الثلاثاء

1447-05-06

|

2025-10-28

الأصل في الإسلام السلام

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

الإسلام دين السلم والسلام، فالأصل في هذا الدين إقرار مبدأ السلم بين البشر في علاقاتهم الاجتماعية والسياسية كأصل، كما يدعو الإسلام إلى السلام في العلاقة بين منتسبي الأديان والمذاهب والأفكار المختلفة، وذلك على أسس أخلاقية وقيم إنسانية تتمثل بالعدالة والمساواة والتسامح والتعايش مع الآخر، والتصالح مع المختلف وتقبله في المجتمع، أما الاعتداء والحرب فهو الحالة الاستثنائية المقيدة بالمبررات والضرورات الشرعية والواقعية، فالأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم، وكذلك الأمر بين الأفراد والجماعات.

بل إن الإسلام يحتوي على قواعد وتعاليم في إقرار السلام لا يوجد نظيرها في الأديان والمذاهب الفلسفية والفكرية والسياسية الأخرى، ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[سورة النساء: 94]. قال الرازي: " ولا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقتلكم لست مؤمناً، وأصل هذا من السلامة، لأن المعتزل طالب للسلامة .. " ، وأن الإسلام إنما هو دين الله تعالى الذي رضيه لعباده لما فيه خيرهم وصلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فهو طريق خروجهم الوحيد من الضلالة إلى السلامة في الدراين، قال سبحانه: ﴿یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ كَثِیرࣰا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲۚ قَدۡ جَاۤءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورࣱ وَكِتَـٰبࣱ مُّبِینࣱ ** یَهۡدِی بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَ⁠نَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَیُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ا⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾ [المائدة ١٥-١٦]. قال الإمام الألوسي: " سبل السلام أي طرق السلامة من كل مخافة، فالسلام مصدر بمعنى السلامة ". وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين المتقين لكونهم يتسامحون مع الجاهلين فلا يردون الإساءة بمثلها، بل يقابلونها بالصفح والعفو، ومدح ذلك فيهم فقال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63] (1).

والسلام تحية الإسلام والمسلمين التي ارتضاها الله لهم منذ خلق آدم عليه السلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "" خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ علَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ علَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلائِكَةِ، جُلُوسٌ، فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ؛ فإنَّها تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقالَ: السَّلامُ علَيْكُم، فقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَزادُوهُ: ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حتَّى الآنَ "". وفي هذا الحدث إشارة عظيمة إلى أن بداية قصة البشرية وافتتاحها كانت بالسلام، وأن آدم عليه السلام ألقى السلام على أول من لقيهم من مخلوقات الله وهم الملائكة، فكان السلام هو عنوان ميلاد الحضارة الإنسانية الأولى.

وكذلك كان السلام عنوان ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية بعد نهاية الطوفان العظيم الذي أهلك البشرية جمعاء حينها، ولم ينجو منه إلا نوح عليه السلام ومن تبعه من المؤمنين، فبعد ابتلاع الأرض للماء واستواء السفينة على الأرض، خاطب الله تعالى نوحاً عليه السلام فقال تعالى: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ** تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 48- 49]. والشاهد هنا هو لفظ (السلام) والمقصود منه في قوله عزوجل: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا﴾: أي: اهبط أنت ومن معك وما معك، مصحوباً بسلام منّا عليك، وبركات منّا عليك. وقيل: أي: بأمنٍ منّا، وهذا يشمل كل ما يطلب فيه الأمن، كالأمن من المهلكات، ومن كل ذي شرٍّ، وكالأمن من الموت جوعاً أو عطشاً ونحو ذلك. وقيل في تفسيرها: "بسلام منّا" تشمل في ثناياها معاني متعددة، كالسكينة والأمن والاستقرار والهدوء، فكان من الأسس العظيمة للحضارة الإنسانية الثانية "السلام" الذي منّ الله به على نوح ومن معه، وهو السلام على دينه وتوحيده وأتباعه، والسلام مقومات الحياة الإنسانية الجديدة التي سيقودها، فهو السلام على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (2).

وهذا السلام من آثار اسم الله عز وجل "السلام"، فمن أسماء الله الحسنى السلام، فهو الذي جاءت منه السلامة، ولذا فإن السلامة تابعة للسلام وأثر من آثاره، فهو تعالى الأول قبل كل شيء، وهو الذي سلمت ذاته وصفاته وأفعاله من كل ما لا يليق بكماله، وكذلك من اسم السلام اشتُقَّ الإسلام، وهو دين الله، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]. وتحتوي السلامة البراءة من كل شر وسوء، ومن كل مرض وألم، ومن كل جهل وفقر، ومن كل حسد وعلة، وفي مقابل ذلك: فهي القوة التي تتضمن المقدرة والاستطاعة والسيطرة والعطاء (3). فالله سبحانه وتعالى مصدر السلام والأمن، وكل من ابتغى السلامة عند غيره، سبحانه، فلن يجدها، وهذا معنى قوله ﷺ: "اللهم أنت السلام ومنك السلام" ، ولذلك سميت الجنة دار السلام؛ لأن من دخلها سلم من الآفات والشرور والمنغصات والأكدار، قال تعالى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر: 64]. ومن ذلك تحية الإسلام التي حث الإسلام على إفشائها، وذلك في قوله ﷺ:"لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" ، ففي إفشائه إشاعة للأمن والودِّ والسلام بين الناس.

وقد ثبت في السنة الصحيحة عدم تمني الحرب والقتال والدعوة إلى السلم لأنه الحالة الطبيعية، والأصل في العلاقة بين الناس يجب أن يكون على أساس السلم والمصالحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيُّها الناسُ، لا تتمَنَّوا لقاءَ العدُوِّ، واسألوا اللهَ العافيةَ، فإذا لَقيتُم العدُوَّ فاصبِروا، واعلَموا أنَّ الجنَّةَ تحتَ ظِلالِ السُّيوفِ"، ومن دلالات هذا الحديث الواضحة أن تمني حالة السلم هو الأصل، فلا يجوز تمني الحرب والقتال إلا في حالة الضرورة، وفي القرآن الكريم ما يؤكد هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]، يقول السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: ""{‏وَإِنْ جَنَحُوا‏}‏ أي‏:‏ الكفار المحاربون، أي‏:‏ مالوا ‏{‏لِلسَّلْمِ‏}‏ أي‏:‏ الصلح وترك القتال‏، ‏{‏فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أجبهم إلى ما طلبوا متوكلًا على ربك، فإن في ذلك فوائد كثيرة‏.‏ منها‏:‏ أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم‏.‏ ومنها‏:‏ أن في ذلك إجمامًا لقواكم، واستعداداً منكم لقتالهم في وقت آخر، إن احتيج لذلك‏.‏ ومنها‏:‏ أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضًا، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه،‏ ‏فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له‏،‏ فصار هذا السلم عوناً للمسلمين على الكافرين‏،‏ ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة، وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع المسلمين، وانتهاز الفرصة فيهم "".

إذاً فالحرب التي يعلنها الإسلام ليست حرباً دينية لإجبار الناس على اعتناق الإسلام كما يروج لذلك المتعصبون من أعداء الإسلام وكارهيه، إنما هي لتأمين السلام العالمي ودفع الظلم والفتنة وحماية حرية الفرد في اعتناق ما يشاء ويريد، والقتال في هذه الحالات هو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [ النساء: 75]، فالإسلام دعا المسلمين إلى مسالمة من يسالمهم، بل زاد على ذلك بأن دعاهم إلى حسن المعاملة والعشرة مع من لم يقاتلهم ويعتدي عليهم، وبرِّ من لم يظلمهم ويتعرض لهم بالأذى، حتى لو كان من مخالفيهم في الدين من الكفار والمشركين، قال تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الممتحنة: 8]. قال الطبري: " عنى بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم ... " (4).

فالإسلام أقر بوضوح وبنص لا يقبل التأويل حرية العقيدة في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [ البقرة: 256]، بل إن الله تعالى شرّع الجهاد لحماية حرية المعتقد ولدفع البغي والاضطهاد عن معتنقي كافة الأديان على اختلافها وحماية دور عبادتهم، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[ الحج: 40]، والمقصود أنه لولا ما شرعه الله تعالى من قتال المشركين، لخربت وصامع الرهبان وهي كنائس النصارى، والصلوات وهي كنائس اليهود، والمساجد وهي دور عبادة المسلمين (5).

 

المصادر والمراجع:

1. كمال أوقاسيون، " مبادئ التعايش الدولي في الإسلام "، مجلة الجامعة الإسلامية، عدد 46، 2014، ص 124-125.

2. محمد متولي الشعراوي، قصص الأنبياء، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011م، ص 149.

3. عقيل حسين، مختصر موسوعة أسماء الله الحسنى، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط1 2010م، ص 79-84.

4. أوقاسيون، " مبادئ التعايش الدولي في الإسلام "، ص 127.

5. أوقاسيون، " مبادئ التعايش الدولي في الإسلام "، ص 124-125.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022