مكـانـة العـدل في القرآن الـكـريـم
مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (14)
كانت أقوام قبل الإسلام - وحتى يومنا هذا ـ تفصل بين العقيدة والعبادات، وبين الشرائع والمعاملات؛ من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد}[هود:87]
ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة للدلالة على طبيعة هذا الدين وتسويته بين العقيدة والشريعة، وبين العبادة والمعاملة في أنها كلها من مقومات هذا الدين المرتبطة كلها في كيانه الأصل.
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري ـ وقد ربطه بالله ابتداء ـ إلى مستوى سامق رفيع، على هدى من العقيدة في الله، ومراقبته. فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد بما أنه ضعيف، ناقص، محدود الأجل، وفي قوة القرابة سند لضعفه، وفي سعة رقعتها كمـال لوجوده، وفي امتدادها جيلاً بعـد جيـل ضمان لامتداده، ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم، أو القضاء بينهم وبين الناس، وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه، وهو سبحانه أقرب إلى المرء من حبل الوريد؛ لذلك يعقب على هذا الأمر ـ وعلى الوصايا التي قبله ـ مذكراً بعهد الله: َ ومن عهد الله قولة {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}، والعدل ولو كان ذا قربى، ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط، ومن عهد الله ألا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق، وقبل ذلك كله من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً، فهذا هو العهد الأكبر، المأخوذ على فطرة البشر بحكم خلقتها متصلة.. ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد هذا التكليف: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *}.
5 ـ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *} 135].
إنه نداء للذين امنوا، نداء لهم بصفتهم الجديدة، وهي صفتهم الفريدة، صفتهم التي بها أُنْشِئوا نشأة أخرى، وولدوا ميلادًا آخر، ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت مبادئهم وأهدافهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم أمانة القوامة على البشرية، والحكم بين الناس بالعدل، ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته، وكان له معناه: َ فبسبب من اتصافهم بهذه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى، وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى.
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم تسبق التكليف الشاق الثقيل {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}
إنها أمانة القيام بالقسط، بالقسط على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال، القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين.
ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأصدقاء والأعداء، ويتساوى الأغنياء والفقراء حسبة {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}، وتعاملاً مباشراً معه لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، ولا تعاملاً مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية؛ ولكن شهادة لله، وتعاملاً مع الله، وتجرداً من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار.
َ وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولاً وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً.. وهي محاولة شاقة أشق كثيراً من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل، إن مزاولتها عملياً شيء آخر غير إدراكها عقلياً، ولا يعرف الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعياً.
ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة؛ لأنها لابد أن توجد في الأرض هذه القاعدة، ولابد أن يقيمها ناس من البشر، ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية، حين يكون المشهود له أو عليه فقيراً، تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه، أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية، كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية. وحين يكون المشهود له أو عليه غنياً تقضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته، أو قد يثير غناه، وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده، وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع، والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين.
ـ َ وهي محاولة {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة، وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين ـ في عالم الواقع ـ إلى هذه الذروة التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ كان ينشئ معجزة حقيقية في عالم البشرية معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم.
ـ َ والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها: حب الذات {فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}، وحب الأهل والأقربين هوى، والعطف على الفقير ـ في موطن الشهادة والحكم ـ هوى، ومجاملة الغني هوى، ومضارته هوى، والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن ـ في موضع الشهادة والحكم ـ هوى، وكراهة الأعداء، ولو كانوا أعداء الدين ـ في موطن الشهادة والحكم ـ هوى.
وأهواء شتى الصنوف والألوان، كلها مما ينهي الله الذين امنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها.
وأخيراً يجيء التهديد والآنذار والوعيد من تحريف الشهادة، والإعراض عن هذا التوجيه فيها.
{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *}ـ ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد ، يرتجف له كيانه، فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين.
حدث أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة، حسب عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر.. أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم والله أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم، على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
لقد كان رضي الله عنه قد تخرج من مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم على المنهج الرباني المنفرد، وكان إنساناً من البشر خاض هذه التجربة الشاقة، ونجح، وحقق ـ كما يحقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج ـ تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج. ولقد مضت القرون تلو القرون بعد ذلك الفترة العجيبة، وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون، وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية، وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية، وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة، وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة، ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله.
ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس، وفي حياتهم، والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة، لم يقع إلا في ذلك المنهج في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة. وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام، وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة، وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد.
وهذه حقيقة ينبغي أن ينتبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت وبالإجراءات القضائية التي استحدثت، وبالآنظمة والأوضاع القضائية التي نَمت وتعقدت، فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة، في تلك القرون البعيدة، وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة.
هذا وَهْمٌ تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع، إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ الناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع، وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع، وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة، ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات ولكن للروح التي وراءها، أيًّا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها، والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان.
6 ـ قال تعالى: َ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [ الحجرات 9].
ففي هذه الاية الكريمة بيان للتعاليم الربانية التي يجب على المسلمين الالتزام بها، فقد أثبت سبحانه صفة الإيمان للمسلمين المتقاتلين، ولم ينزع عنهم صفة الإيمان بسبب القتال، وعند اندلاع القتال بين المسلمين أمر الله بالعمل على إيقافه بالسعي للإصلاح، فإن امتنعت إحدى الطائفتين عن الإصلاح، وإيقاف القتال أمر الله المسلمين جميعاً بالعمل على قتال الفئة الباغية الظالمة الجائرة حتى ترجع، وتنقاد لأحكام الشريعة الإسلامية، فإن رجعت أو انهزمت أمام الطائفة الأخرى، فعلى المسلمين أن يجتهدوا في إصلاح ذات البين على أسس العدل وأصول القسط، وبيّن سبحانه وتعالى أن الله يحب المقسطين، مرغباً لنا للوصول إلى محبة الله عز وجل، والفرق بين العدل والقسط: هو أن القسط عدل مع مراعاة المشاعر والأحاسيس والنفوس للمهزومين والمكلومين والمصابين في هذا القتال؛ فلا بد في المصالحة الوطنية أن تقوم على العدل ومراعاة مشاعر وأحاسيس ونفوس الناس، ثم بيّن سبحانه بأن المؤمنين إخوة، وحرك العواطف الأخوية المتبلدة بسبب الحرب في أعماق النفس البشرية، مذكراً بمعاني الأخوة الخالدة في عقيدتنا وديننا لكي تتغير النفوس من أعماقها نحو قيم السلم والأمن والتسامح والعفو والصفح، وتتجاوز تبعات مرحلة القتال بالبعد الإيماني الأخوي؛ الذي يتقرب به العبد المؤمن لخالقه جل في علاه.
وأمر المولى عز وجل القيادات المؤثرة في المجتمع وأفراد الشعب بالإصلاح بين الإخوة وإزالة اثار الحرب النفسية والاجتماعية والاقتصادية. وذكرهم بالخوف من الله، واتقاء سخطه وعقابه، وذلك بتقواه في الأعمال والأقوال وفي مشاعر الآنتقام، أو تشوق النفس لقهر وإذلال المغلوب، أو سيطرة الضغائن والأحقاد على المشهد العام بعد انتهاء الحرب؛ لأن هذه التقوى الطريق لرحمة الله لمن استجاب لشريعته، والتزم بالعدل والقسط والأخوة في صراعه مع الآخرين.
مراجع الحلقة:
- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 42-46.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، (3/776-777-1233).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: