من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بعنوان:
(ظهور الشريف محيي الدين الحسني)
الحلقة: الرابعة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
استمرت المقاومة، وبقي الاحتلال محصوراً في مدن الجزائر ووهران وعنابة، وحاول الفرنسيون تعيين شيوخ قبائل على الأقاليم الداخلية، يحكمون حكماً محلياً مع تسليمهم بالسيادة الفرنسية، فلم يجدوا من يتعاون معهم، وبقيت المقاومة مشتتة محلية، إلى أن ظهر الأمير عبد القادر فحول هذه المقاومة من محلية إلى وطنية.
وبدأ هذه الملحمة العظيمة والد الأمير عبد القادر الشريف الهاشمي محيي الدين شيخ الطريقة القادرية، وينسب إلى بني هاشم أرومة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان محيي الدين بن مصطفى الحسني ذا مكانة ووقار وهيبة مميزة وكلمة مسموعة بين القبائل، حتى إن الولاة العثمانيين كانوا يحسبون له حساباً، ويحترمون نفوذه بين القبائل ويخشونه، فازدادت خبرات سيدي محيي الدين القتالية، وبالدعوة إلى الجهاد وتنظيم صفوف المقاومة خلال سنتين من الاحتلال، ولكن بشكل غير منظم. وفي أواخر شهر أيار من عام (1832م) عقد اجتماعاً في مزرعة القيطنة التي ورثها عن أجداده الأدارسة دعا إليها جميع رؤساء القبائل المجاورة والمدن المحتلة، ووقف خطيباً قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال :60]. ودعاهم إلى الجهاد فساعدوه على تدريب وتنظيم قوة جهادية، وتلا عليهم الايات القرانية التي تحث على مقاومة الشر والظلم وقتال المعتدين، من هذه الايات قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *} [البقرة :190].
وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف :4].
وكان يرتل هذه الايات بصوت أدخل الخشوع على القلوب الثائرة، وعندما تم تدريب تلك القوة على استعمال السلاح ورمي السهام كلّف أحد المجاهدين وهو السيد عبد القادر بن زيان باستكشاف مراكز المحتلين بوهران، فتسلل متخفياً في جوف الليل، ولما قرب من المدينة شاهد قوات العدو معسكرة في ساحة المدينة، في مكان يسمى خنق النطاح فرجع بهذا الخبر إلى سيدي محيي الدين، وبعد وضع خطة الهجوم نادى بالجهاد، فاجتمع حوله في مزرعة القيطنة الرجال واستقبلهم بصيحة مدوية «الله أكبر» وأسرع الناس إلى المقاومة، فتقدمهم إلى وادي سيك وخيم في المرتفعات المطلة على معسكرات العدو، وانتظر حتى غطى ظلام الليل تلك المناطق فأمر بإشعال النيران بأعالي التلال، وقبل بزوغ الفجر انقض الفرسان على القوات المتمركزة في الساحة من أربع جهات، ودارت معركة دامية بين الفريقين بالبنادق والسهام ثم التحموا بالسلاح الأبيض، وكان الأمير عبد القادر على متن جواده الأشقر يصول ويجول بين الصفوف ويحرض المجاهدين على الثبات والصبر بقوله «دافعوا عن كرامتكم ودينكم أيها المجاهدون» فبادره أحد جنود العدو برمية من رمحه تحت إبطه الأيسر، فالتفت إليه وهوى بسيفه على الجندي المعتدي فقدّه نصفين، وجاء آخر فرماه بحربة، فأصابت جواده بجرح، وعدد من الطعنات، فسقط الحصان فقفز على غيره بسرعة البرق وتابع المعركة، وانتصف النهار والمعركة على أشدها، وانتهت بهزيمة المعتدين فانسحب من بقي منهم حياً، تاركين قتلاهم في ساحة المدينة، فتبعهم الفرسان المجاهدون حتى أجهزوا عليهم قبل وصول النجدة إليهم.
وقد سجل الأمير عبد القادر هذه المعركة في قصيدة طويلة من (44) بيتاً منها:
ألم تر في خنق النطاح نطاحنا غداة التقيناكم شجاع له لوى
وكم هامة ذاك النهار قددتها بحد حسامي والقنا طعنه شوى
وأشقر تحتي كلمته رماحهم مراراً ولم يشك الجوى بل وما التوى
بيوم قضى نحباً أخي فارتقى إلى جنان له فيها نبي الرضا أوى
فما ارتد من وقع السهام عنانه إلى أن أتاه الفوز برغم من عوى
ويوم قضى تحت جواد برمية وبي أحدقوا لولا أولو البأس والقوى
ولما بدا قرني بيمناه حربة وكفى بها نار بها الكبش يشتوى
فأيقن أني قابض الروح فانكفا يولي فوافاه حسامي منذ هوى
شددت عليهم شدة هاشميه وقد وردوا ورد المنايا على الغوى
وعاد الشيخ محيي الدين مع ابنه الفارس بعد أن حقق هذا الانتصار في أول معركة يخوضها ضد العدو.
عاد إلى وادي سيق حيث أقام هناك أياماً اتصل فيها بشيوخ قبائل الناحية، ثم توجه إلى القيطنة، بعد أن أذن للمجاهدين بالعودة إلى عشائرهم وانتظار أوامره مرة ثانية.
وبعد أيام دارت معركة خندق النطاح الثانية، فبعد أن استراح الشيخ محيي الدين أرسل للمجاهدين، فتجمعوا من كل صوب وتوجه بهم إلى وهران، وما أن تقدم مسافة حتى شعر بوعكة صحية، فعاد إلى بيته وسلم قيادة الجيش لابنه عبد القادر، وانتقل الأمير إلى وادي سبق، وانتظر هناك إلى أن التحق به فرسان القبائل، ثم توجه إلى عين الكرمة القريبة من وهران، وعلم الجنرال بويه بتحرك الجيش المسلم، فخرج من المدينة على رأس جيش عززه بفرق حضرت من فرنسا حديثاً، وعسكر في خندق النطاح، وكأنه صمم على الانتقام لهزيمة جيوشه في المكان نفسه قبل أيام.
قسم الجنرال جيشه إلى ثلاث فرق: اثنتان للقتال، وواحدة تركت احتياطياً، وعسكر الأمير في مواجهة العدو، وقسم قواته إلى خمس وحدات: وحدتان تقاتلان، ووحدتان للدفاع، ووحدة من الفرسان الخفاف كلفت بتطويق العدو من الخلف، ودارت المعركة، وهزم فيها جيش الجنرال فانسحب نحو أسوار المدينة، وما كاد يتقدم حتى فاجأته وحدة التطويق والتحمت بقواته وقتلت العديد منهم، ولم ينج سوى الجنرال مع عدد قليل من ضباطه وجنده، وقتل مئة مجاهد في هذه المعركة، منهم الفارس ذو الخمس عشرة سنة أحمد ابن أخ الأمير محمد السعيد، وقد كان فارساً شجاعاً، شاهده الأمير وفرسه يسقط ميتاً فهجم الأمير مع ثلة من فرسانه على المكان وراحوا يحيطون به، وتقدم من الفارس الشاب وحمله على جواده، وسط ذهول جنود العدو.
وعاد الأمير منتصراً إلى والده ؛ الذي أمر المجاهدين بالتوجه لأسرهم وانتظار النداء القادم. وأدرك الجنرال بويه قوة خصمه ومهارته، فاستنجد بالقيادة العامة بمدينة الجزائر، التي أرسلت له تعزيزات هامة، فقرر خوض معركة ثالثة، وفي نيته هزم المسلمين هذه المرة وضرب معسكره في برج رأس العين غربي المدينة. ونقلت عيون المسلمين تفاصيل تحركات العدو للشيخ محيي الدين ، فأمر بجمع الجموع ، وخرج من حاضرته القيطنة، وتوجه إلى وادي سيق، فعسكر هناك إلى أن تجمعت جموع المجاهدين، فعقد قيادتهم للأمير عبد القادر. وتقدم الجيش المسلم إلى أن أطل على معسكر العدو، وبات على مشارف وهران وجنوده يهللون ويكبرون ويهزجون بأناشيد الجهاد التي اهتزت لها قلوب الأعداء، عبأ الأمير جيشه إلى وحدات، كل قبيلة لها مقاتلوها، وعلى رأسهم اختار ابناً من أبنائها.
ومع طلوع النهار بدأت المعركة فاستعمل العدو مدفعيته فقذف بقنابلها المجاهدين الذين كانوا متحصنين وراء تلال وخنادق، وكان الأمير يقاتل وينتقل كالبرق بين المقاتلين يحثهم ويوجههم، وقتل في هذا اليوم أيضاً فرسه، فركب فرساً آخر واستمر يقاتل إلى أن سقط الليل فتوقف القتال. وعندما شعر الجنرال بويه بقوة المسلمين استغل سقوط الليل، وانسل مع جنده إلى ما وراء أسوار المدينة، وفي الصباح أصدر الأمير أوامره بالعودة إلى حاضرته.
