السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بعنوان:

(ومضات عن الطريقة القادرية)

الحلقة: الخامسة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020


كان التصوف والانتساب إلى الطرق الصوفية صفات ذلك العصر، والسيد محيي الدين الذي عاش بين عامي (1776م إلى 1833م) كان منتمياً إلى الطريقة القادرية وممثليها في المغرب الأوسط، ولم يكن لهذا الانتماء مزية في ذلك العصر ؛ لأن معظم الناس والعلماء خاصة في مصر والمغرب العربي كانوا ينتمون إلى الطرق الصوفية التي كانت منتشرة انذاك، وذات أتباع كُثُر، كالطريقة الشاذلية والدرقاوية والطيبية والزيانية والخلوتية والناصرية والرحمانية وغيرها، وكان الذين التفوا حول السيد محيي الدين وساروا معه على درب الجهاد ونصرة الإسلام وجمع الكلمة وتوحيد الجزائريين تحت راية المقاومة والجهاد من مختلف الطرق وألوان الطيف الشعبي.
والطريقة القادرية تنسب إلى الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن أبي عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وتكاد تجمع كتب السير والتراجم على أن كنيته: أبو محمد ونسبته الجيلاني. وأما الألقاب التي أطلقت عليه فكثيرة، منها الإمام وإمام الحنابلة وشيخهم في عصره، نقله عنه ابن رجب، ومنها لقب شيخ الإسلام أطلقه عليه الذهبي.
ولد الشيخ عبد القادر في بلدة جيلان وراء طبرستان، وذلك سنة إحدى وسبعين وأربعمئة للهجرة وقيل إنه ولد سنة سبعين وأربعمئة هجرية.
ويكفي في معرفة الشيخ عبد القادر الجيلاني العلمية ثناء شيخ الإسلام ابن تيمية عليه، فقد شهد ابن تيمية للشيخ عبد القادر بأنه من الشيوخ الكبار، ثم شهد له أنه من أعظم مشايخ زمانه في الأمر بالتمسك بالشريعة الغراء، فيقول: والشيخ عبد القادر ونحوه من أعظم مشايخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق، ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية.
وقال القاضي أبو عبد الله المقدسي قال: سمعت شيخنا موفق الدين ابن قدامة يقول: دخلنا بغداد سنة (561هـ) فإذا الشيخ الإمام محيي الدين عبد القادر ممن مثله انتهت إليه الرئاسة بها علماً وعملاً وحالاً وإفتاءً، وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، وكان ملء العين، وجمع الله فيه أوصافاً جميلة وأحوالاً عزيزة، وما رأيت بعده مثله وكل الصيد في جوف الفراء.
وقال ابن الجوزي عنه: تكلم على الناس بلسان الوعظ وظهر له صيت بالزهد، وكان له سمت وصمت، وكان يجلس عند سور بغداد مستنداً إلى الرباط ويتوب عنده في المجلس خلق كثير.
ـ منهج الشيخ عبد القادر في توضيح العقيدة: بيّن رحمه الله عقيدته بوضوح، وكثيراً ما يردد في مجالس وعظه وحلقات دروسه عبارة: اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة. ومن خلال دراسة مؤلفات الشيخ عبد القادر الجيلاني يلاحظ الباحث أن له منهجاً واضح المعالم في إيضاح القضايا التي يعالجها خصوصاً قضايا العقيدة ويمكن تلخيصه:
ـ تعريفه للإيمان: ونعتقد أن الإيمان قول باللسان ومعرفة بالجنان وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ويقوى بالعلم ويضعف بالجهل، وبالتوفيق يقع.
ـ حرصه على عدم الخروج عن مدلول الايات القرانية والأحاديث النبوية في إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل: يدل على ذلك قوله ولا نخرج عن الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيها، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله.
ـ الإمساك عما لم يرد ذكره في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إثبات أو نفي، وهذا واضح جلي في قوله: ونعوذ بالله من أن نقول فيه وفي صفاته ما لم يخبرنا به هو أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
ـ شروط قبول العبادة وقد قرر الشيخ عبد القادر الجيلاني ضرورة توفر الإخلاص والمتابعة في العبادة، وبيّن أن مجرد النطق بالشهادتين وأداء الأعمال التي تقتضيها لا يكفي إلا بعد تحقق الشرطين.
يقول: إذا عملت هذه الأعمال ـ يعني الإتيان بالأوامر وترك النواهي ـ لا تقبل منك إلا بالإخلاص، فلا يقبل قول بلا عمل ولا عمل بلا إخلاص وإصابة السنة.
ويقول في موضوع آخر: وجميع ما ذكرناه من صيام الأشهر والأضحية والعبادات من الصلاة والأذكار وغير ذلك لا يقبل إلا بعد التوبة وطهارة القلب وإخلاص العمل لله تعالى وترك الرياء والسمعة.
وحذر كثيراً من الرياء والعجب وذلك لخطورته على دين العبد، ولسهولة وقوع الإنسان فيه فقال: ينبغي لكل متعبد عارف أن يحذر في جميع أحواله من الرياء ورؤية الخلق والعُجب، فإن النفس خبيثة وهي منشأ الأهواء المضلة والشهوات المردية واللذات الحائلة بين العبد وبين الحق عز وجل.
ـ القضاء والقدر: يقول الشيخ عبد القادر: ينبغي أن يؤمن بخير القدر وشره، وحلو القضاء ومره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه بالحذر، وما أخطأه من الأسباب لم يكن ليصيبه بالطلب، وأن جميع ما كان من سالف الدهور والأزمان، وما يكون إلى يوم البعث والنشور، بقضاء الله وقدره المقدور، وأنه لا محيص لمخلوق من القدر المقدور الذي خط في اللوح المسطور.
ـ أهمية الاعتصام بالكتاب والسنة: يقول الشيخ عبد القادر: لا فلاح لك حتى تتبع الكتاب والسنة ويقول: إذا لم تتبع الكتاب والسنة ولا الشيوخ العارفين بهما فلا تفلح أبداً.
ـ ذم البدع والتحذير منها: حذر الشيخ عبد القادر من الابتداع في الدين، وأوصى بالاتباع، ويقرن ذلك بوصيته بالتوحيد وضرورة مجانبة الشرك، حيث يقول: اتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا.
وبيّن أن أساس الخير في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أساس الخير في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله.
ـ مفهوم التصوف عند الشيخ عبد القادر: رسم الشيخ عبد القادر الجيلاني منهجاً متكاملاً للتصوف يجمع بين العلم الشرعي المؤسس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبين التطبيق العملي والالتزام بالشرع، فقد قال: انظر لنفسك نظر رحمة وشفقة واجعل الكتاب والسنة أمامك، وانظر فيهما واعمل بهما ولا تغتر بالقيل والقال والهوس، قال تعالى:
{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ *} [الحشر :17]. ولا تخالفوه فتتركوا العمل بما جاء به، ولا تخترعوا لأنفسكم عملاً وعبادة كما قال الله عز وجل في حق قوم ضلوا سواء السبيل {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد :27].
وقال: يا قوم انصحوا القرآن بالعمل به لا بالمجادلة فيه، الاعتقاد كلمات يسيرة والأعمال كثيرة، عليكم بالإيمان به، صدقوا بقلوبكم واعملوا بجوارحكم، واشتغلوا بما ينفعكم، ولا تلتفتوا إلى عقول ناقصة دنية.
• تعريف التصوف: قال الشيخ عبد القادر: «التصوف هو صدق الحق، وحسن الخُلقُ مع الخَلْق. وقال: هو تقوى الله وطاعته، ولزوم ظاهر الشرع، وسلامة الصدر، وسخاء النفس، وبشاشة الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى، وتحمل الأذى، والفقر، وحفظ حرمات المشايخ، والعشرة مع الإخوان، والنصيحة للأصاغر والأكابر، وترك الخصومة، والإرفاق، وملازمة الإيثار، ومجانبة الادخار، وترك صحبة من ليس من طبقتهم، والمعاونة في أمر الدين والدنيا». وبيّن الشيخ عبد القادر الجيلاني أن التصوف يقوم على خصال، منها:
ـ السخاء: ويجعل القدوة في ذلك خليل الرحمن إبراهيم الذي اشتهر ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بذلك.
ـ الصبر: والقدوة في التخلق بهذا الخلق العظيم أيوب عليه السلام، فقد أثنى الله عليه بقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *} [ص :44].
وذلك لما تحلى به من الصبر لمواجهة تلك الابتلاءات العظيمة التي لا يكاد يطيقها بشر، في جسده وماله وولده.
ـ الإشارة: ويذكر أن القدوة فيها هو زكريا عليه السلام، وكأنه يشير بهذا إلى سرعة بديهته وشدة فهمه وذكائه عليه السلام، فإنه لما رأى أن الله يرزق مريم فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، أدرك بفطنته مدى قدرة الله عز وجل وعدم ارتباطها بالأسباب، وأن الله قادر على أن يرزقه ولداً، ولو كان شيخاً كبيراً، قد وهن عظمه، واشتعل بالشيب رأسه، مع كبر امرأته، فدعا الله وناداه، وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ *} [آل عمران: 38].
ـ السياحة: ويذكر أن القدوة فيها هو عيسى ابن مريم عليه السلام.
ـ الفقر: ولاشك أن أعظم الناس اتصافاً بهذا الوصف وهو الافتقار إلى الله، وصدق اللجوء والاعتماد عليه ؛ هو خير البشر وسيد ولد آدم، محمد صلى الله عليه وسلم، والشواهد على هذا كثيرة جداً في سيرته العظيمة.
ووضع الشيخ عبد القادر الجيلاني ضابطاً دقيقاً للصوفي، فيقول: الصوفي من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويقول: «الصوفي الصادق في تصوفه يصفو قلبه عما سوى مولاه عزوجل، وهذا شيء لا يجيء بتغيير الخرق، وتعفير الوجوه، وجمع الأكتاف، ولقلقة اللسان، وحكايات الصالحين، وتحريك الأصابع بالتسبيح والتهليل، وإنما يجيء بالصدق في طلب الحق عز وجل، والزهد في الدنيا، وإخراج الخلق من القلب، وتجرده عما سوى مولاه عز وجل».
وقد تأثر الشيخ عبد القادر الجيلاني بالإمام الغزالي، الذي اشتهر أمره وذاع صيته في بداية نشأة عبد القادر، ويظهر تأثر الشيخ عبد القادر به في كتابه «الغنية» حيث التشابه بينه وبين كتاب الإحياء للغزالي.
وفي نظري أن الشيخ عبد القادر بسط تعاليم الغزالي ونقحها وزاد عليها، وكوّن تياراً إسلامياً متماسكاً، وحوّل هذا التيار إلى عمل جماعي منظم منضبط، واستطاع تكوين صف قيادي مساعد له، ساهموا في تشكيل التيار الإسلامي العريض، الذي دفع بحركة الجهاد في عهد السلطان نور الدين زنكي.
• إصلاح التصوف: أعطى الشيخ عبد القادر عناية خاصة لإصلاح التصوف، وإعادته إلى مفهوم «الزهد» ثم توظيفه لأداء دوره في خدمة الإسلام، وإصلاح المجتمع، ولقد تمثلت جهوده في هذا الميدان:
ـ تنقية التصوف مما طرأ عليه: من انحرافات في الفكر والممارسة، ثم رده إلى وظيفته الأصلية كمدرسة تربوية هدفها الأساس غرس معاني التجرد الخالص، والزهد الصحيح، ويمثل كتاباه «الغنية لطالبي طريق الحق» «فتح الغيب» خلاصة أفكاره في هذا المجال، ولقد تناول الكتاب الثاني بالشرح ابن تيمية في الجزء العاشر من الفتاوى المسمى «كتاب السلوك» وقدمه نموذجاً للزهد الذي حث عليه القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولم يكن عبد القادر في هذه المهمة يعتمد على البحث النظري أو الحديث الوعظي، وإنما طبقه في ميدان التربية العملية في مدرسته ورباطه.
• الحملة على المتطرفين من الصوفية: حمل عبد القادر في مواعظه وكتبه على مَنْ تلبّسوا بالتصوف أو شوّهوا معناه، لأن التصوف الصحيح صفاء وصدق، ولا يتحققان بتغيير الخرق وتصفير الوجوه، وجمع الأكتاف، ولقلقة اللسان بحكايات الصالحين، وتحريك الأصابع بالتسبيح والتهليل، وإنما يجيء بالصدق في طلب الحق عز وجل، والزهد في الدنيا، وإخراج الخلق من القلب، وتجرده عما سوى مولاه عز وجل.
كذلك انتقد ما شاع بين بعض الصوفية، من سماع الألحان والرقص وبدع لا تتفق مع الكتاب والسنة، وقرر أن المريد الصادق لا يهيجه كلام غير كلام الله، وهو في غنى عن الأشعار والقيان والأصوات، وصراخ المدّعين، وشركاء الشياطين، ركاب الأهوية مطايا النفوس والطباع، أتباع كل ناعق وزاعق.
• محاولة التنسيق بين الطرق الصوفية وإيجاد التالف بينها: في الفترة الواقعة بين عامي (546هـ 550هـ/1151م ـ 1155م) جرت حركة تنسيق واتصالات بين الطرق الصوفية، بهدف توحيد الجهود وتنظيم التعاون، ولتحقيق هذا الهدف عقد عدد من الاجتماعات واللقاءات، أدت إلى نتائج هامة على المستوى التنظيمي والمستوى النظري، وتصدر الشيخ عبد القادر الزعامة، وكان أول الاجتماعات التي استهدفت توحيد القيادة المشار إليها قد عقد في رباط المدرسة القادرية، الكائن في منطقة الحلة في بغداد، حيث حضر الاجتماع ما يزيد على الخمسين من شيوخ العراق وخارجه.
وكان الاجتماع الثاني خلال موسم الحج، حيث حضره شيوخ المدارس الاصلاحية من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، حضر هذا اللقاء:
ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني من العراق.
ـ والشيخ عثمان بن مرزوق القرشي، الذي شاعت شهرته وانتهت إليه المشيخة في مصر.
ـ والشيخ أبو مدين المغربي، الذي يعود إليه نشر الزهد في المغرب في ذاك العصر.
ـ كذلك حضر الاجتماع شيوخ من اليمن، حيث أرسل معهم الشيخ عبد القادر رسولاً ينظم أمورهم.
وفي نفس الفترة جرت اتصالات بين الشيخ عبد القادر والشيخ رسلان الدمشقي الذي انتهت إليه تربية المريدين ورئاسة المشايخ في الشام.
ثم تلا ذلك اجتماع موسع، حضره جمع كبير من الشيوخ الذين يمثلون مدارس الإصلاح في مختلف أقطار العالم الإسلامي، واستطاع الشيخ عبد القادر الجيلاني أن ينقل التصوف السني إلى حركة منظمة في العراق، وعلى مستوى العالم الإسلامي، ولقد ترتب على هذه اللقاءات المستمرة للمشايخ والعلماء اثار هامة من أهمها:
ـ خروج الزهد من عزلته التي كان فيها في حالة التصوف، وإسهامه في مواجهة التحديات التي تجابه العالم الإسلامي، فقد توثقت الصلات بين نور الدين زنكي في دمشق، وبين شيوخ مدارس الإصلاح في بغداد وحرّان وجبال هكار ودمشق، ثم أعقب ذلك تداعي هذه المدارس للعمل مع نور الدين وصلاح الدين، واستمر هذا التعاون حيث أولى السلطانان عنايتهما الفائقة بمدارس الزهد ورباطاتها وبنيا لها فروعاً جديدة وأوقفا عليها الأوقاف، وفي المقابل حملت هذه المدارس مسؤولياتها، وأخذت دورها في التوجيه المعنوي للجهاد بطريقة فعالة ناجحة.
إن الطريقة القادرية التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني من المدارس السنية، والتي كانت تؤمن بالجهاد في سبيل الله تعالى، واشتهر من علمائها أفاضل وأكابر في العالم الإسلامي، وفي بلاد المغرب وتوارثتها الأجيال، واستفادت من تعاليمها ومناهجها التربوية، وكان من المتقدمين فيها السيد محيي الدين بن مصطفى الحسني، والد الأمير عبد القادر الجيلاني، ولقد دلت الأخبار المتعلقة بالمدارس الإصلاحية وخصوصاً مدرسة الشيخ عبد القادر أنها لعبت دوراً رئيسياً في إعداد جيل لمواجهة الخطر الصليبي في البلاد الشامية، وتدل الإشارات والشواهد التاريخية على أن الطلاب الشاميين كانوا يشكلون مجموعة كبيرة بين الطلاب الذين يفدون من خارج العراق للدراسة في مدرسة عبد القادر، كذلك كانت الشام منطقة جذب لرجالات الدين والمتحمسين لنصر الإسلام وجهاد الأعداء، وتبدو مظاهر التعاون بين مدارس الإصلاح والدولة الزنكية في الآتي:
• الإسهام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي: قامت المدرسة القادرية بدور هام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي، فكانت تستقدمهم وتوفر لهم الإقامة والتعليم، ثم تعيدهم إلى مناطق الثغور والمرابطة، ولقد كان هؤلاء الطلاب يُعرفون باسم «المقادسة» نسبة إلى مدينة القدس أو بيت المقدس، وكان من بين هؤلاء الطلاب بعضهم الذي اشتهر فيما بعد في ميدان الفقه والسياسة، ويمكن القول إن إرسال هذه البعوث الطلابية إلى بغداد كان سببه الأول: حاجة الدولة الزنكية إلى نمط معين من القيادات والموظفين والإداريين.
والثاني: ما اشتهرت به مدرسة عبد القادر من تجسيد لسياسات الإصلاح، ولقد توثقت الصلات بين الشيخ عبد القادر والسلطان المجاهد الكبير نور الدين محمود زنكي، فكان نور الدين يرسل أبناء المقادسة النازحين من القدس إلى بغداد ليدرسوا في مدرسة الشيخ عبد القادر، ثم يعودوا إلى مناطق الثغور قادة ودعاة ومرشدين، كما كان نور الدين يستقدم مشاهير العلماء الذين تخرجوا من المدرسة القادرية.
وكانت المدرسة القادرية والقيادة الزنكية تعد أبناء النازحين لقيادة حركة الجهاد بدل أن تأتي عليهم حياة التشرد والضياع، أو أن يجدوا طريقهم إلى المدارس العادية التي كانت تعد الطلاب للوظائف والمصالح الشخصية.
• المشاركة في ميادين سياسية: اشتغل نفر من تلاميذ المدرسة القادرية مع نور الدين ثم صلاح الدين في السياسة، ولعب بعضهم أدواراً في غاية الخطورة، ومن الأمثلة على ذلك: أسعد بن المنجا بن بركات، فقد أشار ابن رجب أنه بالإضافة إلى عمله في التدريس والقضاء ؛ كان له اتصال بالملوك وخدمة السلاطين، وكذلك زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ الأنصاري الدمشقي ؛ الذي وصف لقاءه بالشيخ عبد القادر فقال: فاشتغلت عليه بالعلم ففتح الله عليّ في سنة بما لم يفتح على غيري في عشرين سنة وتكلمت ببغداد.
ولقد قُدّر لابن نجا هذا أن يكون من رجال صلاح الدين ومستشاريه، وقد أرسله الشيخ عبد القادر الجيلاني للشيخ عثمان بن مرزوق القرشي قائد المعارضة السنية بمصر وشيخ المدرسة الإصلاحية في مصر، وقد قام ابن نجا بدور خطير وهام في زحف جيش نور الدين محمود زنكي إلى مصر انتهى بفتحها وتوحيدها مع الشام، وتخليص الأمة من الدولة الفاطمية الشيعية. فلو تتبعنا مسيرة ابن نجا هذا بعد أن استأذن عبد القادر بالرحيل إلى مصر لوجدناه يتوجه إلى دمشق، ويستقر بها مدة ليست قصيرة حيث اشتغل بالوعظ والتدريس. ثم وفد إلى بغداد عام (564هـ/1168م) رسولاً لنور الدين حيث خلع عليه الخليفة، وبعد ذلك مباشرة يدخل مصر ويتصل بالخلافة الفاطمية ، وينال الحظوة عند حكام الدولة الفاطمية ، ويذكر ابن رجب أن ابن نجا الواعظ زار الشيخ عثمان بن مرزوق القرشي المتحمس لعبد القادر وسأله عن إمكانية قدوم أسد الدين شيركوه إلى مصر، فكان جواب الشيخ هو المشورة بالانتظار مدة، وكل محاولة سريعة لابد وأن تفشل فجرى الأمر كما ذكر.
ولعل الشيخ عثمان رأى أن يسبق غزو أسد الدين شيركوه ـ أحد قادة نور الدين محمود زنكي وعمّ صلاح الدين الأيوبي ـ لمصر مزيد من تهيئة الأجواء العامة لاستقباله، بما يشيعه الصوفيون والوعاظ عن الخير الذي سيصحب قدومه، وأما عن حظوة ابن نجا في بلاط الفاطميين، فكانت من ضمن الخطة التي استهدفت اختراق البلاط الفاطمي لمعرفة مواطن الضعف والقوة عندهم، ودعم التعبئة الفكرية التي كان يقودها أمثال الشيخ بن مرزوق، لأن ابن نجا قد قام بنفس الدور الاستطلاعي في مناسبة تالية.
وتبدو أهمية الدور الذي لعبه زين الدين بن نجا في كشفه لمؤامرة الفاطميين ضد صلاح الدين عام (569هـ/1173م).
ـ وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني: أجمع المؤرخون على أن الشيخ عبد القادر الجيلاني قد توفي عام (561هـ) ، وقد عاش عبد القادر إحدى وتسعين سنة.
وقيل أنه لم يمرض في حياته مرضاً شديداً سوى مرض موته ؛ الذي دام يوماً وليلة فقط، وقد سأله ابنه عن مرضه فقال له: لا يسألني أحد عن شيء، أنا أتقلب في علم الله عز وجل، إن مرضي لا يعلمه أحد، ولا يعقله أحد. وسأله ابنه الشيخ عبد الجبار: ماذا يؤلمك من جسمك؟ فقال: جميع أعضائي إلا قلبي فما به ألم وهو مع الله، وكان يقول رحمه الله تعالى: أنا لا أخاف من أي إنسان، أنا لا أخاف من الموت، ولا من ملك الموت، وكان يرفع يديه ويمدهما وهو يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم أتاه الحق وسكرة الموت فجعل يردد: استعنت بلا إله إلا الله، سبحان من تعزز بالقدرة، وقهر عباده بالموت، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقد تعذر عليه التلفظ بكلمة (تعزز) فظل يرددها حتى تلفظ بها، ثم أخذ يردد: الله، الله، الله، حتى خفي صوته ولسانه ملتصق بسقف حلقه، ثم خرجت روحه الكريمة.
قال عنه الإمام الذهبي: ليس من كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر من الشيخ عبد القادر، لكن كثيراً منهم، لا يصح، وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة.
وقال الحافظ المفسر ابن كثير: وانتفع به الناس انتفاعاً كثيراً، وله سمت حسن، وصمت عن غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه زهد كبير، وله أحوال ومكاشفات ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً وقد صنّف كتابه «الغنية» «وفتوح الغيب» وفيها أشياء حسنة، ولكن ذكر فيهما أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة. وبالجملة كان من سادات المشايخ الكبار، قدّس روحه ونوّر ضريحه.
هذه ملامح ومعالم عن الطريقة القادرية التي سار عليها قادة الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، من أمثال الشيخ الشريف محيي الدين، وابنه الأمير عبد القادر الجزائري.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022