الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(مفهوم نور الدين زنكي للتوحيد وتضرعه ودعاؤه)

من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

الحلقة: 97

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م

 

كان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد من عمق فهمه للتوحيد، ومعرفته بالله تعالى لا يفعل فعلاً إلا بنية حسنة(1)، وحقق في حياته مفهوم التوحيد الصحيح، وحقق الإيمان بكل معانيه، والتزم بشروطه، وابتعد عن نواقضه.

وهذا الموقف العظيم يدل على ما قلنا: قال له قطب الدين النيسابوري ـ الفقيه الشافعي ـ مرَّةً: «بالله لا تخاطر بنفسك، وبالإسلام والمسلمين فإنك عمادهم»(2) فقد نصحه بعدم الاشتراك بالقتال، والمخاطرة بنفسه؛ حتى لا يقتل فلا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف، ومن ثم تؤخذ البلاد(3). فقال نور الدين: يا قطب الدين اسكت؛ فإن قولك هذا إساءة أدب على الله، ومَنْ محمود؛ حتى يقال له هذا؟! قبلي من حفظ البلاد، ذلك الله الذي لا إله إلا هو! فبكى من كان حاضراً(4).

وهذا الذي قاله نور الدين ـ رحمه الله ـ يدخل في صميم مفهوم التوحيد، فالله هو الأول والاخر، والظاهر والباطن، وما الناس ابتداء من أصغر جندي فيهم، حتى أكبر قائد إلا أدوات «فاعلة» في يده يحرِّكها وفق مشيئته، وإرادته لتحقيق كلمته في الكون ـ الله عز وجل ـ وكفى(5). هذا التطبيق العملي لمفهوم الإيمان بالله، وتحقيق توحيده الذي لو أدركته قياداتنا عبر التاريخ؛ لعرفت كيف تضع هذا التاريخ لصالحنا نحن لا لصالح الخصوم والأعداء(6).

وفي ساحة الحرب، حيث الموت على بعد خطوات، وحيث لقاء الله آت وراء كل لحظة كان نور الدين يذوب تواضعاً، وإشفاقاً، وتصفه تقواه العميقة في حضور مؤثر أمام الله، حيث تتمزق في أعماق وعيه بقايا الستائر، والحجب، التي ظل يكافح من أجل تمزيقها؛ لكي يقف نقياً.

فعندما التقت قواته في حارم بالصليبيين، الذين كانوا يفوقونهم عدة وعدداً، انفرد نور الدين تحت تلِّ حارم، وسجد لربه عز وجل ومرَّغ وجهه، وتضرع، وقال: «يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك. وإيش فضول محمود في الوسط؟».

يقول أبو شامة: يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. وبلغني: أنه قال: اللهم انصر دينك، ولا تنصر محموداً مَنْ الكلب محمود؛ حتى ينصر(7)؟!

وفي إحدى المعارك سنة ست وخمسين وخمسمئة، قضى الله بانهزام عسكر المسلمين، وبقي الملك العادل مع شرذمة قليلة، وطائفة يسيرة، واقفاً على تلً يقال له: تل حبيش، وقد قَرُبَ عسكر الكُفَّار بحيث اختلط رجَّالة المسلمين، مع رجالة الكُفَّار، فوقف الملك العادل بحذائهم مولِّيا وجهه إلى قبلة الدُّعاء، حاضراً بجميع قلبه مناجياً ربه بسرِّه يقول: «يا رَبَّ العباد، أنا العبد الضعيف ملَّكتني هذه الولاية، وأعطيتني هذه النيابة، عمرت بلادك، ونصحت عبادك، وأمرتهم بما أمرتني به، ونهيتهم عما نهيتني عنه، فرفعت المنكرات من بينهم ولا أملك إلا نفسي هذه، وقد سَلَّمتها إليهم ذاباً عن دينك، وناصراً لنبيك».

فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأوقع في قلوبهم الرُّعب، وأرسل عليهم الخذلان، فوقفوا في مواضعهم، وما جسروا على الإقدام عليه، وظنوا: أن الملك العادل عمل عليهم الحيلة، وأن عسكر المسلمين في الكمين، فإن أقدموا عليه تخرج عساكر المسلمين في الكمين، فلا ينفلت منهم أحد فوقفوا، وما أقدموا عليه(8).

ومن خلال المواقف السابقة لا يبدو نور الدين فدائياً فحسب، ولكن فقيهاً بقدر الله متبصراً بدور الإنسان في حركة التاريخ، عالماً: أنَّ إرادة الله إذا شاءت تهيّأت لها الأسباب، ولن يعجزها شيء؛ ولو مات، أو قتل عشرات القادة والمجاهدين، فإنَّ اخر رجل منهم سيحمل المهمة، ويواصل الطريق، ومن ثم يستوي ـ عبر هذه الرؤية ـ هذا القائد، أو ذاك(9).

وكان نور الدين محمود في الليالي يصلِّي، ويناجي ربه مقبلاً بوجهه عليه، ويؤدّي الصلوات الخمس في أوقاتها بتمام شرائطها، وأركانها، وركوعها، وسجودها(10). وبلغنا عن جماعة من الصوفية الذين يعتمد على أقوالهم ممَّن دخلوا ديار القدس للزيارة حكايةً عن الكفار: أنهم يقولون: «ابن القسيم، له مع الله سرٌّ، فإنه ما يظهر علينا بكثرة جنده وعسكره، وإنما يظفر علينا بالدُّعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله ويدعو، فالله سبحانه يستجيب دعائه، ويعطيه سُؤله، وما يَرُدُّ يده خائبة، فيظفر علينا! فهذا كلام الكفَّار في حقه»(11).

إن نور الدين محمود اعتبر الدعاء من أمضى الأسلحة التي تسهم في تحقيق النصر، ومهما أعدَّ المسلمون من أسلحةٍ، وعدَّةٍ، وعتادٍ، فإنهم يظلون عرضة للفشل والهزيمة والإحباط، إذا امتنعوا عن استخدام هذا السلاح، أو أساؤوا استخدامه (12)، ولذلك استخدمه بنفسه، وطلب من الزهَّاد، والعباد، والعلماء، والفقراء، والفقهاء كذلك، وكان مستوعباً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هل تنصرون إلا بضعفائكم»(13).

فالدعاء لله، والتعلُّق به عند قادة النهوض الربانيين والصادقين من المسلمين مخُّ العبادة(14)، لا بل هو سيد العبادات، وأقربها، وأحبُّها إلى الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم :

«الدعاء هو العبادة(15)، ومفتاح الرحمة ستمطر العباد به مفاتيح رحمة الله تعالى بعد أن تنقطع بهم الأسباب»(16).

أيها الأخوة الكرام المهتمون بنهضة أمتهم، والتمكين لدين الله تعالى في الأرض عليكم بالدعاء؛ فإنه كنزٌ حقيقي من جملة الكنوز التي تنطوي عليها الشريعة الإسلامية، فالله تعالى يحض عباده على اقتناص هذا الكنز في مثل قوله تعالى: ﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ٥٥﴾ [الأعراف: 55]. وفي مثل قوله تعالى:﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ ﴾ [فاطر: 60] وغالباً ما تحدث الإجابة عاجلاً أم اجلاً:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ١٨٦﴾ [البقرة : 186]

إن من أسباب نجاح نور الدين محمود في مشروعه النهضوي، استيعابه العميق لفقه الدعاء، ومقدرته على استخدامه كسلاح فتَّاك ضد الأعداء، وحسن تضرعه، وانكساره بين يدي المولى عز وجل.

 

مراجع الحلقة السابعة والتسعون:

(1) عيون الروضتين في أخبار الدولتين (1/359).

(2) كتاب الروضتين نقلاً عن الجهاد والتجديد ص 339.

(3) دور نور الدين في نهضة الأمة ص 128.

(4) الباهر ص 169، الكواكب الدرية ص 30.

(5) الباهر ص 169، الكواكب الدرية ص 30.

(6) الباهر ص 169، الكواكب الدرية ص 30.

(7) كتاب الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 180.

(8) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/377، 378).

(9) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 44.

(10) عيون الروضتين (1/255).

(11) عيون الروضتين (1/255).

(12) مقومات النصر في ضوء القران والسنة (1/241).

(13) البخاري في كتاب الجهاد، الدواء الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص 6.

(14) سنن الترمذي رقم 3368.

(15) صححه الحاكم ووافقه الذهبي، المستدرك (1/491).

(16) سنن الترمذي رقم 3368.

 

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022