لمحات من تاريخ المسجد الأقصى
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليه السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (97)
1- الأقصى بُني بعد الكعبة بأربعين عاماً:
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي مسجد وُضع في الأرض أولاً؟ «قال المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟، قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم بينهما؟، قال: «أربعون سنة».
إن هذا الحديث الصحيح يدلّ على أن إبراهيم (عليه السلام) هو باني الكعبة والأقصى، ويحدد المدة الزمنية بين بنائهما بأنها أربعون سنة.
وهناك من العلماء من يقول أنّ أوّل من بنى بيت المقدس هو نبيّ الله يعقوب حفيد إبراهيم عليهم السلام. وهذا معناه أنّ المسجد الأقصى بني في القدس، قبل وجود إسرائيل، وقبل دخولهم فلسطين بعد موسى (عليه السلام)، وقبل ملك داوود وسليمان، وقبل بناء سليمان للهيكل كما يزعم اليهود.
فكون القدس بلداً إسلامياً هذا أمر قديم، منذ إبراهيم (عليه السلام) على الأقل، وبناء الأقصى مسجداً لله تعالى، هذا قديم، قبل أن يوجد اليهود، ويدّعوا أن لهم حقاً في فلسطين بمئات السنين، فحق المسلمين في القدس سابق لأي حق يهودي أو نصراني -إن كان لليهود أو النصارى حق فيها- وهذا الحق ثابت لهم منذ أبيهم إبراهيم الخليل (عليه السلام).
2- المسجد الأقصى في عهد سليمان (عليه السلام):
استمر المسجد الأقصى قائماً فترة من الزمن يرتاده المؤمنون من زمن إبراهيم وبنيه (عليهم السلام) لعبادة الله، ثم عدت عليه عوادي الزمن، من كوارث وحروب، فتهدم وسقطت جدرانه.
وفي عهد سليمان (عليه السلام)، قام بتجديد بناء المسجد الأقصى وبناه مسجداً لله، ليصلي فيه المؤمنون ويعبدوا الله سبحانه وتعالى كما كان منذ نشأته الأولى للصلاة والذكر وعبادة الله تعالى. وإن الدليل على أن سليمان (عليه السلام) جدّد بناء المسجد الأقصى في بيت المسجد، ما أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، عن رسول الله (ﷺ) قال: «إنّ سليمانَ بن داوود عليهما السلام لمّا بنى بيت المقدس، سأل الله عز وجل خلالاً ثلاث:
- سأل الله عز وجل حكماً يصادف حكمه فأوتيه.
- وسأل الله عز وجل مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأوتيه.
- وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحدٌ لا ينهزه إلا الصلاة فيه، وأن يُخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه».
وقد ذهب العلامة برهان الدين الزركشي إلى أن سليمان (عليه السلام)، إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه.
ويذهب ابن القيم الجوزية إلى أنّ الذي أسس بيت المقدس إنما هو يعقوب (عليه السلام)، وأن سليمان كان مجدداً له، وإلى هذا ذهب ابن كثير أيضاً.
إنّ سليمان (عليه السلام) جدّد بناء بيت المقدس، وجدّد بناء المسجد الأقصى في عهد مملكته التي اشتهرت بالتطور المعماري، وبناء التحف والقصور والمحاريب، واستفاد من التقدّم الذي وصلت إليه دولته في مجالات عدّة، ومنها في نواحي البناء والعُمران وبيوت العبادة، فكان من الطبيعيّ أن يجدد عمارة المسجد الأقصى.
إن سليمان (عليه السلام) حلقة مضيئة في سلسلة الأنبياء المصطفين، نحن أولى باتباعه والحفاظ على مسجده؛ فقد كان نبياً رسولاً، وملكاً خليفة، فكان حكمه حكماً إسلامياً عادلاً.
إنّ المسجد الأقصى الذي جدّد بناءه سليمان لم يجعله هيكلاً مقدساً ولا (كنيساً) يهودياً، وإنما جعله مسجداً للصلاة والعبادة والذكر.
3- طلبات ثلاثة لسليمان (عليه السلام):
بيّن الحديث السابق الذي رواه النسائي وابن ماجه أنّ سليمان طلب من ربه ثلاثة أمور، وبما أنه نبي مقرّب مجاب الدعوة؛ فإن الله قد استجاب له وأعطاه ما طلب.
- سأل الله حكماً صائباً، وقضاء صحيحاً، يوافق حكم الله وقضاءه، فآتاه الله ذلك، وكانت أحكامه صائبة صحيحة، وكان يستدرك على قضاء أبيه داوود (عليه السلام) كما عرفنا من قضية الحرث والغنم، وقصة المرأتين والطفل.
- سأل الله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده؛ ليكون هذا مظهراً لذكر الله وشكره، وليستخدمه في طاعة الله ونفع عباد الله، فآتاه الله ذلك، وسخّر له الإنس والجن والطير، وعلمه منطق الطير، وكان جيشه يضم أصنافاً من هؤلاء.
- وسأل الله أن يغفر لكلّ مؤمن صالح يأتي إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه، مهما كان مكان إقامته، بشرط أن يكون هدفه وجه الله، وأن يأتيه مخلصاً لله، وأن لا ينهزه ولا يحركه إلا الصلاة، فآتاه الله ذلك، وأخبره أن ّكل من كان كذلك فإنه سيغفر له، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
وبقي هذا الحكم قائماً حتى قيام الساعة، وينطبق على كلّ مسلم صالح، يأتي المسجد الأقصى بهذا الهدف وهذه الصفة، كما ينطبق هذا الحكم الرباني على ملايين المسلمين من أمة محمد ﷺ بفضل دعاء سليمان (عليه السلام) لهم، وهذا يؤكد حقيقة إيمان أمة محمد ﷺ بالأنبياء السابقين والمرسلين جميعاً، ومنهم داوود وسليمان عليهما الصلاة والسلام.
وقد جدّد (عليه السلام) بناء المسجد الأقصى بطريقة حضارية متقدمة، فاقت في جمالها وبديع بنائها الصرح الممرد من قوارير.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 468-473.
- القصص القرآني، الخالدي، (1/414-508-509).
- فبهداهم اقتده، ص323.
- إعلام الساجد بأحكام المساعد، ص30.
- دراسات تاريخية من القرآن (3/118).
- الوجود التاريخي للأنبياء، سامي العامري، ص309.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: