من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(مبدأ المرونة في إدارة عمر بن عبد العزيز)
الحلقة: 192
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شعبان 1442 ه/ مارس 2021
مارس عمر بن عبد العزيز المرونة في التفاهم والحوار والفكر وتنفيذ الأوامر والتقيد بها، ومن تلك الشواهد: ما روى ميمون بن مهران: أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال: يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني إنما أروض الناس رياضة الصعب، وإني لا أريد أن أحيي الأمور من العدل، فأؤخر ذلك، حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه.
وقال عمر: ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً، فقد أبدى بهذا الإعلان منذ توليه الخلافة، أن تحقيق الأهداف يتطلب شيئاً من المرونة والتغاضي، فليس الأمر كما يرى ولده بأن لا مانع لديه من أن تغلي بهم القدور في سبيل تحقيق العدل، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر.
وهذا موقف آخر مع ابنه عبد الملك وإليك ما دار بينهم من حوار:
الابن: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقضِ حق الله فيها؟
الأب: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا، وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي، إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزل الآية والآيتين حتى أسكن الإيمان في قلوبهم.
يا بني...ما أنا فيه أمر هو أهم إلي من أهل بيتك (الأمويين)، هم أهل القدرة والعدد وقبلهم ما قبلهم، فلو جمعت
ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني أنصف من الرجل والاثنين، فيبلغ ذلك من وراءه، فيكون أنجح له.
في الآثار السابقة، يقدم لنا عمر فقهه الحاذق في إدارة الحركات الإصلاحية التجديدية، وتسيير البرامج التي تستهدف إسقاط الظلم والاستغلال ونشر العدل والمساواة. ففي قوله: إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا؛ فبيَّن رحمه الله: أن طاقة الإنسان محدودة، وأن القابلية على تحمل الجد الصارم لها حدودها هي الأخرى، والإنسان في تقبله لالتزاماته في حاجة ضرورية إلى وقتٍ كافٍ لتمثل هذه الالتزامات من الداخل، وتحويلها إلى مبادئ وقيم ممزوجة بدم الإنسان وأعصابه، ومتشكلة في بنيته وخلاياه، وبدون هذا سوف لن تجتاز هذه الالتزامات حدود الإنسان الباطنية، وستظل هناك مكدسة على أعتاب الحس الخارجي، وطالما ظل هذا التكديس يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم، فسوف يأتي يوم لا محالة يسقط فيه الإنسان تحت وطأة هذا الثقل المتزايد غير المتمثل...
ومما يلفت النظر عبارته:.. ولكني أنصف الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجح له. إن عمر هنا يؤكد على أهمية الإنجاز وعلى دوره في تحقيق ـ الإصلاح والتجديد ـ، فكثيرون هم أولئك الذين طرحوا أقوالاً أعلنوا فيها عن عزمهم على إحداث ثورة حقيقية وانقلاب يجتث الجذور العفنة ويبدأ الزرع من جديد، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن سقطوا وسقطت مبادئهم؛ لأنهم طرحوا أقوالاً... أما عمر هذا المصلح الكبير والفقيه الحاذق، فإنه يريد أن يطرح أفعالاً، ولا يطرحها بالعنف والإكراه ودونما تخطيط، وإنما لينصف الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءهما حتى يسري الإصلاح في نفوس الأمة أنى كانت، سريان الضياء في الظلام.
ثم إن عمر هذا الذكي المرن لم يشأ أن يخرج شيئاً إلا ومعه طرف من الدنيا يستلين به القلوب، ولا يمكن لأحد أن يقول: إن هذا يمثل تنازلاً من عمر بن عبد العزيز عن أهداف إصلاحاته الشاملة صوب إصلاح جزئي يقوم على الترقيع... لأن ما عرفنا عمر منذ حمل مسؤولية أمته، يسعى إلى التنازل، ولو شبراً واحداً، عن الأهداف التي طرحها القرآن الكريم والسنة، ولكنه هنا يقدم فقه الأسلوب الحيوي الذي تتأتى به تلك الأهداف كاملة...
إن الضغط المستمر يولد الانفجار، ومهما كان سخف هذا الانفجار وعبثه فإنه لابد وأن يحرق ويدمر، وإذا كان بإمكان القادة والمسؤولين تجاوز هذا الحريق والدمار عن طريق الالتزام بأسلوب حيوي ينسجم وبنية الإنسان النفسية، فلماذا لا يسلكوه؟ فعندما قال له ابنه عبد الملك: يا أمير المؤمنين! انفذ لأمر الله وإن جاشت بي وبك القدور، فماذا كان جواب الخليفة المرن؟ يا بني! إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف، لا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف.
