الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(محبة نور الدين زنكي للجهاد والشهادة)

من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

الحلقة: 98

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م

 

كان نور الدين محمود الشهيد، من محبي عبادة الجهاد في سبيل الله، ويجد متعته في جهاد الأعداء والمرابطة في الثغور، قال العماد الأصفهاني: «حضرت عند نور الدين بدمشق ـ في شهر صفر ـ والحديث يجري في طيب دمشق، ورقة هوائها، وأزهار رياضها، وكل منا يمدحها، ويطريها، فقال نور الدين: إنما حبُّ الجهاد يسليني عنها، فما أرغب فيها»(1).

ومرة أخرى نلتقي به، وهو يغادر الموصل بعد عشرين يوماً من دخوله إياها عام 566 هـ فيسأله أصحابه: إنك تحب الموصل والمقام بها، ونراك أسرعت العود؟ فيجيب: قد تغير قلبي فيها فإن لم أفارقها ظلمت، ويمنعني أيضاً أنني ها هنا لا أكون مرابطاً للعدو، وملازماً للجهاد(2).

وأما حبه للشهادة، فقد قال عنه أبو شامة: كان في الحرب ثابت القدم، حسن الرمي، صليب الضرب، يقدم أصحابه ويتعرض للشهادة، وكان يسأل الله تعالى أن يحشره في بطون السِّباع، وحواصل الطير(3)، كانت عقيدة الشهادة تحركه، وهذا الإيمان العميق بعقيدة الشهادة في سبيل الله هو الذي دفع أجيالاً من المسلمين إلى ساحات الجهاد طلباً للموت، فأسقطوا الدول، وغيروا الخرائط، وسحقوا العروش، ومرغوا الأنوف، ولم يموتوا، فكان نور الدين إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أرزقها(4).

إن الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، تربى على كتاب الله، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد خص الله الشهيد بالذكر في القران الكريم في مواضع منها؛ قال تعالى:﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٠ ﴾

[آل عمران: 140] . وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى أن الشهادة إنما هي اصطفاء وتكريم من الله عز وجل لبعض عباده الأخيار، وأنَّ الشهادة لا تكون لكل أحد من الناس، فالله سبحانه وتعالى يكرِّم بها من يشاء من خلقه(5).

والثانية قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٦٩ ﴾ [النساء:69] في هذه الآية يبيّن الله سبحانه وتعالى درجة المصطفين الأخيار من شهدائه: أنهم مع النبيين والصديقين، ومن تكون له هذه المنزلة إلا من أكرمه الله بالشهادة.

ثم تأتي الصورة الناصعة للشهداء يوم القيامة يوم يؤتى بهم مع النبيين، ليشهدوا يوم القيامة لمن ذب عن دين الله، وذلك شرف عظيم، وموقف عظيم نالوه بالشهادة، يقول الله عز وجل في هذه الآية: ﴿وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٦ ﴾ [الزمر:69].

لقد أعد الله للشهداء من الكرامة، والنعيم الأبدي، ما يجعل كل نفس زكية تتوق إلى الشهادة، وترغب لتفوز بالأجر العظيم(6) قال تعالى:

﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١٧٠﴾ [عمران: 169 ـ 170] . وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ ١٥٤﴾ [البقرة : 154] .

وورد في السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربهم اطّلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، فعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن تُردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا»(7).

فالشهيد فضله عظيم، ومكانته رفيعة، فإذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ فضل المجاهدين على القاعدين، فالشهداء أكثر فضلاً، وأعظم تشريفاً(8). ولقد قاتل نور الدين الأعداء، وجاهد في الله حق جهاده، حتى استحق لقب (9)، تشريفاً وتكريماً من الأمة لهذا البطل المجاهد الفذ.

 

مراجع الحلقة الثامنة والتسعون:

(1) البرق ص 126 نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 45.

(2) الباهر ص 153 ـ 154 نور الدين محمود ص 45.

(3) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/35).

(4) نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 31.

(5) الإعداد المعنوي والمادي للمعركة في ضوء القران والسنة ص 95.

(6) المصدر نفسه ص 96.

(7) مسلم، كتاب الإمارة (3/1502).

(8) الإعداد المعنوي والمادي للمعركة في ضوء القران والسنة ص 97.

(9) نور الدين في الأدب العربي ص 48.

 

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022