واستمر الشيخ محيي الدين مع ابنه عبد القادر يخوضون سلسلة من المعارك من شهر (أيار «مايو» وحتى شهر (تشرين الثاني «نوفمبر») وعند ذلك تأكد الناس من قدرة الشيخ على جمع الصفوف وتوجيه الجهاد ضد العدو، وتوجهت وفود من مناطق الجزائر إلى محيي الدين بعد أن اجتمعت في سهل غريس، وقرّر هؤلاء الزعماء بالإجماع انتخاب سيدي محيي الدين لحكم البلاد وقيادة كفاحها، وانطلقوا مجتمعين إلى مزرعته في القيطنة، حيث كان قد وصلها لزيارة قصيرة، ومازال منتصباً على صهوة جواده ببرنسه الأبيض وقامته المهيبة وسيفه على يمينه، هادئاً محتفظاً بتلك النظرة التي عرف بها، والتي لا تُرى إلا في أعين كبار القادة المجاهدين، تلك النظرة التي تنحني لها الجباه، وتخفق لها القلوب، احتراماً ورهبة ومحبة، فنزل من على جواده ورحب بالقادمين، ثم دعاهم إلى قاعة واسعة مفروشة بالسجاد العجمي والمقاعد الأنيقة داخل منزله الريفي الذي شيد
من الحجر يعلو سقفه القرميد الأحمر، يتقدمهم العلماء وكبار السن، وامتلأت القاعة ولم يفاجأ هذا الشيخ الوقور بقدوم هؤلاء القوم، وظنهم جاؤوا للتشاور وتبادل الاراء، ولكن عندما وقف أحد الزعماء قائلاً: لقد ادلهمّ الخطب، وعمّت الفوضى في البلاد، والعدو دخل المساجد، وأحرق الكتب وهدم الدور على أصحابها، ولابد للبلاد من سلطان له سلطة شرعية، وقد اخترناك لتحمل هذه المسؤولية. شكر السيد محيي الدين الجميع قائلاً: أشكر ثقتكم، ولكن أعتذر عن قبول هذا المنصب، فأنا الان أقوم بواجبي الديني والوطني مجاهداً في سبيل الله، كأي واحد منكم. فوقف زعيم آخر وأخذ يحاوره قائلاً: إن هذا المنصب يزيدك قوة، وهذا المنصب من سمات الجهاد لجمع الكلمة وإدارة شؤون العباد، ونحن هنا جميعاً جئنا لنشد على يدك الطاهرة مبايعين على الطاعة والجهاد، فلا تخذلنا، فالبلاد كما ترى بحاجة إلى رأس كحاجة البحارة إلى قبطان.
والتفت السيد محيي الدين إلى الجميع مخاطباً وقال: إن كان رأيكم وثقتكم بولدي عبد القادر كرأيكم بي فأنا متنازل له عن هذه البيعة، فتشاوروا فيما بينكم، وإذا عقدتم العزم فموعدنا في سهل غريس تحت شجرة الدردارة صباح (الاثنين يوم الثالث من شهر رجب 1248هـ/1832م) ، وهذا ما تم وجاء الناس من كل حدب وصوب لمبايعة الأمير عبد القادر.
ك ـ الأسباب التي ساهمت في التفاف الناس حول محيي الدين:
كان لمحيي الدين مكانة في قومه، لوفور فضله وحسن خلقه وسعة علمه وشدة تدينه، كما أن للنسب الشريف ولزعامته للطريقة القادرية أثراً في التفاف الناس حوله.
أ ـ فبالنسبة للنسب:
فقد هاجر أحد أجداده إلى المغرب الأقصى وهو إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فلما وصل التفت حوله القبائل وبايعوه إماماً عليهم، وبعد في نهاية القرن الثامن بويع ولده إدريس الأصغر ومن بعده أولاده وأحفاده. ودامت دولة الأدارسة في المغرب والأندلس حتى النصف الثاني من القرن الثاني عشر، رغم أن دولة الأدارسة زالت منذ زمن إلا أن الأسرة الإدريسية ولشرف نسبهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بقي عزها واحترامها، وإجلالها دائماً محفوظ عند المغاربة عموماً، وبعد أن تخلت الدولة العثمانية بسبب ضعفها على الإشراف السياسي على شؤون البلاد، وتخلى المغرب عن مساعدة الجزائر، لم يبق أهلها مكتوفي الأيدي أمام المحتل الفرنسي، فالتفت القبائل حول السيد محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار الحسين الهاشمي القرشي. ففضلاً عن أن أسرته من الأشراف الأدارسة بالمغرب الأوسط أي الجزائر، فقد كانت له منزلته الرفيعة ومكانته العظيمة في نفوس الأهالي.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com