إن خليفة بهذه المرونة وبهذا الذكاء لا يمكن أن يجزع عن أهدافه يوماً، ومما مضى يتضح أدلة مرونة عمر في إدارته فيما يتعلق بتنفيذ السياسة العامة، سياسة إقامة العدل ونشر الإسلام، وبناء دولة العقيدة، وإليك هذه الشواهد في تنفيذ مبدأ المرونة:
1 ـ فلا يحملنك استعجالنا إياك أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها:
خرج عمر على حرسه يوماً، فقال: أيكم يعرف هذا الرجل الذي بعثناه إلى مصر؟ قالوا: كلنا نعرفه ـ وكان قد كلف رجلاً بمهمة إلى مصر قبل وقت ليس ببعيد ـ قال: فليذهب إليه أحدثكم سناً فليدعه ـ قال: وذلك في يوم جمعة، فذهب إليه الرجل، فظن الرسول أن عمر بن عبد العزيز استبطأه فقال له: لا تعجلني حتى أشد عليَّ ثيابي، فشد عليه ثيابه، فأتى عمر، فقال: لا روع عليك، إن اليوم يوم الجمعة، فلا تبرح حتى تصلي الجمعة، وقد بعثناك لأمر عجلة من أمر المسلمين، فلا يحملنك استعجالنا إياك أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها، فأبدى عمر في هذا الموقف مرونة في التنفيذ، رغم أنه أرسل مندوبه لأمر يهم المسلمين إنجازه على عجل.
2 ـ هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج:
استدعى عمر بن عبد العزيز عامله على خراسان، فما كان من العامل إلا أن أسرع بالمغادرة إلى الخليفة تنفيذاً لأمره، وعندما وصل إلى مقر الخلافة في دمشق ورأى الخليفة ملامح التعب والإجهاد على وجهه، سأله: متى خرجت؟ فقال: في شهر رمضان، فقال له عمر: قد صدق من وصفك بالجفاء!! هلا أقمت حتى تفطر، ثم تخرج.
3 ـ لا تعنت الناس ولا تعسرهم ولا تشق عليهم:
ذكر ابن سعد أن ـ ميمون بن مهران ـ وكان على ديوان دمشق، قال: فرضوا لرجل زمِن، فقلت: الزمن ينبغي أن يحسن إليه، فأما أن يأخذ فريضة رجل صحيح فلا. فشكوني إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا له: إنه يتعنتنا ويشق علينا، ويعسرنا. قال: فكتب إلي: إذا أتاك هذا فلا تعنت الناس ولا تعسرهم، ولا تشق عليهم؛ فإني لا أحب ذلك، وقد كتب إليه عمر انطلاقاً من مبدأ المرونة وتسهيل الأمور.
4 ـ المرونة في الحوار والتفاهم:
فقد كان الحوار الهادئ ومقارعة الحجة بالحجة أسلوبه في حواره ومناظراته ـ كما مر معنا مع الخوارج ـ فقد حدث أن: دخل على عمر أناس من الحرورية، فذاكروه شيئاً، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم، ويتغير عليهم، فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم، ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقي، فخرجوا على ذلك، فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه، فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك، دون الكي فلا تكوينَّه أبداً، وأبدى مرونة في كافة أساليب التعامل معهم.
5 ـ المرونة الفكرية:
كان عمر يتحلى بالمرونة الفكرية، متجنباً الجمود والتشدد، فقد حدث ـ كما مر معنا ـ أن أرسل عمر يزيد بن أبي مالك، والحارث بن محمد، ليعلما الناس السنة وأجرى عليهم الأرزاق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث، وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجراً، فذكر ذلك لعمر، فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث. فلم يتخذ موقفاً محدداً تجاه العالِمَيْن، رغم اختلاف موقفهما تجاه قبول الأجر على تعليم الناس، فأيد أخذ الأجر على التعليم، وأنه لا بأس فيه، ثم دعا الله أن يكثر من أمثال الحارث، فاتضحت مرونته في تأييد الموقفين في آن واحد، رغم اختلافهما، ويأتي ذلك في إطار ما عبر عنه عن قناعته التامة، أن مبدأ المرونة مطلوب وضروري حتى قال: ما يسرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا، لم تكن رخصة. وقال: ما يسرني باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حمر النعم.
فهذه أدلة على تطبيق عمر لمبدأ المرونة في إدارته، ولم تكن المرونة عائقاً لتنفيذ القرارات، وتحقيق الأهداف المرسومة، والوصول إلى المرامي والتطلعات.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com