السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(الوقاية من الفساد الإداري في عهد عمر بن عبد العزيز)

الحلقة: 190

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1442 ه/ مارس 2021

سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق السلامة من الفساد الإداري، بالحرص على سبل الوقاية منه، وسدّ المنافذ على السموم الإدارية؛ مثل: الخيانة، والكذب والرشوة والهدايا للمسؤولين والأمراء والإسراف وممارسة الولاة والأمراء للتجارة واحتجاب الولاة والأمراء عن الناس، ومعرفة أحوالهم، والظلم للناس والجور عليهم، وغير ذلك، وإليك شيء من التفصيل:

1 ـ التوسعة على العمال في الأرزاق:

كان أول إجراء إداري رأى فيه عمر الوقاية من الخيانة: أن وسَّع على العمال في العطاء، رغم تقتيره على نفسه وأهله، وأراد بذلك أن يغنيهم عن الخيانة، فقد كان يوسِّع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مئة دينار، ومئتي دينار، وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين، فقيل له: لو أنفقت على عيالك، كما تنفق على عمالك؟ فقال: لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم، وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم، فاعتذر بأن معهم سلفاً كثيراً قبل ذلك، وبهذا الإجراء ألا وهو التوسع على عماله يحقق عمر أمرين هامَّين:
أ ـ سد منفذ الخيانة، وما يدفع العمال من حاجة إلى الخيانة وسرقة أموال المسلمين.
ب ـ ضمان فراغ الولاة والعمال والأمراء لأشغال المسلمين وحوائجهم.

2 ـ حرصه على الوقاية من الكذب:

قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده عاملـه على الكوفـة، فإذا هو متغيظ عليـه، فقلت: ما له يا أمير المؤمنين؟ قـال: أبلغني أنـه قال: لا أجد شاهد زور إلا قطعت لسانه. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! إنه لم يكن بفاعل. قال: فقال: انظروا إلى هـذا الشيخ ـ مستنكراً ما قال ميمون ـ إن منزلتين أحسنهما الكذب لمنزلتا سوء. والمقصود: فإن الكذب أحد منازل السوء، وبذلك يسعى عمر إلى قطع دابر الفساد الإداري بالتحذير من الوقاية عما يجرُّ إليه الكذب والتحايل في اتخاذ القرارات.

3 ـ الامتناع عن أخذ الهدايا والهبات:

رد على من قال له: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية؟ قال: بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة، كما أبطل عمر أخذ الهدايا التي كان الولاة الأمويون يأخذونها وبخاصة هدايا النيروز والمهرجان، وهي هدايا تعطى في مناسبات وأعياد الفرس، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله كتاباً، يقرأ على الناس، يبطل فيه أخذ التوابع والهدايا، التي كانت
تؤخذ منهم في النيروز والمهرجان وغيرها من الأثمان والأجور، كما أنذر ولاته وعماله من أن يتخذ أحد منهم تلبية طلبات الخليفة أو أحد أهله شيئاً مسلَّماً به، ومن ذلك ما حدث عندما أرسلت فاطمة بنت عبد الملك إلى ابن معدي كرب، تطلب عسلاً من عسل سينين أو لبنان، فبعث إليها، فكتب إليه عمر: وايم الله لئن عدت لمثلها، لا تعمل لي عملاً أبداً، ولا أنظر إلى وجهك.

4 ـ النهي عن الإسراف والتبذير:

