السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(أهمية الوقت في إدارة عمر بن عبد العزيز)

الحلقة: 193

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1442 ه/ مارس 2021

كان عمر بن عبد العزيز يقضي جل وقته، إن لم يكن كله في تسيير أمور الدولة، أو في عمل فيه مصلحة الأمة، أو في أداء حق الله من العبادة، فكان يقضي ليلته في الصلاة والمناجاة، وكان لا يكلم أحداً بعد أن يوتر، وفي إطار اغتنام الوقت نسب إلى عمر قوله: إن الليل والنهار يعملان فيك ـ أي: في الإنسان ـ فاعمل فيهما، وكان يغتنم الوقت في الأعمال الصالحة وفي سرعة التوجيه والبت السريع في الأمور واتخاذ القرارت الإدارية، وتلافي كل ما من شأنه تأخير أي عمل أو مصلحة، فإن أهم الأدلة على ذلك ما كان منه من سرعة إجراءاته لإصدار ثلاثة قرارات، تحدث عنها ابن عبد الحكم ورواها قائلاً:
فلما دفن سليمان ـ وكان دفنه عقب صلاة المغرب ـ دعا عمر بدواة وقرطاس، فكتب ثلاثة كتب، لم يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره، فأخذ الناس في كتابته إياها هنالك في همزه؛ يقولون: ما هذه العجلة؟ أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله؟! هذا حب السلطان. هذا الذي يكره ما دخل فيه، ولم يكن بعمر عجلة ولا محبة لما صار إليه، ولكنه حاسب نفسه، ورأى أن تأخير ذلك لا يسعه.
وكان الكتاب الأول عن أمر لا يمسه هو شخصياً في شيء، بقدر ما يمس المسلمين المجاهدين في القسطنطينية بعد أن أصابهم من الجوع والضنك، واشتد بهم الأمر أمام عدوهم، فأمر برجوع مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية ورفع الحصار؛ فقد رأى عمر أنه لا يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يلبي شيئاً من أمور المسلمين، ثم يؤخر قفلهم ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب، حقاً إن الحال الذي كان عليه مجاهدو القسطنطينية لا يحتمل التأخير في قرار عودتهم على الإطلاق، فكان الإجراء المناسب في الوقت المناسب.
وكتب بعزل أسامة بن زيد التنوخي ـ وكان على خراج مصر ـ فعزله لظلمه وغشمه وتسلطه. كما كتب بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية لظلمه.
وكان عمر يهتم بالوقت من حيث اختيار الوقت المناسب لإعلان التوجيهات أو القرارات الإدارية وسهولة إبلاغها، فكان حين يستخدم البلاغة لإبلاغ الناس يراعي الوقت الأكثر ملائمة؛ سواء من حيث كثرة المجتمعين، أم من حيث قدسية المكان وحرمته، وبالتالي زيادة الاهتمام بما يكون فيه، ألا وهو الموسم السنوي موسم الحج، ليخطب في المسلمين أو يكتب إلى المسلمين في يوم حجهم الأكبر بما يراه على قدر كبير من الأهمية من أمورهم، إذ يتحقق باختيار ذلك الوقت المناسب أمرين:
أحدهما: نشر التوجيه أو القرار أو الإجراء في أكبر عدد من المسلمين، من كل بلد من بلدانهم.
والثاني: سرعة الانتشار الذي يحققها إعلان القرار أو التوجيه في هذا الجمع في ذلك الوقت.
ومن ذلك كتابه إلى أهل الموسم الذي جاء فيه: أما بعد: فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام، ويوم الحج الأكبر أني بريء من ظلم من ظلمكم، وعدوان من اعتدى عليكم، أن أكون أمرت بذلك أو رضيته أو تعمدته إلا أن يكون وهماً مني، أو أمراً خفي عليَّ لم أتعهده، وأرجو أن يكون ذلك موضوعاً عني مغفوراً لي إذا علم مني الحرص والاجتهاد، ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني وأنا معول كل مظلوم، ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم، وقد صيرتُ أمره إليكم حتى يراجع الحق وهو ذميم، ألا وإنه لا دولة بين أغنيائكم، ولا أثرة على فقرائكم في شيء من فيئكم، ألا وأيما وارد ورد في أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من هذا الدين فله ما بين مئتي دينار إلى ثلاثمئة دينار على قدر ما نوى من الحسنة وتجشم من المشقة، رحم الله امرأً لم يتعاظمه سفر يجيء الله به حقاً لمن وراءه، ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحياها الله لكم، وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك، فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري، والسلام.
فهذا كتاب عظيم من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في محاربة الظلم وإقرار العدل، فهو قد سعى جاهداً في رد المظالم التي عرف عنها، ولكنه يتوقع أن هناك مظالم لم تصل إليه، فكتب هذا الكتاب وأعلنه في موسم الحج الذي يضم وفوداً من أغلب بلاد المسلمين، لتبرأ ذمته من مظالم خفية لم تبلغه، وأعلن في هذا الكتاب براءته من الولاة الذين يقع منهم شيء من الظلم، وربط طاعتهم بطاعة الله تعالى، فهو بهذا يجعل كل فرد من أفراد الأمة رقيباً على أمير بلده، يسعى في تثبيته إذا استقام، وفي تقويمه إذا انحرف...
ومن أروع ما جاء في هذا الكتاب تخصيص مبلغ من المال لمن يسعى في إصلاح أمور الأمة، وفي ذلك ضمان النفقة لمن أراد أن يسافر من أجل ذلك حتى لا يفقد به التفكر في تأمين تلك النفقة، ثم يختم كتابه بشكر الله جلَّ وعلا على ما وفقه إليه من الإصلاح الذي تحقق على يديه، وهذا مثل من الإخلاص القوي لله تعالى بحيث يتلاشى حظ النفس، ولا يكون إلا لطف الله جل وعلا وتوفيقه ومعونته.
فهذا دليل على تطبيق عمر لمبدأ تحري ومراعاة أهمية الوقت، حيث لم يقتصر عمر في إدارته للوقت على اغتنام الوقت وإدراك أهميته، بل كانت إدارة كاملة لكل مقتضيات اغتنام الوقت وكل ما يتعلق به من ضرورة سرعة اتخاذ القرارات والتوجيه في الأوقات المناسبة، والعمل على تلافي التأخير وأسبابه ودوافعه.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022