من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
(الخلاف بين لافيجري وبين الجنرال ماكمهون)
الحلقة: الحادية والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
أدرك ماكمهون العواقب التي يترتب عليها قرار لافيجري بتبنيه الأطفال الأيتام، وطالب الجنرال بإرجاع هؤلاء اليتامى إلى ذويهم، وهدّد بغلق الملاجأئ في حالة رفضه تطبيق أوامره، لكن لافيجري صممّ على إبقاء الأطفال في الملاجأئ، مدعياً بأنه أصبح أباً لهم، وأنه يملكهم لأنه أحياهم بعد أن أوشكوا على الموت، وقد أدى هذا الموقف إلى ظهور مشادة كلامية بينه وبين الجنرال ماكمهون. وقد تدخلت الحكومة في باريس لحل هذا النزاع، وظل الصراع بين الرجلين محور مقالات متعددة بمختلف الجرائد في الجزائر وباريس، وتجاوز الخلاف الإطار الجزائري ليتحول إلى مشكل إسلامي، إذ إن صحيفة «الجوائب» التي يشترك فيها عدد من الأعيان، ومن أهل قسنطينة بوجه خاص، نشرت العديد من المقالات حول الموضوع، وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدل على روح التضامن بين المسلمين في المشرق والمغرب، رغم الضعف السياسي الذي كان يعيشه الحكام.
واشتد الخلاف بين الجنرال ماكمهون والكاردينال لافيجري، واحتج الجنرال على الكاردينال باسم الحكومة أمام حملته الشديدة ضد النظام العسكري، فكتب إليه يذكر له أنه إذا كانت أعماله الخيرية قد تركت في نفوس الفرنسيين المتعاطفين معه انطباعات حسنة، فإنها من ناحية أخرى قد وجدت نفوراً بين الأهالي ؛ الذين لم يريدوها على حساب ديانتهم، ولأنها استغلال لظروفهم القاسية خدمة للتبشير، وذكره أيضاً بالعواقب التي تنجم عن طرد المسلمين إلى الصحاري، في وقت تريد فرنسا أن تجلبهم إليها وتعمل على تطبيق ما جاءت به أفكار نابليون الثالث عام (1865م)، غير أن الكاردينال لافيجري وضع خطته الجديدة في الإدماج وبين للجنرال بأن للتبشير فائدتين هما:
أ ـ إن تنصيره للأطفال ولكل المسلمين سيعمل على تثبيت الوجود الفرنسي في الجزائر، لأن التبشير يخلق قوة سياسية جديدة تتمثل في الأهالي الأوربيين الذين سيعملون على إخماد الثورات.
ب ـ إن المسلمين الذين أخذوا عن الأوربيين عيوباً كبيرة سيتعلمون المبادئ الحسنة من المسيحية عن طريق التنصير، ففي نظره أن لا أخلاق ولا مبادئ للمسلمين.
وطالما أن لافيجري رأى في الجزائريين صورة همجية، فإنه وعلى خلفية النظرية الاستعمارية التي تذرع بها سابقوه فالاحتلال جاء لتمدين الجزائريين وإخراجهم من التخلف.
ووقف المستوطنون في جبهة لافيجري في موقفه من الأطفال ومن التبشير، مكونين وإياه قوة متحدة، ووقفوا معارضين لتدريس القرآن في الزوايا، واتهم الصحفي كليمان ديفرنوا الذي دافع عن حق المسلمين في تعلم القرآن بالتعصب والتحريض على الثورة.
ولم يكتف المعمرون بهذا فلاموا الإمبراطور نابليون الثالث: حينما أراد نشر اللغة العربية وأبدى اهتماما بالأعياد الدينية، وشجعوا الكاردينال لافيجري على الاحتفاظ بالأطفال اليتامى، مؤكدين على أن الاندماج الذي لا يصلح مع كبار السن المتعصبين سوف ينجح مع الأطفال الصغار.
أحس لافيجري بالقوة بفضل التفاف المعمرين حوله، فزاد موقفه تصلباً، وأمام هذا قرر الجنرال ماكمهون مكاتبة وزير الحربية الماريشال نييل يوم (23 أبريل 1868م) ليضع حداً للصراع، ووصف له تخوف السكان المسلمين في الجزائر والعالم الإسلامي.
ولكن وزير الحربية كان مسانداً ومؤيداً للتبشير، ولذلك لم يستجب لمقترحات ماكمهون.
ويبدو أن الكادرينال استخف بقول ماكمهون عن تخوف السكان وثورتهم ضد التبشير، فكتب إلى الإمبراطور يقول: لم يعد للعرب قوة ولا إمكانيات للقيام بالثورة. وادعى بأن الإدارة العسكرية تتهرب من مسؤولية المجاعة والأمراض، ولذلك استندت إلى تخوف السكان منه.
وإذا رجعنا إلى موقف الإمبراطور نابليون الثالث من التبشير وجدنا بأنه أبدى تمسكه بمبدأ حرية العقيده الدينية، وتحت تأثير ماكمهون بعث نابليون خطاباً شديد اللهجة إلى الكاردينال لافيجري يذكره فيه، بأن المسؤولية الملقاة عليه، هي تهذيب أخلاق المائتي ألف معمر الموجودين في الجزائر، ويأمره بترك شأن العرب للحاكم العام الذي يتولى تأديبهم وتنظيمهم.
وإذا كان موقف الإمبراطور موقفاً غير مشجع للتبشير، فإن هناك من شجعه من كبار مسؤولي الدولة، ففي الجزائر أعلن الجنرال ومفين عن تأييده للكاردينال للمرة الثانية، حينما شجعه قائلاً: يجب عليكم أن تبذلوا كل مجهوداتكم للحفاظ على الملاجأئ وتحسينها، وتركها مفتوحة لكل اليتامى، وهذه وسيلة عملية تمكن العرب من اعتناق ديننا، وفي باريس تلقى لافيجري مساندة وزير الشؤون الدينية باروش الذي وقف إلى جانبه، وكذلك وزير الدولة السيد رووي الذي ناصر التنصير في الجزائر، وهذا يدل على أن الكاردينال لم يكن وحده في هذه المهمة، بل كان إلى جانبه جمهور من المعمرين في الجزائر ومن مسؤولين كبار في باريس
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي: