الأربعاء

1447-05-28

|

2025-11-19

من أسباب هلاك الحضارة الإنسانية الأولى .. الكِبر والمكر

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

في تاريخ الأمم عبرةٌ بالغة تُظهر أن الكبر والمكر كانا من أعظم أسباب الهلاك والانهيار. ويبرز نموذج قوم نوح عليه السلام كمثال صارخ لاستعلاءٍ صدّهم عن الحق، ومكرٍ أحاط بدعوة نبيهم، فجاءهم العذاب جزاء تكبرهم وعنـادهم، ليبقى الدرس شاهدًا للأجيال.

فمن أسباب هلاك قوم نوح: الاستكبار، والكبر والتكبر والاستكبار: اشتقاقات من مادة " كبر " وهي متقاربة في المعنى (1)، فالكبر ألصقناه بالخلق الباطني، وهو: خلق في النفس دال على الاسترواح (2)، والركون إلى رتبة فوق المتكبَّر عليه (3)، فمتى اتصف المرء بهذا الخلق يقال: في نفسه كبر (4)، فإذا ظهر كعمل صادر عن الجوارح كان تكبراً واستكبارا (5). وقد بيَّن رسول الله ﷺ حقيقة الكبر المتوعد عليه بالعقاب فقال: الكبر بطر الحق، وغمط الناس (6).

وصِفة الاستكبار الذميمة كانت شائعة في قوم نوح عليه السلام، وكانوا قوماً مستكبرين متجاوزين الحد في الكبر، ووصفهم بهذه الصفة نبيهم نوح عليه السلام في شكواه إلى ربه من عنادهم وعدم استجابتهم، قال تعالى: ﴿وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح:7]؛ أيّ استكباراً عظيماً غير معهود (7)، وقد أكد الفعل بالمصدر للدلالة على فرط استكبارهم (8).

وورد هذا الوصف الدال على مبالغتهم وإفراطهم في الكبر في قوله تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾ [النجم: 52]. وقال الطبري: إنهم كانوا أشد ظلماً لأنفسهم، وأعظم كفراً بربهم، وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من الأمم (9).

وقد تكبر قوم نوح على الله سبحانه وتعالى بالترفع عن عبادته وعن الإذعان لأوامره ونواهيه وعلى نوح عليه السلام وأتباعه، ولذلك مضت فيهم سنة الله في إهلاك أهل الاستكبار.

إنَّ الكبر خُلق ذميم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وبسببه شقي كثير من الناس و أوبقوا أنفسهم في العاجلة، واستحقوا العذاب في الآخرة، والنصوص الواردة في ذمه، وبيان خطورته، وما أعد الله لصاحبه، كثيرة لا تحصى، منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]. وقال ﷺ : "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" (10).

وهذان النصان في الوعيد الأخروي، وأما في العاجلة فيكفي في بيان عاقبة صاحب الكبر ما ورد من النصوص الدالة على كونه سبباً في هلاك كثير من الأمم السالفة، وأشد آثار الكبر ضرراً لصاحبه أنه يمنعه من اتباع الحق والانقياد له بعد معرفته، فيُحرم الهداية، وينقاد للباطل بسبب كبره وعناده، ولذا كان كفر أغلب الأمم بسبب الإباء والاستكبار، عرفوا صدق الرسل، وأن ما جاءوا به حقاً ولكنهم لم يؤمنوا بهم تكبراً واستنكافاً أن يتبعوا بشراً مثلهم (11).

وإنَّ ما تعرض له نوح عليه السلام أمر عظيم من مكر الكافرين به، قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [نوح: 22]، وقد كان المكر صفة بارزة في قوم نوح واستخدم الملأ من قومه كافة وسائل وأساليب المكر لصد الناس عن دعوة التوحيد والاستجابة لعبادة الله، وآثروا الشبهات والاتهامات الباطلة ووضعوا العوائق والعراقيل أمام دعوته، وقد بينا ذلك في الصفحات السابقة.

لقد دبروا الحيل، ونصبوا الحبائل ليمكروا بنوح عليه السلام، فأبطلها الله وجعلها سبيلاً لهلاكهم، وأخذُ الماكرين بعقاب الله سنةٌ إلهية ثابتة مطردة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (12)، إذ قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام: 123].

ويبين في آية أخرى مصير هؤلاء الكافرين الماكرين، قال تعالى: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النحل 26].

 

المصادر والمراجع:

1. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 421.

2. الاسترواح: التشمم، انظر في: ابن منظور، لسان العرب، مادة (روح)، 3/ 1765.

3. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2010م، 3/363.

4. سعيد محمد بابا سيلا، أسباب هلاك الأمم السالفة، ص 157.

5. سيلا، المرجع نفسه، ص157.

6. صحيح مسلم، رقم 147.

7. الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 29/72. سعيد سيلا، أسباب هلاك الأمم، ص 165.

8. تفسير النسفي، ( 3/592). وانظر: سعيد محمد بابا سيلا، المرجع السابق، ص 165.

9. سعيد سيلا، أسباب هلاك الأمم السالفة، ص 166.

10. صحيح مسلم، رقم 149.

11. سيلا، المرجع السابق، ص 162.

12. شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب، السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، 2/332.

13. علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، دار ابن كثير.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022