فقد اتخـذ قـرارات تنـم علـى حرص شـديـد على أموال المسلمين، فكان أول إجراء له بعد توليه الخلافة هو انصرافه عن مظاهر الخلافة، إذ قربت إليه المراكب، فقال: ما هذه؟ فقالوا: مراكب لم تركب قـط، يركبها الخليفـة أول ما يلي، فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم ـ يعني مولاه ـ ضم هـذه إلى بيت مال المسلمين، ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط، يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال: يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته، وانصرف إلى الفرش والوطاء الـذي لم يجلس عليـه أحد قـط، يفرش للخلفـاء أول ما يلـون، فجعل يدفع ذلك برجلـه، حتى يفضي إلى الحصير، ثم قـال: يا مزاحم ضم هـذه لأموال المسلمين.
وأخذ إجراء آخر لمحاربة الإسراف في الدولة، فحين قال له ـ ميمون بن مهران ـ وهما ينظران في أمور الناس: ما بال هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل، وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين؟ فكتب إلى العمال: أن لا يكتبوا في طومار ولا يمد فيه، قال: فكانت كتبه شبراً أو نحو ذلك. وقد مر معنا كتابه لأبي بكر بن محمد بن حزم الأنصاري والي المدينة في قصة الشموع، وتوجيه عمر له في ذلك، وكيف يكتب له، عندما قال: إذا جاءك كتابي هذا فأدق القلم، واجمع الخط، واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم والسلام عليك.
ذلك هو شأن عمر في كل أمر يخص مال المسلمين، صغر أو كبر، ومع كافة الولاة، فإنه من المسلم به أن عمر لم يكن كذلك مع والي المدينة فحسب، بل هو كذلك مع غيره من الولاة والعمال، فكان يسعى للتوفير والاقتصاد في الإنفاق من بيت المال، ليحول بذلك دون الإسراف والبذخ.

5 ـ منع الولاة والعمال من ممارسة التجارة:

قال في كتاب له إلى عماله: نرى أن لا يتجر إمام ولا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يستأثر ويصيب أموراً فيها عنت، وإن حرص أن لا يفعل، وذلك إدراك منه أن ممارسة العمال والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم يكن الاثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتها عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست له من الحق في شيء، وبهذا القرار سد عمر منفذاً خطيراً قد يؤدي إلى فساد إداري قلَّ ما تتوارى عواقبه.
وبعد ثمانية قرون جاء ابن خلدون وكتب في مقدمته العظيمة بعد تجارب طويلة ودراسة واسعة، ما يصدق عمر بن عبد العزيز في نظرته الصادقة، وحكمته البالغة قال: إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا، معسرة للجباية.

6 ـ فتح قنوات الاتصال بين الوالي والرعية:

كانت الحاشية حول الخلفاء قبل عمر بن عبد العزيز قد حجبت الناس عن الوصول إلى الخليفة، وقد بنى الحاشية سياجاً من حديد لا ينفذ منه إليه إلا ما يشتهون وما تسمح به مصالحهم، أما عمر بن عبد العزيز فقد أعلن بالجوائز والمكافأة المالية لمن يخبره بحقيقة الحال، أو يشير عليه بشيء فيه مصلحة للمسلمين ومصلحة لدولتهم، وكتب إلى أهل المواسم: أما بعد، فأيما رجل قدم إلينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله ما بين مئة دينار إلى ثلاثمئة بقدر ما يرى الحسبة وبعد السفر، لعل الله يجيء به حقاً أو يميت باطلاً، أو يفتح به من ورائه خيراً.
كما أمر العمال والولاة، بأن يحرصوا على فتح قنوات الاتصال بينهم وبين الرعية، ويسمعوا منهم ويتعرفوا على أحوالهم، فإن ذلك يمنع ممارسة الظلم والتعدي على حقوق الآخرين، ويتيح لكل فرد طلب ما يريد دون اللجوء إلى أساليب وطرق لا تمت للإسلام بصلة.

7 ـ محاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال:

لما تولى عمر بن عبد العزيز أمر بالقبض على والي خراسان يزيد بن المهلب، ولما مثل بين يديه، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك. فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان ما لا سمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذ بشيء ولا بأمر أكرهه. فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدِّ ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبقي فيه حتى بلغه مرض عمر، وقد كان عمر بن عبد العزيز يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم؛ فقد كتب إلى أحدهم يقول: (لقد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما عدلت، وإما اعتزلت، والسلام).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022