الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

مكـانـة العـدل في القرآن الـكـريـم

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (15)

 

7 ـ قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. بيّن المولى عز وجل وصف اليهود الذين كانوا في المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم سماعون للكذب.

مما يشير بأن هذه أصبحت خصلة لهم، تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل، وتنقبض لسماع الحق والصدق، وهذه طبيعة القلوب حين تفسد، وعادة الأرواح حين تنطمس. ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات، وما أروج الباطل في هذه الاونة، وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة.

وهؤلاء سماعون للكذب وأكّالون للسحت، والسُّحت كل مال حرام والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى. وفي مقدمة ما كانوا يأكلون، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان. وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركة ويمحقها، وما أشد انقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة؛ كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله، وشريعة الله.

ويجعل الله الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيار في أمرهم إذا جاؤوه يطلبون حكمه، فإن شاء أعرض عنهم ـ ولن يضروه شيئاً ـ وإن شاء حكم بينهم. فإذا اختار أن يحكم حَكم بينهم بالقسط غير متأثر بأهوائهم، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر، ومؤامراتهم، ومناوراتهم.

والرسول {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، والحاكم المسلم، والقاضي المسلم، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن، وإنما يقوم بالقسط لله؛ لأن الله يحب المقسطين، فإذا ظلم الناس وإذا خانوا وإذا انحرفوا، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم؛ لأنه ليس عدلاً لهم وإنما هو لله، وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام في كل مكان، وفي كل زمان.

8 ـ قال تعالى: َ {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[ الممتحنة 8].

إن الإسلام دين سلام وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله، إخوة متعارفين متحابين، وليس هناك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله. فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك، وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم، وهذه قاعدة في معاملة غير المسلمين هي من أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين، ووجهته، ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، والصادر عن إله واحد، والمتجه إلى إله واحد المتعاون في نعيمه اللدني، وتقديره الأزلي من وراء كل اختلاف وتنويع.

لقد بيّن الله للمؤمنين أهمية موادة من لم يقاتلوهم في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم، فلا يبخسوهم من حقوقهم شيئاً، ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين، وأخرجوهم من ديارهم، وساعدوا على إخراجهم، وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون.

9 ـ قال تعالى: َ {وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ *بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}[ هود 84 ـ 86].

والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة ـ بعد قضية العقيدة والدينونة، أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة، فقد كان أهل مدين ـ وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام ـ ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، أي: ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات، وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد، كما تمس المروءة والشرف. كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الايبة بين شمال الجزيرة وجنوبها، ويتحكموا في طريق القوافل، ويفرضوا ما يشاؤون من المعاملات الجائرة؛ التي وصفها الله في هذه السورة.

ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة، وعدالة المعاملة، وشرف الأخذ والعطاء، ومكافحة السرقة الخفية، سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول، فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس، وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه، فتستند إلى أصل ثابت، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء. إن المعاملات والأخلاق لابد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة، هذه هي نظرة الإسلام، وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية الأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر، وتصوراتهم، وأوضاعهم، ومصالحهم الظاهرة لهم.

وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثيرها بالمصالح المادية القريبة، كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها.

َ فقد رزقكم الله رزقاً {وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان، بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة، أو غصب في الأخذ والعطاء.

{وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } إما في الآخرة عند الله، وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع، وفي حركة التجارة، وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض، في كل حركة من الحركات اليومية، وفي كل تعامل، وفي كل احتكاك. ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية:

{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم؛ لأنه أقرب إلى جانب الزيادة، وللعبارات ظل في الحس، وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص، فهو أكثر سماحة ووفاء.

{وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} وهذه أعم من المكيالات، فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع، تقويمها كيلاً، أو وزناً، أو سعراً، أو تقديراً، وتقويمها مادياً أو معنوياً، وقد تدخل في ذلك الأعمال والصفات؛ لأن كلمة شيء تطلق أحياناً، ويراد بها غير المحسوسات.

وبخس الناس أشياءهم ـ فوق أنه ظلم ـ يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد أو اليأس من العدل والخير وحسن التقدير، وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر، ولا تبقي على شيء صالح في الحياة.

{وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } والعثو هو الإفساد، ، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد قاصدين إلى تحقيقه. ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان، وبخس الناس أشياءهم في التقدير.

{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فما عند الله أبقى وأفضل، وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده ـ أي: الدينونة له بلا شريك ـ فهو يذكرهم بها هنا مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن امنوا كما دعاهم، واتبعوا نصيحته في المعاملات، وهي فرع عن ذلك الإيمان.

{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئاً، كما أنه ليس موكلاً بحفظهم من الشر والعذاب، وليس موكلاً كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولاً عنهم إن هم ضلوا، وإنما عليه البلاغ وقد أداه.

{وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر، ويثقل التبعة، ويقفهم وجهاً لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ.

مراجع الحلقة:

- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 46-50.

- في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/893 – 1917-1919-3544).

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022