السبت

1446-11-12

|

2025-5-10

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1):
(السياسة الفرنسية في الجزائر في عهد لويس نابليون الثالث)
الحلقة: التاسعة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
 
إن انتخاب لويس نابليون بونابرت الثالث كرئيس للدولة من طرف الجمعية الوطنية الفرنسية في شهر ديسمبر من عام (1848م) غيَّر مجرى الأمور بعض الشيء؛ لأن الجمهوريين اليساريين كانوا يظنون أنه سيخدمهم ويعمل على تحقيق مطالبهم فأيدوه، ورجال الكنيسة والمحافظون اعتقدوا أنه ليس مثل عمه نابليون بونابرت الأول الذي كان يتميز بالثورية واستعمال القوة العسكرية فوضعوا ثقتهم فيه، غير أن لويس نابليون فاجأ الجميع بانتهاجه سياسة خاصة به، وحسب مزاجه، حيث استعان بالفلاحين ورجال الأعمال وجندهم للعمل من أجل المحافظة على الاستقرار والأمن، وتخلص من خصومه، وعمل على كسب ولاء الجيش والشرطة وكبار المسؤولين في الدولة. وفي شهر ديسمبر من عام (1852م) ألغى النظام الجمهوري، وأنشأ الإمبراطورية الثانية التي تربع على عرشها لغاية انهزام جيشه في معركة سيدان، واعتقاله من طرف بروسيا سنة (1870م) .
حاول أن يتقرب من الشعب الجزائري، فأخرج الأمير عبد القادر من السجن، وقال للجنرال روندون الذي عينه وزيراً للدفاع لابد أن تطبق عدالة تامة بين الفرنسيين والأهالي، إن هذا فقط هو العدل والشرف والحقيقة.. إنه لا نفع من أخذ جزء من أراضي الأهالي لزيادة حصة الاستيطان، ينبغي إقناع العرب بأننا لم نأت إلى الجزائر لاضطهادهم وتجريدهم من ممتلكاتهم، لكن لكي ننقل لهم محاسن المدنية، لنترك للأهالي تربية الخيول والمواشي والفلاحة الطبيعية للأرض. ولنترك لنشاط وذكاء الأوروبيين استغلال الغابات والمناجم، وتجفيف المستنقعات والري، وإدخال زراعات راقية، وكل ما يتعلق بتطوير الاستعمار؟
وأصدر الإمبراطور نابليون الثالث سنة (1865م) مرسومه الشهير «سيناتوس كونسيت» الذي أعلن فيه مساواة الجزائريين للفرنسيين في الحقوق والواجبات، مع السماح لهم بالرجوع في أحوالهم الشخصية إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وقد زار الإمبراطور بلاد الجزائر من (3/5 إلى 7/6/1865م) وخطب قائلاً: هذا البلد مملكة عربية ومستعمرة أوروبية، ومعسكر فرنسي، ولابد من التعامل مع الجزائريين على هذه الأسس الثلاثة. وسخط الكولون على عبارة «مملكة عربية» ورفضوها علناً، وانتقلت المعارضة إلى فرنسا حيث أصدر البرلمان قراراً يتراجع فيه عن هذه العبارة ويقر: بأن الأصل فرنسي مع استمراره في أن يسير بالقانون الإسلامي، ويمكن إذا رغب أن يكتسب صفة المواطنة الفرنسية كاملة.
وقد استهل خطابه بقوله: إنني أعدّ نفسي إمبراطور العرب، كما أني إمبراطور الفرنسيين، وكلهم في نظري متساوون، ورفض الجزائريون التجنس الفرنسي بحيث لم يطلبه سوى (194) بين قانون (1865م) وقانون (1870م).
كانت سياسة نابليون ترمي إلى المدى البعيد، فإن المستعمرين الفرنسيين الذين كانوا قد رحلوا إلى الجزائر ثاروا على هذه التسوية المزعومة، وقاوموا بكل ما لهم من جهد سياسة نابليون، مبرهنين بذلك على ما استمروا عليه من تقديم مصلحتهم الخاصة والمستعجلة على مصلحة فرنسا نفسها.
ومن الذين وقفوا ضد الإمبراطور في سياسته الجزائرية الكاردينال لافيجري الذي صرح قائلاً: لابد من إنقاذ هذا الشعب، ينبغي علينا الكف عن تركه وسط قرانه بواسطة خلق مملكة عربية مزعومة. لابد أن تعطيه فرنسا الإنجيل وذلك بدمجه في حياتنا، أو طرده في الصحراء بعيداً عن العالم المتمدن.
وعندما تكلم الكاردينال عن البربر قال: لابد من العمل على مناهضة البربر للعرب. وراحت الإدارة تحقق ذلك فعلاً، وشعر رؤساء العشائر القبائلية بذلك فسخطوا على المستعمر، لدرجة أن العقيد والمؤرخ هانوتو كتب يقول: وهذا التوجه: أي العمل على مناهضة البربر والعرب هو الذي ولَّد ثورة القبائل.
واستغل الكاردينال المجاعة التي عصفت بالشعب سنتي (1867 و1868م) وجمع في هذه السنة (1753) يتيماً بين ثماني وعشر سنوات، ولم يحتج الكاردينال باسم المسيحية التي تسببت في موت مئات الالاف من الفلاحين بالمجاعة، بسبب إفراغها لمطاميرهم من الحبوب بنهبها أو تخريبها، بحيث عندما جاء الجفاف بالمجاعة لم يجد الفلاحون في مخزونهم ما يواجهون به الجفاف، والفلاحون عادة يحتفظون في مطاميرهم بما يكفيهم لسنة إضافية على الأقل. راح الكاردينال يعمل على تمسيح هؤلاء اليتامى، ويغرس في نفوسهم الكراهية ضد العرب والمسلمين، كان يطلق أمامهم شتائمه ضد العرب والمسلمين، فيقول: لقد جمع الإسلام كل المساوأئ: الطلاق، الكسل، تعدد الزوجات، السرقة، الشيوعية الزراعية، التعصب، أكل لحم البشر.
طلبت منه السلطات بضغط من الإمبراطور إعادة هؤلاء الأطفال إلى ذويهم فرفض، بل تابع على تمسيح قرى بالشلف مستغلاً المجاعة، قائلاً للفلاحين: إذا أردتم أن تبقى أرضكم فتمسّحوا تصيروا فرنسيين. وحسم الإمبراطور الموقف، فقال للكاردينال: اكتف بالحفاظ على المسيحية بين مئتي ألف كاثوليكي يعيشون في الجزائر، ودع المسلمين يعيشون وشأنهم.
وفي الأيام الأخيرة من حكم لويس نابليون، بدأ المعمرون الأوربيون يفرضون أنفسهم على الساحة الجزائرية ويؤثرون في مجرى الأمور، وخاصة أن سياسة نابليون الداخلية كانت مهزوزة، والباريسيون يعارضون مشاريعه الارتجالية، وقد شعر الإمبراطور بضعفه أمام المستوطنين الأوروبيين في الجزائر، وحاول إرضاءهم عن طريق إصدار مرسوم يوم (31 ماي 1870م)، بحيث يتحرر رؤساء العمالات الثلاثة في الجزائر من القيود المفروضة عليهم من طرف السلطات العسكرية.
وحسب هذا المرسوم فإن رؤساء العمالات صاروا يتمتعون بالاستقلال التام في العمل، والعسكريون لا يسيطرون على المناطق المدنية، وينحصر نفوذهم في المناطق العسكرية. وفي يوم (11 جوان 1870م) أصدر الإمبراطور مرسوماً آخر يسمح للمستوطنين الفرنسيين بإجراء الانتخابات في المناطق المدنية، واختيار الأعضاء الذين يمثلونهم في المجالس العامة، وقد أثارت هذه التنازلات للمعمرين غضب الجيش والحاكم العام مكماهون ؛ الذي استقال من منصبه احتجاجاً على سياسة الخضوع للضغوط المتوالية على الإمبراطور لنقل السلطة في الجزائر إلى يد المستوطنين، لكن انهيار الإمبراطورية ووقوع الإمبراطور نفسه أسيراً في يد الألمان كان بمثابة النهاية للصراع بين المعمرين والحكومة الفرنسية حول كيفية تسيير الجزائر.
إن سياسة نابليون الثالث في الجزائر كانت مائعة، ولم تحقق أية نتيجة بالنسبة للجزائريين، سواء بالنسبة لحصولهم على حقوقهم السياسية، والمتمثلة في حرية التعبير، أو بالنسبة للمساواة مع الفرنسيين المقيمين في الجزائر، وعليه فإن سياسة إدماج الجزائر في فرنسا، والمساواة بين الفرنسيين والجزائريين في الحقوق والواجبات لم تتجسم في أرض الواقع، وكل ما عمله في حقيقة الأمر هو تمكين قادة الجيش من التصدي لمقاومة الجزائريين في بلاد القبائل وفي الجنوب، وتدعيمهم من أجل الانتصار على رجال المقاومة الجزائرية، وبذلك حقق رغبة الفئة العسكرية. وبالنسبة للمعمرين، فقد ساعدهم على تحطيم مؤسسات الدولة الجزائرية واستبدال تلك المؤسسات بهياكل إدارية فرنسية جديدة، سواء في ميدان التسيير الإداري أو القضائي أو المالي.
أ ـ معركة سيدان وأسر الإمبراطور:
انهارت الإمبراطورية الفرنسية بوقوع الإمبراطور نابليون الثالث أسيراً في يد الألمان، وكان ذلك بمثابة النهاية للصراع بين المعمرين والحكومة الفرنسية حول كيفية تسيير الجزائر، فالعسكريون الذين انهزموا في معركة «سيدان» فقدوا مصداقيتهم الاجتماعية في الجزائر وفي فرنسا ذاتها، والمجموعة العسكرية المتواجدة في الجزائر لم تعد تتلقى التعليمات من القيادة المركزية، وبذلك تركوا المبادرة للمدنيين لكي يفعلوا ما يشاؤون في الجزائر، وبمجرد تعيين أدولف كريميو كمسؤول عن الداخلية في حكومة الدفاع الوطني قام هذا الأخير بإصدار جملة من القرارات في شكل مراسيم لإنهاء الحكم العسكري في الجزائر، وإعطاء السلطات المطلقة للمعمرين، وبناء على هذه المراسيم الصادرة بتاريخ (24 أكتوبر 1870م) تقرر:
1 ـ أن يتم إلغاء منصب الحاكم العام في الجزائر «التابع لوزارة الحرب» ويعوض بحاكم عام مدني، يوضع تحت تصرفه (3) رؤساء عمالات، أو رؤساء مقاطعات إدارية.
2 ـ أن تنحصر سلطات القائد العسكري في المناطق التي تخضع للجيش فقط، ولا يحق له أن يتدخل في الشؤون المدنية.
3 ـ أن يقوم الحاكم العام الذي يتم تعيينه من طرف مجلس الوزراء «وليس وزارة الحرب» بتطبيق سياسة الحكومة في الجزائر.
4 ـ أن يقوم رؤساء العمالات بإنشاء مجالس عامة منتخبة من طرف الفرنسيين فقط، وفي كل مجلس عام يحق لوزارة الداخلية أن تقوم بتعيين (6) مسلمين.
ثم جاء المرسوم الثاني، والذي سمح لليهود أن يأخذوا الجنسية الفرنسية، ويشاركوا في الحكم مع الأوربيين الغزاة، وبذلك تبقى الفئة الوحيدة المحرومة من المشاركة السياسية هي أبناء البلد الأصليين ؛ الذين حرموا من حق التصويت في الانتخابات وحق التعبير عن أفكارهم وارائهم السياسية.
وفي يوم (24 ديسمبر 1870م) جاء مرسوم آخر لإلغاء المناطق العسكرية، وتحويل تلك المناطق تدريجيا إلى يد السلطة المدنية، وهذا معناه بسط نفوذ المعمرين على جميع المناطق التي كانت تخضع سابقاً إلى سلطة العسكريين.
ب ـ إلغاء المكاتب العربية:
وفي إطار هذه القرارات والمراسيم المؤيدة للمعمرين الفرنسيين قررت حكومة الجمهوريين إلغاء المكاتب العربية، وحولت تلك المكاتب إلى مكاتب لشؤون الأهالي أو أبناء البلد، والمكاتب العربية تمّ تأسيسها من قبل الجيش الفرنسي، للتواصل مع الأعيان والقبائل، وكانت في بدايتها مسؤولة عن تسهيل عملية الاتصال برؤساء العشائر والتفاوض معهم، وإقناعهم بقبول مبدأ التعاون مع فرنسا مقابل التزام هذه الأخيرة باحترام أساليب عملهم، والعادات والتقاليد الموجودة عندهم، وتوفير الأمن والطمأنينة في مناطق نفوذهم، وحماية مصالحهم، ونظراً لازدياد دور هؤلاء العملاء في مساعدة الجيش الفرنسي على احتلال بقية المناطق في البلاد، فقد قرّر الجنرال بيجو في (1844م) أن يؤسس بصفة رسمية المكاتب العربية ويضع لها الهياكل الإدارية، بحيث تصير هذه المكاتب العربية هي الوسيلة الأساسية التي سيستعملها الجيش الفرنسي، لإخضاع الجزائريين والقضاء على ما بقي من مؤسسات الدولة الجزائرية، وحسب التنظيم الجديد للمكاتب العربية التابعة للجيش الفرنسي، فإن إدارة الشؤون العربية على مستوى القيادة العسكرية قد قامت بتأسيس إدارات فرعية لها على مستوى المقاطعات الثلاثة الموجودة في الجزائر، وفي كل مقاطعة توجد وحدات للمكاتب العربية من الدرجة الأولى، ووحدات ثانوية من الدرجة الثانية، وباختصار فإن المكاتب العربية تحولت إلى إدارات محلية للتحكم في السكان الجزائريين. وفي عام (1865م) بلغ عدد المكاتب العربية في عمالة قسنطينة (15) مكتباً، وفي عمالة الجزائر (14) مكتباً، و(12) مكتباً في عمالة وهران.
وتتشكل المكاتب العربية في كل مقاطعة أو عمالة جزائرية من:
ـ مدير
ـ ضابط مسؤول عن الصحة
ـ ضابط مسؤول عن دفع المكافات المالية
ـ مترجمَين
ـ ضابط صف
ـ خوجة «كاتب عربي»
ـ وكيل الضياف
ـ حاجبَين «الشاوش»
وبمضي الوقت ازداد نفوذ المكاتب العربية، وأصبح دور المسؤولين في هذه المكاتب هو تعيين وخلع المسؤولين المحليين، وجمع الضرائب، واستصدار قرارات في المسائل الشرعية أو القضائية.
لكن في واقع الأمر تعتبر المهمة الرئيسية لرؤساء المكاتب العربية بصفتهم ينتمون إلى السلطة العسكرية ؛ هي جمع المعلومات التي تخدم الجيش وتساعده على تقوية نفوذه، وتشتمل هذه المعلومات في إحصاء الأراضي والتعرف على مجاري المياه، وأخذ فكرة عن التنظيم السياسي الموجود في أوساط العشائر، وتحديد نوعية المداخيل المالية حتى يتمكن الضباط من الحصول على أموال كبيرة عند جمع الضرائب.
وبما أن المكاتب العربية كانت تابعة للجيش وتعمل لتدعيم نفوذه، فقد شن المعمرون الأوروبيون حملة شعواء ضد هذه المكاتب، واتهموها بأنها مكلفة لهم مالياً، إذ إنهم يتحملون التكاليف الباهظة والأموال الكثيرة ؛ التي يقوم بتنفيذها رؤساء المكاتب العربية، وبمجرد سقوط الإمبراطورية وانهزام نابليون الثالث واعتقاله من طرف الألمان، تمّ حل المكاتب العربية بقرراين صادرين بتاريخ (24 أكتوبر 10 نوفمبر 1870م) وتحويل المناطق التابعة للمكاتب العربية إلى مناطق مدنية تابعة للنظام المدني ؛ الذي يوجد بين يدي المعمرين في المقاطعات أو العمالات الثلاثة.
ج ـ الحكم المدني في العصر الجمهوري:
تقرر منح التمثيل النيابي لكل ولاية جزائرية في البرلمان الفرنسي، ثم السماح للمعمرين الأوروبيين سنة (1875م) أن يكون لكل ولاية ممثل لهم في مجلس الشيوخ الفرنسي، وفي مجال القضاء أصبحت المحاكم تتشكل من الفرنسيين فقط، وتصدر الأحكام التي تراها تخدم قضايا المعمرين فقط.
وبعد تحقيق هذه الانتصارات السياسية، حوَّل قادة الجالية الأوروبية أنظارهم إلى مسألة تعمير الجزائر بعناصر أوروبية قادرة على استغلال الأراضي، والاستفادة من الطاقة البشرية المتوفرة بأبخس الأثمان، وقد وضع الأوروبيون خطة لجلب (000،600،1) مهاجر جديد، وهذا بقصد الاستيلاء على نصف أراضي العرب، سواء بإبعادهم أو عزلهم أو مصادرتها، ثم الاعتماد على الدولة لتمويل مشاريع الإسكان والإقامة. والشيء الذي جعل المعمرين مقتنعين بنجاح خطة مشاركة الدولة في مساعدتهم، للتغلب على الصعاب التي تعترض سبيلهم، هو تفاقم عدد اللاجئين الفرنسيين القادمين من مقاطعة «الزاس ـ لورين» التي أصبحت تابعة لألمانيا بعد هزيمة فرنسا سنة 1870م. فالحكومة كانت مجبورة على إيجاد العمل لأولئك الفرنسيين الفارين من المنطقة المحتلة، والمكان الوحيد الذي يسعهم هو الجزائر، التي في إمكانها أن تستوعبهم، وتجنب الحكومة الفرنسية قضية مزاحمة سكان فرنسا من طرف اللاجئين الجدد.
ونستخلص مما تقدم، أن النظام العسكري بعيوبه ومساوئه التي لا تعد ولا تحصى، يعتبر أهون من الحكم المدني في العصر الجمهوري، فبالرغم من تعنت القادة العسكريين واستيلائهم على الأراضي الخصبة، لكي يصبحوا هم أسياد البلاد في القطر الجزائري، ويقيموا المخططات الواسعة التي مكنت الدخلاء على البلاد من توطيد قدمهم وقهر أبناء شمال إفريقيا ؛ فإن القادة الجمهوريين هم الذين ساعدوا الأوروبيين على فرض إرادتهم على الملاك الجزائريين، وتحويلهم إلى مجرد عاملين بالأجرة أو إجبارهم على الهجرة إلى أماكن أخرى للبحث عن العيش. كما أن القادة الجمهوريين هم الذين جاؤوا بالبرامج المسطرة لتوسيع نطاق «التعمير الرسمي» وتقديم المساعدات الحكومية الضخمة، لإنشاء المشاريع التجارية والعمرانية الخاصة بتسهيل إقامة الجاليات الأجنبية في الجزائر. وأكثر من هذا، عمد قادة الجمهورية الثالثة إلى اتباع سياسة إخضاع تونس والمغرب ووضعهما تحت الحماية الفرنسية، وبفضلهم أيضاً منحت الجالية اليهودية في الجزائر حق الحصول على الجنسية الفرنسية، دون أن يتخلى هؤلاء اليهود عن عقيدتهم أو حقوقهم المدنية. وبهذه القرارات استطاع المهاجرون الفرنسيون والأجانب أن يستولوا على مساحات كبيرة من أراضي الجزائر ويضمنوا لأنفسهم مستقبلاً في شمال إفريقيا.
وبعبارة أخرى، فإن سياسة الجمهوريين في مطلع السبعينات من القرن التاسع عشر، كانت ترمي إلى رفع معنويات المستوطنين الأجانب في الجزائر، عن طريق تقديم معونات مالية وعقارية إليهم، حتى يتمكنوا من توطيد أقدامهم في الجزائر. وتحقيقاً لهذا الهدف، تعهدت الدولة الفرنسية بتخصيص إعانات مالية لبناء المدن والمدارس والعمارات في الأماكن التي يقطنها الفرنسيون، وتوفير القروض لرجال الأعمال الذين يرغبون في القيام بمشاريع تجارية، كما قدمت الحكومة تسهيلات بشأن الهجرة إلى الجزائر، ووضعت تحت تصرف المهاجرين الجدد الأراضي الشاسعة لاستغلالها دون مقابل، وتجسدت هذه السياسة في القانون يوم (21 جوان 1871م) والذي وافق فيه مجلس النواب الفرنسي على منح (100000هكتار) للاجئين الفرنسيين من ألزاس ـ لورين. كما اقترحت لجنة برلمانية مصادرة (340000 هكتار) من أراضي الجزائريين وذلك لتسكين الوافدين الجدد على الجزائر، ولم يكتف البرلمان بهذا، بل استغل ثورة الجزائريين على فرنسا سنة (1871م)، وأعطى موافقته على فرض «ضريبة الحرب الإجبارية» كعقاب على حمل الأسلحة ضد فرنسا.
وبعد عامين من تدفق المهاجرين الفرنسيين والأجانب على الجزائر اتجهت نية قادة الجمهورية إلى توسيع رقعة المعمرين على حساب ملاك الأراضي الجماعية، حيث تقرر أن لا يسمح لأهل البلد الأصليين بأي شبر من الأراضي يفوق ما يستطيعون خدمته من الأرض، كما نص قانون (26 جويلية 1873م) الذي أقره مجلس النواب الفرنسي على اعتبار كل الأملاك العقارية خاضعة للقانون الفرنسي. وهذا يعني أن أراضي الوراثة ينبغي أن تقسم، وأنه لم يعد من حق المسلمين المحافظة على الأملاك الجماعية التي هي عادة مرعية في الشريعة الإسلامية، وزيادة على ذلك فإنه نتج عن هذا القانون نوع من المضاربة والتسابق إلى التخلص من الأراضي، الشيء الذي أدى إلى قيام نزاعات وحزازات محلية بين المواطنين الجزائريين، ثم إن الفرنسيين أنفسهم استغلوا هذه النقطة بالذات، وحرضوا الملاك الصغار، والورثة، على المطالبة بحقوقهم للتغلب على خصومهم في حالة ما إذا الت قضاياهم إلى المحاكم لتبت في الأمر، ومما لا شك فيه ولا جدال هو أن عدداً لا يستهان به من سكان البلد الأصليين قد خسروا أراضيهم في النهاية، وذلك نظراً لقلة إلمامهم بالإجراءات القانونية الدقيقة التي ينبغي اتباعها لإثبات حقوق الملكية وربح المعركة ضد المهاجرين الأجانب.
د ـ سياسة المستوطنين بعد سنة (1870م):
بمجرد الإطاحة بحكومة نابليون الثالث يوم (2 سبتمبر 1870م) وإلقاء القبض عليه، وسجنه في ألمانيا لغاية (1871م) ثم نفيه إلى بريطانيا حيث مات (1873م) ؛ جاءت حكومة الدفاع الوطني لتتخذ إجراءات خطيرة لصالح المستوطنين الأوروبيين في الجزائر، وتحقق جميع مطالبهم، ومالت الكفة لصالح المستوطنين الأوروبيين ؛ الذين استولوا على السلطة في الجزائر وأصبحوا يسيرون البلاد ويحكمونها بأسلوبهم الخاص لغاية (أول نوفمبر 1854م).
وباختصار فإن المستوطنين الأوروبيين في الجزائر قاموا بإعداد برنامج سياسي مكثف لتدعيم نفوذهم في الجزائر، وإقامة نظام سياسي يخدمهم للأبد.
وتتمثل السياسة الجديدة في دمج الجزائر بفرنسا، وذلك عن طريق إصدار (36) مرسوماً تتعلق بالجزائر، وبانتقال السلطة من يد العسكريين إلى يد المستوطنين الأوروبيين، ومن أهم هذه المراسيم نخص بالذكر:
ـ المرسوم الصادر يوم (4 أكتوبر 1870م)، والمتعلق بمنح (6) مقاعد في البرلمان الفرنسي بدلاً من (4) فقط عام (1848م)، وبالتالي تقوية التمثيل السياسي للأوروبيين في فرنسا.
ـ المرسوم الصادر يوم (8 أكتوبر 1870م) والذي أنشئ بموجبه منصب الحاكم العام المدني الذي يحكم في (3) ولايات بالجزائر، ويتراسل مع وزراء فرنسا «وليس وزراء الحرب» كما كان الحال سابقاً.
ـ المرسوم الصادر بتاريخ (10 نوفمبر 1870م) الذي يسمح للمعمرين الأوروبيين أن يعينوا الولاة في المناطق التي تخضع للحكم العسكري، أي يتحكم المدنيون في المسؤولين العسكريين.
ـ المرسوم الصادر يوم (24 ديسمبر 1870م)، الذي سمح للمستوطنين الأوروبيين أن يوسعوا نفوذهم إلى المناطق التي يسكنها المسلمون الجزائريون، والتي تديرها شخصيات جزائرية معينة من طرف فرنسا، وكذلك إلغاء المكاتب العربية في المناطق الخاضعة للحكم المدني
ـ المرسوم الصادر بتاريخ (24 أكتوبر 1870م)، والمعروف بـ «مرسوم كريميو»، وهو الذي سمح فيه لليهود أن يحصلوا على الجنسية الفرنسية، والتمتع بجميع الامتيازات التي يخولها القانون لرعاية الفرنسيين دون أن يتخلى هؤلاء عن عقيدتهم أو حقوقهم المدنية.
هذه المراسيم قد جاءت لتحقيق رغبات المستوطنين الأوروبيين، المتمثلة في تقوية عدد السكان الأوروبيين واليهود، حتى تنجح سياسة الإدماج بسرعة وفعالية، والقضاء على المكاتب العربية التي تقوم عادة بالجوسسة لحساب القيادة العسكرية في الجزائر.
وبعد تحقيق هذه الانتصارات السياسية، حوَّل قادة الجالية الأوروبية أنظارهم إلى مسألة تعمير الجزائر بعناصر أوروبية قادرة على استغلال الأراضي، والاستفادة من الطاقات البشرية المتوفرة بأرخص الأثمان، وحسب بعض الإحصائيات الواردة في المصادر الفرنسية، فإن المستوطنين الفرنسيين والأجانب كانوا يطمحون إلى جلب حوالي (2 إلى 6 أو 7) ملايين، إلا أن الرقم الحقيقي الذي كانوا يعملون على تحقيقه هو (1600000) مهاجر جديد، وسعياً وراء تحقيق هذا الهدف رسموا خطة محكمة، تتلخص فيما يلي:
ـ أخذ نصف أراضي العرب، سواء بإبعادهم وعزلهم أو مصادرتها، ثم الاعتماد على الدولة لتمويل مشاريع الإسكان والإقامة، والشيء الذي جعل المستوطنين مقتنعين بنجاح خطة مشاركة الدولة في مساعدتهم للتغلب على الصعاب التي تعترض سبيلهم ؛ هو تزايد عدد اللاجئين الفرنسيين القادمين من مقاطعة «الألزاس ـ لورين» التي أصبحت تابعة لألمانيا بعد هزيمة فرنسا في سنة (1870م).
فالحكومة مجبرة، في هذه الحالة، على إيجاد العمل لأولئك الفرنسيين الفارين من المنطقة المحتلة، والمكان الوحيد الذي يسعهم هو الجزائر التي في إمكانها أن تستوعبهم، وتجنب الحكومة الفرنسية قضية مزاحمة سكان فرنسا من طرف اللاجئين الجدد.
ـ منح الجنسية الفرنسية لجميع الأوروبيين، وتوسيع القاعدة، بحيث تعطي الجنسية الفرنسية بصفة أوتماتيكية لجميع أبناء الأوروبيين المولودين بالجزائر.
وفي هذا الإطار أعلن «ميزفيل» أول رئيس لمحكمة الجزائر بأنه يتعين على جميع السكان أن يذوبوا في الحضارة الفرنسية، وأن يدركوا أن قدوم شعب من الشمال جاء ليستقر، وأكد أن الشكل الذي يواجه سياسة الإدماج هو وجود مجتمعات مختلفة في كل شيء: في العقيدة، في الفكر، في العادات وفي التقاليد، ولذلك لا يمكن دمجهما إلا بإبتلاع شعب لشعب.
ـ في برنامج المستوطنين الأوروبيين بعد سنة (1870م) القمع ومصادرة أراضي الجزائريين وخاصة بعد الثورات العارمة من سنتي (1870م، 1871م). ويظهر هذا الاتجاه بوضوح في تعليق لأول رئيس للجمهورية الثالثة الذي قال: بأنه: يمكن للعرب أن يقوموا بثورات لكن سيتم احتواؤهم أو اتبلاعهم.
ففي سنة (1871م) قام المستوطنون الفرنسيون بالاستيلاء على (5000000 هكتار)، حيث قامت الدولة بمصادرتها على أساس أنها أملاك عامة. كما قام الحاكم العام «قيدون» بفرض غرامات مالية على (298) بلدية قام ساكنوها بثورات ضد فرنسا، قدرت بـ (36282298) فرنكاً دفعها المسلمون كتعويض عن الحرب.
وللحصول على الأراضي التي يحتاجها المستوطنون الأوروبيون، قامت الولاية العامة بمصادرة أراضي (313) بلدية قدرت مساحتها بـ (2639600 هكتار). أما الأراضي التي لا يحتاجها المستوطنون، فقد تقرر السماح ببيعها إلى المسلمين الجزائريين بسعر (50 فرنكاً) للهكتار إذا كانت الأرض مثمرة، و(10) فرنكات إذا كانت غير مثمرة.
وكان المقصود من هذه السياسة تفقير الناس وتجويعهم عن طريق إجبارهم على بيع ما عندهم من بقر وغنم وأرض لدفع الديون المفروضة عليهم.
بعد أن فشلت فرنسا في حربها أمام الألمان، حولت هزيمتها بدافع مركب النقص إزاء الألمان إلى مركب العظمة أمام الشعب الجزائري المجاهد في سبيل حريته وكرامته وحقه في الحياة الكريمة.
فراحت تفرض عليه الغرامات العسكرية، والمساهمة بطريقة غير مباشرة في دفع التعويضات العسكرية ؛ التي فرضتها ألمانيا على فرنسا، فكلما ازداد شعور فرنسا بالضعف في أوروبا ازداد بطشها بالجزائريين.
مع اختفاء عبارات، الشرف العسكري، والمملكة العربية التي تعود الشعب الفرنسي سماعها من نابليون الثالث.
شجعت حكومة الجمهورية الثالثة الفرنسية حركة الاستيطان، ونهب الأرض من الفلاحين الجزائريين، لقد عكست فرنسا تلك المهانة التي فرضتها عليها معاهدة فرانكفورت على بطشها في الجزائر من باب التعويض في علم النفس، فاقتطعت مئات الالاف من الهكتارات المسروقة وملكتها لسكان الألزاس واللورين، ومنحتهم الأرض لقاء إيجار رمزي يبلغ فرنكاً واحداً سنوياً للهكتار، على أن تصير ملكاً لهم بعد تسع سنوات من الاستقلال.
وتتلخص سياسة المستوطنين الفرنسيين في عهد الجمهورية الثالثة فيما يلي:
ـ حصول المستوطنين الأوروبيين على حقوقهم السياسية أي إقامة مؤسسات مدنية تخدم مصالح هذه الفئة الأوروبية المقيمة في أرض الجزائر.
ـ التمثيل التام في البرلمان الفرنسي، وفي المجتمعات والبلديات المحلية.
ـ ربط الإدارة في الجزائر بالوزارات المركزية في فرنسا.
ـ نقل السلطة من يد العسكريين إلى يد المدنيين الأوروبيين في إطار الحكم المدني.
ـ بيع أراضي الأعراش للمعمرين أو المستوطنين الأوروبيين، والتخلص من الدواوير الجزائرية التي تعاونت مع السلطات العسكرية، وكانت تحد من نفوذ سلطات الحكم المدني.
ـ جعل أراضي الجزائريين ملكية فردية وجاهزة للبيع، وبذلك يتمكن المستوطنون الأوروبيون من التوسع في كل مكان في الجزائر.
ـ إقامة تجمعات سكنية في مناطق محددة للعرب، وباختصار الإدماج والحقوق السياسية لجميع الأوروبيين، أما الجزائريون فهم لا يريدون أي شيء ولا يحتاجون أي شيء.
فالمستوطنون بعبارة أخرى يريدون الإدماج وضم الجزائر إلى فرنسا، لكن بشروط تتمثل فيما يلي:
ـ الامتناع عن دفع الضرائب.
ـ عدم أداء الخدمة العسكرية في الجيش.
ـ عدم دفع أية تكاليف مالية.
ـ اعتبار (35000) مواطن أوروبي عدداً كافياً للحصول على نائب يمثلهم في البرلمان الفرنسي.
ولكي تكتمل سياسة الإدماج في فرنسا، فقد دعا لافيجري إلى انتهاج سياسة قوية للتبشير، بحيث تجعل من الجزائريين مجموعة الكاثوليكيين المتحضرين، مثلما كان أجدادهم من قبل على حد قوله
وبناء على ما تقدم فقد قرر تقديم مساعدات مالية سخية لكل مشروع يهدف إلى دمج السكان المسلمين في فرنسا.
لقد عمل المستوطنون الأوروبيون منذ سنة (1871م) على الانفراد بالسلطة في الجزائر، وحرمان المسلمين من أي تمثيل سياسي، أو الحصول على الجنسية الفرنسية، وتركزت خطتهم على:
ـ التخلص من رؤساء القبائل أو الشخصيات الجزائرية التي تعاونت مع المكاتب العربية.
ـ إنهاء العمل بالشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين الفرنسية.
ـ إلغاء المكاتب العربية في جميع أنحاء الجزائر.
ـ تحويل المناطق العسكرية إلى الحكم المدني.
ه ـ قانون الإنديجينا:
وابتداء من عام (1881م) جاء الأوروبيون بقانون جديد يسمى «قانون الأنديجينا» وهو عبارة عن مجموعة من النصوص، وضعت بقصد مسح الهوية الجزائرية، واستعباد الشعب من خلال الطاعة العمياء للأوروبيين، وقد بقي ساري المفعول حتى سنة (1944م)، ومن خلال هذا القانون حدد المستوطنون إجراءات معاقبة المسلمين وإجبارهم على دفع الضرائب بدون نقاش، ومنعهم من حمل السلاح، وعدم الذهاب إلى الحج بدون رخصة مسبقة، وإظهار الطاعة التامة لسلطة الأوروبيين.
وقد بدأ خطر القضاء على الشخصية الوطنية للمسلم الجزائري يستفحل يوم قرر المستوطنون الأوروبيون تعيين مسؤولين إداريين لتنفيذ العقوبات الواردة في قانون الإنديجينا، وذلك بأساليبهم الخاصة.
وقد نجح هذا القانون في قمع الجزائريين، وكان القائمون على تنفيذ هذا القانون من المستوطنين. وحسب النصوص القانونية فإنهم لا يخضعون لسلطة الوالي أو رئيس أية بلدية أو القضاة. وهم في الحقيقة عبارة عن ضباط بدون مراقبة ينفذون الأحكام ويفرضون الغرامات على المسلمين، وفي بعض الأحيان يتحولون إلى قضاة ورجال أمن، ينفذون أحكامهم وقراراتهم بأنفسهم على السكان المسلمين، وبصريح العبارة، فإنهم أداة لقمع المسلمين ؛ لأنه لا توجد سلطة أخرى تلغي قرارات هؤلاء الإداريين الذين تحولوا إلى وكلاء للمحاكم القمعية ابتداء من سنة (1902م)، وعندهم سلطات مطلقة للتأديب وفرض العقوبات، فالمسلم الذي ينتقل بدون رخصة يدفع غرامة، وإذا لم يستطع دفعها يذهب إلى السجن، وهؤلاء الإداريون مثل رؤساء البلديات يعملون ليلاً ونهاراً لاستغلال المسلمين، والحصول على أموالهم، ونهب ثرواتهم بأية صفة كانت.
و ـ استغلال الفرنسيين لإمكانات الجزائر:
في عهد الجمهورية الثالثة أدخل الكولون زراعة الكروم التي بنيت عليها صناعة النبيذ في بلد مسلم لا يتعاطى الكحول، لتحل محل زراعة الحبوب والبقول، وكان الكولون يصرون على أن يكون لمستعمرة الجزائر وضع خاص، له نوع من التميز عن فرنسا، حتى تطلق أيديهم يعيشون فيها مثل ما يريدون. وفي سنة (1955م) تحقق لهم ذلك، فقد عين جونار في منصب الحاكم العام الذي كان يطالب بتحقيق هذه الفكرة منذ (1892م)، واستطاع أن يصدر ميزانية خاصة للمستعمرة، وأن يبرز كياناً خاصاً لها جعله يمتص الأزمة التي اندلعت بين الكولون الزراعيين واليهود التجار. وصدر قانون (19/12/1955م) الذي يعترف بنوع من التميز لشخصية الجزائر، كمستعمرة طبعاً وليست ككيان مستقل، وقد تركت النفقات العسكرية خارج إطار ميزانية الجزائر.
في أوائل القرن العشرين زاد استغلال الفرنسيين لإمكانيات الجزائر الاقتصادية والبشرية، فزادت مساحة المزارع الكولونيالية وزاد استغلال المعادن والغابات والصيد البحري، ووصل في سنة (1911م) عدد من المستوطنين إلى (751000). وفي سنة (1908م) كانت فرنسا قد بدأت تعد مشروعاً للتجنيد الإجباري يطبق على الجزائريين، واضطر العديد من الأسر الجزائرية إلى الهجرة لأقطار المشرق العربي وبخاصة سوريا وفلسطين هروباً بأبنائهم حتى لا يجندوا بالجيش الفرنسي الذي رأوا فيه خطراً على دينهم ، وصدرت مراسيم الخدمة الإجبارية العسكرية على الجزائريين في (31/1) و (3/2/1912م) ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى، وجند الجزائريون في الجيش الفرنسي، وكانت مرحلة جديدة ظهرت بعدها مباشرة تنظيمات الحركة الوطنية الجزائرية، ويأتي الحديث عنها في الجزء الثاني من حديثنا عن كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي.
ز ـ الأقلية الأوروبية في الجزائر:
إن الأقلية الأوروبية في الجزائر مارست ضغوطاً على جميع الحكومات الفرنسية منذ (1830م) إلى (1955م) بحيث نجحت الخطة المرسومة والتي اشتملت على ثلاث مراحل متتالية:
المرحلة الأولى: تتمثل في إدماج الجزائر في فرنسا من الناحية القانونية، أي اتخاذ الإجراءات القانونية التي تسمح بابتلاع الجزائر وجعلها جزءاً لا يتجزأ من فرنسا، وفي هذا المجال، نشير إلى بعض القوانين التي تم سنها بقصد ضم الجزائر إلى فرنسا وهي:
ـ مرسوم (22 جوان 1834م) الذي نص على اعتبار الجزائر جزءاً من الممتلكات الفرنسية.
ـ مرسوم (4 مارس 1848م) الذي نص على أن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا.
ـ قانون (4 جويلية 1865م) الذي نص على اعتبار المسلمين الجزائريين رعايا فرنسيين.
ـ مرسوم (24 أكتوبر 1870م) الذي أصبحت الجزائر بموجبه تشكل (3) مقاطعات فرنسية والقوانين الفرنسية تطبق على الجزائريين المسلمين.
ـ مرسوم (29 مارس 1871م) الذي نص على تعيين حاكم عام مدني في الجزائر خاضع لسلطة وزير الداخلية الفرنسي.
ـ قانون (23 مارس 1882م) الخاص بإنشاء دفاتر الحالة المدنية للمسلمين الجزائريين.
ـ قانون (19 ديسمبر 1955م) الذي يسمح للجالية الأوروبية في الجزائر أن تنشأئ المجلس المالي، ثم المجلس الجزائري فيما بعد، وذلك لكي تحكم قبضتها على الجزائر، وتمنع السكان المسلمين من الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية، وحقهم في الحصول على تمثيل نيابي عادل، سواء في المجالس البلدية أو المجلس الجزائري.
وأما المرحلة الثانية: أو الخطوة المكملة للاندماج من الناحية القانونية، فتتمثل في الاستيلاء على الأراضي الخصبة وإعطاء الجنسية لجميع المهاجرين، والمقيمين الأجانب في الجزائر، والحصول على دعم مالي من الدولة لبناء المدن الصغيرة في جميع أنحاء الجزائر.
لم يكن للمستوطنين الأوروبيين في الجزائر أموال عندما قدموا إليها، لأنهم جاؤوا أساساً إلى الجزائر بحثاً عن العمل والعيش فيها، ونظراً لفقرهم وعدم توفر أموال لديهم، قامت الدولة الفرنسية بتخصيص أموال طائلة لاستثمارها في بناء المدارس والطرقات، وشراء الأجهزة والمعدات الزراعية، وإعطائهم أراضٍ بدون مقابل، لاستغلالها والتمتع بخيراتها على حساب المواطن الجزائري الذي لا يجد من يمد له يد المساعدة. وبهذا الأسلوب الخبيث، ساهمت الدولة الفرنسية في تحطيم عنصر بشري «جزائري» وإثراء عنصر أوروبي دخيل على البلاد، وذلك عندما قامت بتسخير مواردها وموارد السكان المحليين لدعم الأوروبيين، وتمكينهم من إخضاع أبناء البلد لنفوذهم السياسي وقوتهم المالية.
وعندما اكتملت المرحلة الأولى «مرحلة الإدماج» والمرحلة الثانية «مرحلة جلب المهاجرين» وذلك في بداية القرن العشرين، جاءت المرحلة الثالثة،كتتويج للمرحلتين السابقتين، وهي إعطاء الجالية الأوروبية حكماً ذاتياً يسمح لها باستعمال الغش والمناورات والدسائس لفرض نفوذها على الجزائريين، والتحكم فيهم إلى الأبد، لقد كانوا يظنون أن قوانين الإدماج وتحالف الأوروبيين واليهود، ووجود هيئات تشريعية ومجالس بلدية شكلية، يتحكمون فيها عن طريق الغش في الانتخابات وانتقاء العملاء لملء المقاعد المخصصة للجزائريين المسلمين ؛ سوف تمكنهم من سد جميع الأبواب الحديدية في وجوه الجزائريين المقهورين في أرض ابائهم وأجدادهم. لكن الله أراد شيئاً آخر، متمثلاً في إعداد جيل جديد ليقوم فيما بعد بتوفيق الله ومنّه بإحراز نصر عظيم على الغزاة الغاصبين.
 
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022