الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
(لقاء لافيجري مع الإمبراطور)
الحلقة: الثانية والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
 
لكي يدافع الكاردينال لافيجري عن أعماله التبشيرية أمام الإمبراطور سافر يوم (9 ماي 1868م) إلى باريس وأثناء وجوده في هذه المدينة. قامت معظم صحف الجزائر الموالية للاستعمار والمعمرين بنشر مقالات تأييداً له، واستطاعت هذه الحملة الصحفية أن تعجز الجنرال ماكمهون وتسكت الصحافة الرسمية في باريس، وشجعته كذلك رسائل المعمرين من الجزائر، وقد جاء في إحداها: لقد قمتم بالدفاع عن الاستعمار في الجزائر ضد المكاتب العربية.. إن القضية التي تدافعون عنها هي الحق والعدل والتقدم. وفي رسالة أخرى: إننا نعتمد عليكم في الدفاع عن أمانينا أمام الإمبراطور.
ويبدو أن هذا الدعم الإعلامي جعله يشعر بالفخر والعجب، والإصرار على مشروعه الظلامي، تمكن الكاردينال من مقابلة الإمبراطور الذي استقبله ببرودة ورد على كل الاتهامات التي وجهت إليه من ماكمهون، وقال إنه لا يعمل إلا بتوجيه الخطاب الإمبراطوري في الجزائر عام (1860م) وتطبيق ما جاء فيه: نشر التعليم وسط العرب، مع احترام ديانتهم وتحسين مستوى معيشتهم.
ولكي يضع الإمبراطور حداً للصراع القائم بين ماكمهون ولافيجري اقترح على هذا الأخير تعيينه على أسقفية مدينة ليون في فرنسا، لكن الكاردينال رفض ذلك، قائلاً: إن قبولي لهذا المنصب الجديد يعني الهروب من معركة بدأت القيام بها، وهذا يعتبر مساساً لشرفي. ثم صمّم العودة إلى منصبه في الجزائر مهما كانت الظروف، واعداً الإمبراطور الكاردينال بالسماح له بممارسة الأعمال الخيرية وسط مسلمي الجزائر.
وحتى يطمئن بال الكاردينال، نشر الماريشال نييل وزير الحربية تصريحاً مطولاً في الجريدة الرسمية يوم (28 ماي 1868م) ومما جاء فيه هذه العبارات المؤيدة للتبشير في الجزائر: تيقنوا سيدي الكاردينال، بأن الحكومة لم تفكر أبداً في حصر حقوقكم كأسقف، بل هي تترك لكم الحرية لتوسيع وتحسين ملاجئكم، حيث تريدون تقديم الإعانات المسيحية للأرامل والعجزة والأطفال المشردين.
وتدعيماً للتبشير وصفت جريدة لوجور «الفجر» هذا الفوز بأنه فجر جديد على الجزائر. أما جريدة «الديب» المعروفة بمقالاتها التبشيرية فقالت: إنها استطاعت أن تكفكف دموعها الغزيرة بعد أن أسالتها مدة طويلة من أجل لافيجري. عاد الكاردينال لافيجري إلى الجزائر يوم (7 سبتمبر 1868م) بعد أن حصل على حرية التبشير من الإمبراطور نابليون الثالث، وضمان الحفاظ على الملاجأئ، وبمقتضى ذلك تصرف في اليتامى كما يشاء.
إن الحرية التي حصل عليها لافيجري بعد قرار وزير الحربية، والتسامح الذي أظهره الإمبراطور نابليون تجاه أعماله الخيرية ؛ جعلته يتحرر من القيود التي فرضت عليه، وعلى من سبقوه في هذا الميدان، وسمحت له بتنفيذ مخططاته التبشيرية، غير عابأئ بالسلطة العسكرية في الجزائر، وبدأها بالسلطة العسكرية في الجزائر فبدأ بتعميد ستة شبان ـ نجوا من كارثة المجاعة ـ في كنيسة السيدة الإفريقية على مرأى ومسمع الجميع، وبعد مدة وبإيعاز من الفاتيكان تم تعميد طفلين يتيمين جزائريين اخرين في مدينة روما، ويظهر من وراء هذه العملية أمران هما:
أ ـ التعاون الوثيق بين الفاتيكان والكاردينال لافيجري، والمعروف أن البابوية في روما وعلى رأسها البابا بيوس التاسع بارك العمل الخيري التبشيري في الجزائر، وساند لافيجري مساندة قوية ورأى فيه إحياء للحروب الصليبية التي كانت هجمة قوية على الإسلام والمسلمين.
ب ـ تنوير الرأي العام العالمي المسيحي في أوربا وغيرها، بأن التبشير في الجزائر يخدم الكاثوليكية والمصالح الأوربية عموماً، وعليه يجب دعمه مادياً ومعنوياً، وهكذا يكون النشاط التبشيري قد توسع واتخذ أبعاداً أخرى، ولكي يستمر لافيجري، ويتمكن من كسب نجاح أوسع وأكبر لابد له من مبشرين كثيرين يحققون هذا الهدف، لذلك أنشأ في فيفري من عام (1869م) فرقة دينية جديدة هي فرقة الاباء البيض، دون أن يجد معارضة رسمية لذلك، وهذه الفرقة الجديدة هي التي ستأخذ على عاتقها مهمة التبشير في الجزائر أولاً، ثم تونس والمغرب ثانياً، وفي إفريقيا أخيراً.
ويبدو أن فكرة تنصير إفريقيا تعود إلى الأيام الأولى من مجيء لافيجري إلى الجزائر، ألم يعلن عنها حينما خاطب رجال الدين قائلاً:
يجب أن نجعل من الأرض الجزائرية، مهداً للأمة الفرنسية المسيحية، وينبغي أن ننشر حولنا الأضواء الحقيقية للحضارة المستوحاة من الإنجيل، وأن نحملها إلى الصحراء وإلى العالم الإفريقي الذي يعيش حياة بربرية، ونعمل على ربط وسط إفريقية بشمالها.
ويريد لافيجري بهذا التصريح بسط النفوذ الكاثوليكي الفرنسي في إفريقية قبل أن تشرع في ذلك عسكرياً وسياسياً ـ مثلما فعلت ذلك في الهند الصينية سابقاً ـ ولن يتم لها ذلك إلا بواسطة تحبيب فرنسا باسم السيد المسيح، فالمبشر كان يسبق الجيش في كل مكان، ليمهد الأرض اللازمة للنفوذ السياسي والعسكري، ولم يقتصر هذا على فرنسا بل استعملتها الدول الأوربية، حيث تبارت في استخدام المبشرين لتأييد النفوذ الأجنبي، وكانت النتيجة أن التبشير الممزوج بالسياسة، بل السياسة المغلفة بالتبشير هي الاستعمار، وما نجحت فرنسا في الدخول إلى أجزاء من إفريقية إلا بفضل الاباء البيض الذين مهدوا لها طرق الاحتلال.
 
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022