من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بعنوان:
(فصول من تاريخ المقاومة الشعبية الجزائرية)
الحلقة: الثانية والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
كدليل على اقتناع بورمون بأن البلاد دانت له، وأنه من السهل فتح المدن، قرر التوجه لاحتلال البليدة على رأس جيش قوامه (2000) جندي وبضع مئات من الخيالة ومدافع، وذلك يوم (23/7/1830م). ووصل الجيش بالفعل إلى البليدة فقام برحلة استطلاع فيها، وكان رجال القبائل يراقبونه، فما إن عاد حتى نصبوا له كميناً ببلدة بوفاريك، وقتلوا الكثير من الجيش، ولم ينج منه سوى بورمون مع عدد قليل من جنوده، تمكنوا من العودة به لمدينة الجزائر، وقتل العميد فرسيل بعد هزيمة الفرنسيين ببوفاريك. اضطر الفرنسيون أمام المقاومة الشعبية إلى إخلاء مدينتي وهران وعنابة وعند ذلك اقتنع المارشال بورمون بأن دولة الدّاي قد سقطت، وبدأت مقاومة الشعب، وبدأت معها متاعب فرنسا، لقد لخص المؤرخ الفرنسي ش أ جوليان عناصر المقاومة فقال: إن القبائل المرتبطة بالأرض هي التي انطلقت تنظم المقاومة، وليس أبناء المدن الأثرياء. واجتمع في غربي مدينة الجزائر في برج منفوست «قرب برج البحري» شيوخ الزوايا بالناحية، وقرروا مقاومة المحتلين ؛ الذين برهنوا خلال أيام من احتلالهم أنهم نهابون للممتلكات، حارقون للزرع مخربون للمنازل، معتدون على النساء، مدنسون للمساجد.
لقد وضع الفرنسيون أيديهم على المساجد ودور الأوقاف وغيرها من المعاهد، وأغلقوا المدارس وصادروا كل ما فيها، ومن ضحايا هذه المصادرات كانت المكتبات الملحقة بها، فاختفت الكتب والمخطوطات ؛ التي كانت تعد بالالاف، ومنها مكتبة الجامع الكبير في العاصمة الجزائر، ومكتبات بقية المدن الجزائرية، فعمد السكان إلى إخفاء مخطوطاتهم وكتبهم في أسطوانات معدنية طمروها في الأرض، ومنهم من حمل معه مخطوطاته الثمينة إلى حيث يرتحل، كالأمير عبد القادر الذي جمع في مدينته الاف الكتب والمخطوطات النادرة، فحُرقت أثناء الهجوم على هذه المدينة وسُرق أكثرها.
ويروي الضابط المرافق للجنرال بيرتوزان البارون بارشو دي بانهوين: أن جمهورهم كان ضخماً يلوح بالسلاح يقفز فرسانه على الخيل، ويصفق بحرارة لتحريض الشيوخ على القتال، كان المجتمعون من الشعب ومجلس الكبار واقعين تحت تأثير حادثة انتصار المقاومين بالبليدة، فارتفعت هتافاتهم بالحرب، أعلن هذه المقاومة المبكرة ابن زعموم رئيس قبيلة فيلسية القوية التي تقع منازلها في مدخل القبائل الكبرى قرب تيزي ونيف، وكذلك المرابط الحاج سيدي السعدي، بالإضافة إلى إعلان والي تيطري مصطفى بو مزراق المقاومة.
أ ـ ثورة في فرنسا:
وصلت يوم (11 اب «أغسطس») أنباء اندلاع ثورة في فرنسا، فحاول بورمون وضع الجيش الفرنسي المتواجد في الجزائر في خدمة الملك شارل العاشر، لكن قائد الأسطول رفض التعاون معه وأيده عدد كبير من الضباط.
واضطر بورمون إلى إنزال علم الأسرة المالكة بوربون الأبيض ورفع العلم المثلث الألوان، ثم جاء الجنرال كلوزيل قائداً عاماً في الجزائر، فعاد المرشال بورمون لفرنسا يحمل معه قلب ابنه الضابط الذي قتل أثناء الحملة.
غيرت ثورة يوليو علاقات فرنسا مع الدول الأوروبية، بالرغم من أنها أتت بلويس فيليب ملكاً، لكن هذه الملكية كانت مدعومة بالبورجوازية الليبرالية، وترتكز على مبادئ الثورة الفرنسية ؛ فقد تخلت عن علم أسرة بوربون الملكية، ورفعت علم الثورة المثلث الألوان، ولهذا فقد عاد التحالف الأوروبي ضد الملك الفرنسي الجديد، المعروف عنه إيمانه بمبادئ الثورة، وخشيت المملكات والإمارات الأوروبية من عودة فرنسا إلى عهد نشر الثورة في أوروبا على غرار حروب نابليون. ورفض نيقولا قيصر روسيا الاعتراف بلويس فيليب، كما أعلن ميتبرنيخ في النمسا تضامن ملوك أوروبا ضد الروح الثورية الفرنسية ؛ التي جاء بها لويس فيليب، ولو كانت أوضاع المقاومة الجزائرية منظمة ولها رأس لاستغلت هذا التناقض الأوروبي مع فرنسا وسخرته لصالحها، وجلبت دعماً أوروبياً يمكنها من طرد الاحتلال الفرنسي.
كان الكثير من الدول ينظر إلى احتلال فرنسا لمدينة الجزائر على أنه مؤقت، فعندما أعلنت فرنسا سنة (1832م) أنها ستستمر في احتلال الجزائر طلبت منها بريطانيا تفسيرات رسمية عن ذلك، وحينما أعلن المارشال مسول سنة (1833م) أن فرنسا غير ملزمة بأي تعهد دولي إزاء الجزائر، وأنها تفعل فيها ما تريد، وليس لها نية الجلاء عنها، لفت اللورد جراي نظر السفير الفرنسي تاليران في لندن إلى هذه التصريحات، وطلب منه تبليغ الحكومة الفرنسية ضرورة الاحتراس. وفي سنة (1834م) صرح وزير المستعمرات البريطاني: بأن بريطانيا لم توافق على احتلال فرنسا لمدينة الجزائر، كما تحدث اللورد بلمرستون سنة (1838م) عن حقوق الباب العالي في نيابة الجزائر، وأن وجود فرنسا هناك لا يعدو كونه احتلالاً عسكرياً، لكن معارضة بريطانيا لفرنسا هذه عندما لم تجد من يستغلها في الجزائر ضعفت أمام إصرار فرنسا على خلق الأمر الواقع، ولم تعترف بريطانيا رسمياً بالوجود الفرنسي، وتقدم أوراق اعتماد قنصلها في الجزائر للإدارة الفرنسية هناك إلا سنة (1851م). أرسل كما بينا كلوزيل خلفاء لبورمون، كلوزيل له خبرة طويلة ليس في الجيش فقط وإنما في الزراعة، فعمره كان ستين سنة، قضى سنوات منفياً بأمريكا، وأول ما فعله تثبيت الوجود الفرنسي بمدينة الجزائر، فقام بإنشاء إدارة لتسييرها، وشجع الاستيطان، كما حارب الفوضى التي وجدها في تواجد الجيش في المدينة، فقد لاحظ أن الجنود احتلوا المساكن الجزائرية الجميلة واستخدموا أثاثها وخشبها الثري المنقوش كحطب للتدفئة وطبخ الطعام، فقرر إخراجهم من هذه المنازل وأقام لهم نقاطاً ومعسكرات خارج المدينة، وعلى الطرق التي قرر إقامتها نحو سهل المتيجة.
ب ـ هزيمة كلوزيل في البليدة والمدية:
تقرر إرسال هذا الجيش المتواجد بمدينة الجزائر لاحتلال مدن أخرى، ففي (17/11/1830م) قاد المارشال كلوزيل جيشاً هاماً من عشرة الاف جندي يساعده ثلاث جنرالات، فاحتل البليدة وأقام بها حامية، وتوجه الجيش لاحتلال مدية ومليانة، وعسكر في الشفة، ومن هناك شاهد تجمعاً كبيراً من فرسان القبائل على المرتفعات، فقرر عدم اتباع طريق وادي الشفة، وقرر اتباع طريق موازية، وترصد له المجاهدون بقيادة بو مزراق فدحرجوا عليهم من فوق الممر الضيق صخوراً ضخمة قتلت العديد منهم، وعندما وصل الجيش غابة الزيتون اصطدموا بمقاومة خلفت في صفوفهم خسائر كبيرة، ووصل جيش العدو مدية، واحتلها لكن بخسائر كبيرة وذلك في (22/11/1830م)، واستسلم له مصطفى بو مزراق، وتصور أن الأمور دانت له، وصرف النظر عن التقدم لمليانة، ثم عاد إلى الجزائر بعد أن ترك بها حامية قوية من ثلاثة الاف جندي، وعين باياً عليها باسم فرنسا العميل مصطفى بن عمر، لكن المجاهدين هاجموا الحامية وجعلوا استمرارها في المدينة مكلفاً ؛ الأمر الذي جعل كلوزيل يأمر بإخلائها فأخليت في (1/1/1831م)، ولدى عودته من البليدة هاجمها المجاهدون بقيادة ابن زعموم، هاجموا الحامية ودارت معركة ضارية معهم دامت ثلاثة أيام، وإن المجاهدين قد احتلوا معظم أحيائها، وإن قائد الحامية الكولونيل روليير بات لا يحتل سوى جامع كبير جعله مستشفى لجرحاه، وعدداً قليلاً من المنازل القريبة من باب الجزائر، ووصل كلوزيل البليدة بجيشه، وأنقذ ما تبقى من حاميته، كما علم بأن وحدة كانت متوجهة إلى الجزائر كمن لها المجاهدون في بوفاريك وأبادوها عن آخر رجل فيها، ووصل لبوفاريك يوم (28) فوجد المدفعيين الخمسين الذين أرسلهم لإحضار الذخائر مقتولين شر قتلة، وأمام هذه المقاومة الجبارة قرر كلوزيل إخلاء مدينتي مدية وبليدة، وسحب حاميتهما إلى مدينة الجزائر.
ج ـ تجنيد الجزائريين:
عندما عجز كلوزيل عن الحصول على إمدادات كبيرة من فرنسا طلب من حكومته السماح له بتجنيد جزائريين من قبائل زواوة، فأذنت له، فكون وحدات يقودها ضباط فرنسيون، منح لهم مراتب أعلى من المراتب التي تعطى لضباط الجيش، وصرف لهؤلاء الجنود أجوراً مغرية، قصد منها إغراء الجزائريين على التطوع في هذه الوحدات ؛ التي اتخذت لها زياً خاصاً مستمداً من الزي التركي والمملوكي، وسمي هذا الجيش «بالزواف» نسبة إلى قبائل زواوة، واصطدمت هذه الوحدات في البداية بهروب جنودها وعودتهم إلى قبائلهم، بسبب عدم تأقلمهم مع القيود التي يفرضها عليهم نظام هذا الجيش الغريب، بحيث لم يتجاوز حجمها كتيبتين، لكن كلوزيل اعتبرها بداية مشجعة، وأمام مقاطعة الشعب لجنود الزواف، بل ومقاطعة أسرهم لهم، صار الكثير منهم يهرب سلاحه، بل واتخذ المقاومون هذه الوحدات وسيلة لجلب السلاح، فكانوا يرسلون متطوعين يقيمون فترة في الثكنات والمعسكرات، ويهربون بالأسلحة بعد أن يكونوا قد تدربوا. ففي (24/10/1830م) أعلن الجنرال بويير سرقة (206) بندقية و(8) سيوف، وأمام الضغط الشعبي لم يتطوع في صفوف الزواف في
السدس الأول لسنة (1831م) سوى (20) مشكوكاً في ولائهم.
د ـ توطين أوروبيين:
جاء كلوزيل بفكرة يبدو أنه كوّنها نتيجة لعيشه في أمريكا سنوات، فهو يرى أن الأسلوب الوحيد للسيطرة على الجزائر هو توطين أوروبيين في هذا البلد الواسع والغني، وتطبيق ما طبقه الإنسان الأوروبي بالعالم الجديد، إما بإبادة الجزائريين أو بطردهم إلى الصحراء، ركز كلوزيل اهتمامه على متيجة فاختار المتطوعين للاستيطان من الجنود السابقين، وأمر بإعطاء كل واحد منهم ستة أربانتان، والأدوات اللازمة للزراعة، والأسلحة للدفاع عن أنفسهم، وأقام مزرعة اعتبرها المزرعة الأولى النموذجية بالحراش، وهي «مزرعة حوش حسن باشا» التي تضم (000،1) هكتار، وخصصت حامية عسكرية لحماية المزرعة، كما تقرر تموين الكولون بالمزرعة بسائر المواد التي يحتاجونها، من أغذية وأدوات من مخازن الجيش، واشترى كلوزيل لحسابه الخاص ثلاث مزارع ووجه ضابطاً وجنوداً لخدمتها، ورفع الجنرال بيرتوزان تقريراً لوزارة الدفاع، ذكر فيه: كيف استغل كلوزيل نفوذه فاشترى بأبخس الأثمان مزارع في بابا علي وفي واعلي أدّا وهي تمثل أملاكاً لأطفال أيتام، اشتراها بواسطة المرابيين اليهوديين بوشناق وبكري.
في هذا الجو كان الضباط يشترون ممتلكات الجزائريين الهاربين من الحكم النصراني بأبخس الأثمان بواسطة المرابين اليهود، لدرجة أن الجنود سخطوا وقالوا: نحن لم تأت هنا لحماية المضاربين وبأسلوب السرقة. هكذا تأسست المزارع الأوروبية بالساحل وسهل المتيجة، وقد وصف الجنرال بيرتوزان هؤلاء الكولون الأوروبيين القادمين في رسالة وجهها لوزير دفاعه بتاريخ (25/3/1831م) قال فيها: لابد من الكف عن الاعتماد على متطوعي باريس الذين التقطوا من أرصفة العاصمة، المنغمسين في الحقارة والسكر، لدرجة صار يطلق عليهم هنا «البدو الفرنسيون».. إن الفوضى تزداد بمجيء أفاقي أوروبا الذين تقيأتهم إسبانيا وإيطاليا وخاصة مالطة.
ويرفض البارون بيشون الاستيطان في كتابه «مدينة الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي» (1833م) فيقول: إن الاستيطان يستأصل الجزائريين، فسهل متيجة كل قطعة فيه لها صاحبها، وأن يسكنه الكولون معناه إنفاق عشرات الملايين، وتخصيص (000،5) جندي لحراستهم ؛ وهذا معناه جلب العار لفرنسا، وجعل الجزائريين يقفون ضد فرنسا، سواء كانوا عرباً أو قبائل أو كراغلة، وما يدعيه البعض من إمكانية زراعة محاصيل استوائية خطأ، فأرض الجزائر لا تصلح إلا للحبوب والزيتون والكروم، وكالجنرال بيرتوزان يرفض البارون بيشون استقدام ألمان وسويسريين مثل الذين أحضرهم كلوزيل، وأنفق عليهم مبالغ ضخمة من الخزينة، وملّكهم أرضاً بعد أن طرد منها أصحابها، فهو يحدد موقفه ضد الأسلوب المستغل والاستئصالي المبيد للجزائريين ؛ الذي يستهدف سرقة أرضهم وطردهم إلى الصحراء، ويرى أن القبائل الجزائرية لن تتخلى بسهولة عن أراضيها كما فعلت قبائل العالم الجديد بأمريكا.
ويقول: إن أنجع الوسائل هي إدماج الجزائريين في مصالحهم الخاصة، وتطوير التعليم عندهم باللغة العربية.
ويقول أرمون فيكتور هين مؤسس الشركة الكولونيالية للجزائر: يستحيل إدماج الأهالي ؛ ينبغي طردهم للجنوب، وإبادتهم، لابد من معاملتهم كالوحوش ورميهم هناك في رمال الصحراء.
لقد أصدر الفرنسيون قوانين ظالمة، صادروا بها أراضي الأهالي، وكل قبيلة تهزم في المقاومة تجرد من أراضيها الخصبة وتطرد، إما إلى الجبال أو إلى الصحراء، وتملّك الأرض للمزارعين الفرنسيين، وكم من أراضٍ أخذت من أصحابها، واضطروا أن يعملوا بها كأجراء لدى سارقيها.
لقد اقترح المارشال كلوزيل على حكومته تشجيع الأوربيين على الاستيطان في الجزائر، وفتح خط بحري أسبوعي بين مرسيليا والجزائر بالبواخر البخارية ؛ التي تقطع المسافة في أربع وخمسين ساعة، لا بالسفن الشراعية ؛ التي كانت تقطعها في خمسة أيام وأحياناً أكثر.
وقام القناصلة الفرنسيون بالعواصم الأوروبية بنشر إعلانات تحث الشباب الأوروبي على الهجرة إلى فردوس الجزائر، وكانوا يشبهونها بأمريكا، وتوجه المئات منهم إلى مرسيليا فالجزائر، بحيث وصل عددهم في الستة أشهر الأولى للاحتلال ثلاثة الاف مهاجر إسبان وإيطاليين ومالطيين، كما أفرغت الحكومة الفرنسية إصلاحيات الأحداث من نزلائها، وأرسلتهم إلى الجزائر، بحيث بلغت الدفعة الأولى (4500) نزيل.
ولقد افتتح المارشال كلوزيل سياسة الاستيطان عندما أحضر أحد وكلاء الهجرة خمسمئة ألماني وسويسري، تعاقد معهم على تشغيلهم في أمريكا، لكن ما إن أوصلهم الجزائر حتى تخلى عنهم، فالتقطهم كلوزيل وأمر الجيش بنصب خيام لهم خارج مدينة الجزائر، ووزع عليهم أرضاً كانت أوقافاً إسلامية.
ه ـ لجنة برلمانية فرنسية للتحقيق في الجزائر:
أرسل البرلمان الفرنسي لجنة للتحقيق في الجزائر قضت فيها شهري («سبتمبر» أيلول «أكتوبر» تشرين أول 1833م)، ومما ورد في تقريرها: أرسلنا إلى العقوبة أناساً على أساس مجرد شك. قمنا بتجريد ورثة قُصَّر من ممتلكاتهم، قتلنا ناساً حاملين لأذون مرور، وعلى أساس مجرد شكوك ذبحنا جماعات كاملة اكتشف بعدها أنهم أبرياء، قدمنا للمحاكمة أشخاصاً اشتهروا بأنهم مقدسون وأولياء موقرون، لا لشيء إلا لأنهم وقفوا يدافعون بشجاعة عن مواطنيهم، ووجد قضاة لإدانتهم ورجال متمدنون لإعدامهم، وتسببنا في فوضى عارمة بين قبائل بسبب كرمها عندما قبلت طلب هاربين من جيشنا باللجوء إليها، حولنا المساجد إلى كنائس، واحتللنا منازل دون أي تعويض، صادرنا أملاك الأوقاف أي أملاك منشات دينية، دمرنا المقابر واحتقرنا بذلك أكثر شيء مقدس لدى الشعوب، لقد نُهب العرب وأُذلوا وانقض المرابون على الجزائر كفريسة سهلة للنهب، فكونوا ثروات ضخمة متجاوزين أبسط مبادئ الشرف، وباختصار لقد أغرقنا في البربرية هؤلاء البرابرة الذين جئنا لتمدينهم، ثم نشكو من أننا فشلنا معهم.
و ـ إحكام السيطرة على مدينة الجزائر:
وأمام قوة المقاومة الجزائرية، وفشل محاولات كلوزيل احتلال مدن أخرى، رأى الاحتفاظ بمدينة الجزائر وحوّلها وإدارتها فرنسية، وإيجاد أسلوب آخر لإدارة الأقاليم الأخرى بحكم محلي يعترف بالسيادة الفرنسية العليا، فقرر إقامة كيانين بوهران وقسنطينة تحت الحماية الفرنسية، يداران بمسلمين، وعرض كلوزيل على باي وهران وباي تيطري ابن مصطفى بو مزراق تعيينهما بايين تحت الحماية فرفضا، وساعد كلوزيل على تحقيق هذه الفكرة باي تونس حسين الذي صنف على أنه صديق لفرنسا، فقد سبق له أن هنأ فرنسا على احتلالها للجزائر وسمح للجيش الفرنسي بالتزود بما يحتاجه من تونس.
ز ـ حكام تونس يدعمون الاحتلال:
أرسل كلوزيل وفداً لباي تونس حسين باشا يحمل اتفاقية تنص على تعيين سيدي مصطفى شقيق باي تونس باياً على قسنطينة تحت الحماية الفرنسية، ووافق باي تونس على الاتفاقية ووقع عليها حامل أختامه يوم (18/8/1830م). وتنص الاتفاقية على: أن يطبق الباي مصطفى كل ما يرسمه له القائد العام الفرنسي في الجزائر، كما لو أنه هو الذي عينه، ويعمل لصالح فرنسا أولاً، ولصالح الإقليم ثانياً، وأن يقوم بجمع الضرائب من السكان، على أن يدفع منها نسبة للدولة الفرنسية. وفي (6/2/1831م) وقع كلوزيل اتفاقية أخرى تنص على تعيين أحمد أحد أقارب باي تونس في منصب باي وهران، لكن عندما أرسل كلوزيل الاتفاقية الأولى إلى باريس، عارضها وزير الخارجية بحجة أنها تعطي حقوقاً في قسنطينة لباي تونس، واعتبر كلوزيل قد تجاوز صلاحياته بتوقيعه على هذه الاتفاقية ؛ التي تعتبر من صلاحيات وزارة الخارجية، وشكا للملك الذي أصدر قراراً يوم (29/1/1831م) بإلغاء هذه الاتفاقية، ونشر هذا القرار قبل أن يعلم به كلوزيل. ولعب اليهود دوراً كبيراً في عقد هذه الاتفاقيات مما جعل ش أ جوليان يقول: إن اليهود المشهورين بمكرهم برهنوا على أنهم ضروريون كوسطاء ومخبرو أجهزة مخابرات.. إن تقريب اليهود ورفع مستواهم من طرف الفرنسيين بدت للجزائريين على أنها فضيحة اجتماعية.
وفي هذه الأثناء وصلت إلى وهران يوم (11 «فبراير» شباط 1831م) سفينة تونسية تحمل بضع مئات من الجنود التونسيين بقيادة خير الدين اغا وكيل الباي المتوقع وفقاً لاتفاقية كلوزيل، وقام بإقناع الأتراك بضرورة تأييده حتى يعيد الحكم التركي للبلاد، وانخدع هؤلاء بأقواله وانضم بعضهم إليه، لكن الشعب ثار عليه وعليهم، وقتلوا الكثير من أتباعه، وهرب أتراك تلمسان من انتقام الشعب، واعتصموا بقلعة المشوار فاضطر خير الدين اغا إلى طلب سفينة تعيده مع جنده إلى تونس، وعادت الأمور إلى الصفاء بين الشعب والأتراك. وإزاء تصرفات كلوزيل الفردية قررت الحكومة الفرنسية إعادته إلى فرنسا، وتعيين خلف له وهو الجنرال بيرتوزان.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com