الخلفاء الراشدين، ومن حذا حذوهم من الأئمة السابقين، ويقولون نحن في الزمن الأخير، وما لأولئك من نظير، فكان فيما قدّر الله سبحانه من سيرة هذين الملكين إلزام الحجَّة عليهم بمن هو في عصرهم من بعض ملوك دهرهم، فلن يعجز عن التشبه بهما أحد؛ إن وفق الله تعالى الكريم(2)... هذان حجة على المتأخرين من الملوك والسلاطين، فلله درهما من ملكين تعاقبا على حسن السيرة، وجميل السريرة، وهما حنفي، وشافعي، شفى الله بهما كلَّ عِيٍّ، وظهرت من خالقهما العناية... والفضل للمتقدِّم، فكأن زيادة مدة نور الدين كالتنبيه على زيادة فضله، والإرشاد إلى عظيم محلِّه، فإنه أصل ذلك الخير كله، مَهَّد الأمور بعدله، وجهاده، وهيبته في جميع بلاده مع شدة الفتق، واتساع الخرق، وفتح من البلاد، ما استعان به على مداومة الجهاد، فهان على من بعده على الحقيقة، سلوك تلك الطريقة(3)... فما أحقهما بقول الشاعر:
وألبــــــــــــــــس اللــــــــــــــــه هاتيـــــــــــك العِظــــــــــــــــامَ وإن بَلِيـــــــــن تحـــــــــــــت الثــــــــرى عفـــــــــــواً وغفرانــــــــــــــــــــا
سقــــــــــــــــى ثـــــــــــــرى أُودِعُـــــــــوه رحمــــــةً مــــــــــــــــــلأتْ مثـــــــــوى قبورهــــــــــــــــم روحـــــــــــــــــــــــــــــــاً وريحانـــــــا(4)»
مراجع الحلقة المائة:
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/2) الخليفة الراشد والمصلح الكبير عمر بن عبد العزيز ص 356. ـ[1073]
(2) كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود ص 19.
(3) المصدر نفسه (1/27).
(4) المصدر نفسه (1/28).
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي