العدل أساس الخليقة والقيمة الأسمى في التعامل بين الخلق
مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (17)
قال سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ آل عمران: 18]. أي: بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الافاق والآنفس، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك، والملائكة أخبروا الرسل بهذا، وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضروري، وهو عند الآنبياء أقوى من جميع اليقينيات، وأولو العلم أخبروا بذلك، وبينوه، وشهدوا شهادة مقرونة بالدلائل والحجج؛ لأن العالم بشيء لا تعوزه الحجة عليه. وقوله أي: بالعدل في {بِالْقِسْطِ}، فالتوحيد: هو الوسط بين إنكار الإله، والشرك به، والعدل في العبادات والاداب والأعمال، فعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترفيه الروح وتزكية النفس، وأباح كثيراً من الطيبات لحفظ البدن، وتربيته، ونهى عن الغلو في الدين، والإسراف في الدنيا.
كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون، وأوضحه، فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى؛ فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.
إن تدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس قائم على العدل، فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر... لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس، وبينه في كتابه... وإلا فلا قسط، ولا عدل، ولا استقامة، ولا تناسق، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان، وهو الظلم إذاً، والتصادم، والتشتت، والضياع.
وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم العدل، واستقامت حياتهم، وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر، لازمه جهل البشر وقصور البشر، كما لازمه الظلم وصوره المتعددة مع ركام من التناقض العجيب، ظلم الفرد للجماعة، أو ظلم الجماعة للفرد، أو ظلم طبقة لطبقة، أو ظلم أمة لأمة، أو ظلم جيل لجيل، وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
{لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الاية الواحدة مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة والقدرة والحكمة، كلتاهما للقوامة بالقسط، فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها.
12 ـ قال تعالى: َ {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} 26].
خاطب الله تعالى داود عليه السلام بأن جعله حاكماً بين الناس في الأرض، فله الحكم والسلطة، وعليهم السمع والطاعة، ثم بيّن الله تعالى له قواعد الحكم تعليماً لغيره من الناس.
ـ َ{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي: فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات، وهذه أولى، وأهم قواعد الحكم.
ـ َ{وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} أي: تمل في الحكم مع أهواء نفسك، أو بسبب مطامع الدنيا؛ فإن اتباع الهوى مزلقة، ومدعاة إلى النار؛ لذا قال: َ{فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: إن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والآنحراف عن جادة، وعاقبته الخذلان.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} أي: إن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل لهم عقاب شديد يوم القيامة والحساب، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل. وفي هذه الاية وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يحيدوا عنه، فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد الله من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد، إن الاية الكريمة تبين أن الحكم بين الناس مرتبة دينية تولاها رسل الله، وخواص خلقه، وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق، ومجانبة الهوى، فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية، والعلم بصورة القضية المحكوم بها، وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي، فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم، ولا يحل له الإقدام عليه، وتبين كذلك أن الحاكم ينبغي له أن يحذر الهوى، ويجعله منه على بال، فإن النفوس لا تخلو منه، بل يجاهد نفسه بأن يكون الحق على مقصوده.
مراجع الحلقة:
- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 50-54.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/379).
- التفسير المنير للزحيلي (23/188).
- تفسير السعدي (1/660).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: