العدل أساس الخليقة والقيمة الأسمى في التعامل بين الخلق
مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (18)
قال تعالى:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأَعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [ النمل 20 ـ 21] لابد للدولة من قوانين حتى تضبط الأمور بحيث يعاقب المسيء ويحسن للمحسن، لابد من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة، وأن تكون على قدر الخطأ وحجم الجرم، وهذا عين العدالة؛ ولهذا لم يقطع سليمان بقرار واحد في العقاب عند ثبوت الخطأ، بل جعله متوقفاً على حجم الخطأ {لأَعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
وقد استدل أهل العلم بهذه الاية على أن العقاب على قدر الذنب، وعلى الترقي من الشدة إلى الأشد بقدر ما يحتاجه إلى إصلاح الخلل، ولاشك أن القيادة تحتاج إلى لجانٍ ومؤسسات وأجهزة حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة.
إن سليمان عليه السلام كان مهتماً بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال، وخاصة إذا راب شيء في أحوالهم، فسليمان عليه السلام لما هم بالتفقد لم ير الهدهد بادر بالسؤال: َ يعني: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة {مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} لاح له.
ثم قال: َ سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ }، فسليمان عليه السلام أراد أن يفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقة، ولكن عن جد وشدة إذ لم يكن الغيب بعذر.
فالدول تحتاج المباشرة لأحوال الرعية، وقوانين حتى تضبط الأمور، ومؤسسات لخدمة العدل ورفع الظلم، والقائمون عليها يجب أن يتصفوا بصفات الحكام والقادة كالحزم، والتريث، وسعة الصدر، وقبول الاعتذار، والتروي في تصديق الخبر، وعدم الاغترار بتصديق الخبر، وعدم الاغترار بقوة النفس، وكثرة الجند، وسعة السلطان، والتواضع في قمة المجد والتمكين، ومن خلال سيرة سليمان عليه السلام نجد هذه الصفات التي تساعد على إقامة العدل بين الناس والمخلوقات.
ـ الحزم: ويظهر ذلك عند القيادة إن غلب الظن أن هناك تقصيراً أو تكاسلاً عن الحضور وقت الطلب، أو التأخر وقت العمل: َ فإنه قد تبين لسليمان عليه السلام أن الهدهد {لأَُعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأََذْبَحَنَّهُ}، فتهدد بذلك أمام الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب حتى لا يكون غيابه - إن لم يؤخذ بالحزم ـ سابقة سيئة لبقية الجند.
ـ التريث والتأني قبل الحكم: فلعل للغائب عذراً، أو للمقصر حجة تدفع الإثم، وترفع العقوبة؛ ولهذا قال سليمان بعدها، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: بحجة تبين عذره في غيبته، وهذا هو اللائق بالحاكم والقاضي إذا كان عادلا، وسليمان عليه السلام الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده عند النمل لا ينتظر منه مع الهدهد، أو ما دونه أو ما فوقه، إلا أن يكون عادلا لا يعاجل بالعقوبة قبل ثبوت الجريمة، ولا يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة.
ـ سعة الصدر: التروي في الاستماع إلى اعتذار المعتذر، وحجة المتخلف، وفي قصة سليمان عليه السلام، نسبة عدم الإحاطة إليه: َ {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ *أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }[ النمل 22 ـ 26]. كل هذا وسليمان لا يقاطعه، ولا يكذبه، ولا يعنفه، حتى ينتهي من سرد الحجة؛ التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السلام.
ـ قبول الاعتذار: ممن يعتذر في الظاهر، وإيكال سريرته إلى الله تعالى، فسليمان سكت عن المؤاخذة، وانتقل إلى تحرير الخبر، قال القرطبي رحمه الله: هذا دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه.
ـ التروي في تصديق الخبر: فهذا الذي حكاه الهدهد، أمر ليس بالسهل ولا باليسير، ثم إن الهدهد لا يجرؤ على اختلاق هذه القصة الطويلة، وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية، ومقدرته على التأكد من صحة الأخبار، ومع ذلك لم يبادر عليه السلام إلى التصديق، كما أنه لم يتعجل التكذيب، بل قال: َ وهو من {سَنَنْظُرُ}، أو التأمل والتحري.
يعني: أَصَدقْتَ في {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، أم كذبت لتتخلص من الوعيد.
ـ عدم الاغترار بقوة النفس: وكثرة الجند، وسعة السلطان، وإسناد الفضل إلى الله في كل نعمة، وتجديد الشكر على هذه النعم. وسليمان عليه السلام لما طلب الإتيان بعرش بلقيس أجابته جنوده التي سخرها الله له مسارعين إلى الطاعة، فلما وجد سليمان طلبه مجاباً، وأمره مطاعاً سارع إلى ضبط النفس في سلك الخشية، ومنهاج التواضع، والطاعة لله رب العالمين أي: رأى العرش ثابتاً عنده أي: هذا النصر والتمكين من فضل ربي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها، فإن من شكر {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} يرجع نفع شكره إلا إلى نفسه، حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد، ومن كفر النعم فإن الله غني عن شكره، كريم في عدم منع تفضله عنه.
ـ التواضع وهو قمة المجد والتمكين: كان سليمان عليه السلام دائم التواضع، حتى قيل: إنه كان يمشي منكسر الرأس خشوعاً لله، وأثناء استعراضه لجنوده من الجن والآنس والطير، مرّ على وادي النمل، وفي نظرة التواضع إلى الأرض، أبصر نملة، فأشخص النظر صوبها، وأصاخ السمع إليها، وبما علم من منطق الطير والحيوان حاول أن يتفهم أمرها، لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجنود في ركب سليمان، لقد سمعها وفهم قولها: َ {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [ النمل 18].
نعم، إنها كائن صغير في مملكة ضخمة عظيمة تسعى كأخواتها للرزق، وتنصح لهم أن يفسحوا الطريق أمام الملك العادل؛ حتى لا تقع مظلمة غير مقصودة من أحد منهم.
قال القرطبي: التفاتة مؤمن، أي: من عدل سليمان وفضله وفضل جنده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا.
إن هذه النملة لم تكن إلا واحدة من رعايا سليمان في مملكته؛ التي ضمت إلى جانب الآنس والجن أنواعاً وألواناً من الحيوان والطير والهوام، لقد سمع كلامها، وتفهم شكواها، فتبسم من قولها، فرق قلبه الكبير رفقاً لجرمها الصغير فرحمها وأخواتها، وشكر ربه إذ علمه منطق هذه المخلوقات حتى يتمكن من إنصافها، وإيصال العدل إليها، وسُر بأن عدالته وإيجابية جنوده قد عرفها كل مخلوق حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدماً، بأنهم إن أصابوا نملة بأقدامهم، فإن ذلك من غير قصد منهم ولا شعور.
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [ النمل : 19].
لقد أدرك سليمان عليه السلام أنه ـ في جنب الله ـ في حاجة إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك منه؛ ولهذا قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
مراجع الحلقة:
- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 54-60.
- الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز مصطفى كامل، (2/589-593).
- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2638).
- تفسير القرطبي (13/ 170 -184).
- تفسير الرازي (24/193).
- تفسير ابن كثير (3/349).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: