الأحد

1447-05-25

|

2025-11-16

بسم الله الرحمن الرحيم

العقل الاِستراتيجي في سوريا الجديدة: "فقه السياسة الشرعية وفكّ الاِشتباك مع مسائل العقيدة"

بقلم: د.علي محمَّد محمد الصلَّابي


التاريخ:  25 جمادى الأولى 1445ه/ 16 نوفمبر 2025م


تواجه الساحة السورية في الوقت الراهن تحدّيات مركّبة، تتداخل فيها الأبعاد السياسية والعسكرية والاجتماعية والدينية، وتنعكس آثارها على الوعي الجمعي، وعلى البنية الحركية والفكرية لمختلف القوى الفاعلة. وقد أفرز هذا التعقيد ظاهرةً لافتة تتمثل في الخلط بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد، بحيث باتت القرارات الإدارية والسياسية محلَّ تجاذبٍ عقدي، وغدت الأحكام الدينية تُسقَط على مواقف سياسية متغيّرة بطبيعتها، وهو ما قد يؤدي إلى تمزيق الصف، وإضعاف القدرة على إدارة الشأن العام، والعجز عن الوصول إلى خيارات وطنية جامعة.

أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى تبنّي إطارٍ معرفي يحقّق التوازن بين الثوابت والمتغيّرات، ويرسم حدودًا واضحة بين ما هو من صلب العقيدة وما هو من دائرة الاجتهاد السياسي، ويمنح الفاعلين القدرة على اتخاذ القرار في ضوء فهمٍ واعٍ للمصلحة والمفسدة والمآل. وهذا الإطار هو ما نُطلق عليه في هذه الورقة: العقل الاستراتيجي.

العقل الاستراتيجي – كما تتبنّاه هذه الورقة – هو القدرة المنهجية على قراءة الواقع قراءةً شاملةً واعية، واِستخلاص اتجاهاته وفرصه ومخاطره، ثم بناء خياراتٍ وسياساتٍ بعيدة المدى تُحقّق أعظم المصالح وتدرأ أكبر المفاسد، وفق أصول الشريعة وقواعد الاجتهاد، مع مراعاة سنن الاجتماع وقوانين السياسة. فهو عقلٌ يوازن بين المبادئ والمصالح دون تفريطٍ في الثوابت، ويميّز بين العقدي والسياسي دون خلطٍ أو تعسّف، وينظر إلى الأحداث من زاوية مآلاتها لا من زاوية لحظيّتها.

وتهدف هذه الورقة إلى فكّ الاشتباك بين مجالي السياسة الشرعية والعقيدة، وتحرير مواضع الخلاف بين الفاعلين، وبيان الأسس الشرعية والمنهجية التي تُبقي مسائل الاعتقاد في مقامها الرفيع، وتضع العمل السياسي في إطار الاجتهاد الذي يسع الخلاف ويستوعب التعدّد. وكما تسعى إلى تقديم نماذج تاريخية وشرعية تبرز طبيعة العلاقة بين الثوابت والمتغيّرات، وتُظهر كيف تعاملت التجارب الإسلامية مع الواقع بتدرّجٍ ومرونةٍ منضبطة.

إنّ الوعي الاستراتيجي – كما تقدّمه هذه الورقة – ليس دعوةً إلى واقعيةٍ منفلتة، ولا إلى تشدّدٍ عقدي، بل هو محاولةٌ لبناء عقلٍ جامع يستوعب تعقيدات المشهد السوري، ويحافظ على أصول الدين، ويمنح الفاعلين القدرة على اتخاذ القرار المصلحي الرشيد، دون تجاوزٍ للثوابت ولا تعطيلٍ للسياسة.

وبذلك، تقدّم هذه الورقة إطاراً فكرياً وعملياً يمكن أن يسهم في إعادة ترتيب أولويات العمل السوري، وتخفيف حدّة التوتر بين أبناء الشعب الواحد، وتعزيز القدرة على بناء مشروع وطنيٍّ جامعٍ منضبطٍ بأحكام الشريعة وسنن الاجتماع.


أولاً: العقل الاستراتيجي في سوريا وأهدافه الكبرى في المرحلة الراهنة

لا شكّ أنّ كثيراً من المتابعين راهنوا على عجز القيادة السوريّة عن تحقيق نجاحات معتبرة لصالح شعبها ودولتها، التي ورثتها مثقلةً بإرثٍ كبير من الفساد والانهيار على مختلف المستويات. ويأتي هذا الحديث في سياق تقييم الأداء السياسي في ميزان السياسة الشرعية، المبنيّة على فكّ الاشتباك بين مسائل السِّلم والمصالح والتوازنات الإقليميّة والدوليّة، وبين الأصول والمعتقدات الشرعيّة.

وإنّ العقل الاستراتيجي في سياقه السوري الراهن ينهض بأهداف كبرى في مسيرته الحاليّة، ولعل من أبرزها:

تحقيق وحدة البلاد.
إضعاف القوى الانفصاليّة أو القضاء عليها.
تحسين الوضع الاقتصادي للناس، وتشغيل عجلة الاقتصاد، وتوفير فُرَص العمل.
إقامة العدل بين الناس.
إنجاز مصالحة وطنيّة قائمة على العدل والرحمة مع الحزم.
إعادة هيبة الدولة وسيادتها.
الإسهام في الإصلاح النفسي والاجتماعي والثقافي.
القضاء على الحركات التي عاثت في البلاد فسادًا في أموال الناس وأعراضهم وممتلكاتهم.
فهم مصالح الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين وغيرها، واستيعاب تقاطعات هذه المصالح داخل سوريا وفي محيطها.
إغلاق الباب أمام أيّ مشروع خارجي لا يخدم مصالح الشعب والدولة.
بناء تواصلٍ إيجابي مع الأصدقاء والخصوم وسائر القوى المؤثّرة في الملف السوري.
السعي الدؤوب للخروج من الحصار الاقتصادي القاتل، ومن حالة العزلة السياسيّة الخانقة.
وتُعرَّف السياسة الشرعية بأنّها قيادة المجتمعات نحو تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وما ذُكر آنفًا هو بعضٌ ممّا تسعى القيادة السوريّة إلى تحقيقه، ممّا يعبّر عن جملةٍ من المقاصد الشرعيّة والأحكام المنوط بالحُكّام إنجازُها لشعوبهم.

وقد أسهم رفعُ جزءٍ من العقوبات عن سوريا في تخفيف المعاناة عن الشعب، وكان ذلك ثمرةَ تلاقي مصالح القيادة الجديدة مع قوى إقليميّة محبّة لسوريا وشعبها، وقد نجحت القيادة وفريقها في استثمار ما تهيّأ من فرص لصالح بلادهم.

إنّ فقه الدولة قائمٌ على مراعاة التوازنات، ودرء المفاسد وجلب المصالح، واختيار التحالفات الإقليميّة والدوليّة بما يحقّق الخير للشعب والدولة. وفي هذا السياق يُعدّ التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش مصلحةً كبرى للدولة الناشئة وشعبها؛ إذ مثّل انتقالًا من موقع الضعف والتهميش والاحتلال السابق إلى موقع التعامل مع هذا الحلف من منطلق السيادة، في مواجهة عدوّ خاضت الثورة السوريّة ضدّه حروبًا طاحنة قبل ميلاد هذا التحالف.

ويُعدّ التصدّي لتنظيم داعش ضرورةً من ضرورات الأمن القومي لسوريا والعالم العربي والإسلامي، قبل أن يكون مطلباً دوليّاً خارجيّاً؛ فهؤلاء المجرمون قتلوا وسفكوا الدماء، وهتكوا الأعراض، واعتدوا على أموال الناس، وذاق الأبرياء من أبناء شعوبنا الويلات في العراق وليبيا وسوريا وغيرها.

لقد توحّدت فصائل من قوى الثورة السوريّة في جبهة متماسكة (بفضل الله تعلى)، وخاضت معارك بطوليّة وتاريخيّة ضدّ هذا التنظيم الإجراميّ المشبوه منذ سنوات طويلة، وهو أمرٌ يعرفه القاصي والداني. ولا يزال هذا الخطر يشكّل تهديداً استراتيجيّاً للدولة والشعب، كما يمثّل منفذاً من منافذ الشرّ لأعداء سوريا وأجهزتهم الاستخباراتيّة. ومن ثمّ فإنّ التحالف مع دولٍ تملك إمكانيّات ووسائل حديثة يُعدّ مصلحةً واضحة، لا يُنكرها إلا متغافل أو جاهل أو من في قلبه عداوةٌ مستحكمة للقيادة السوريّة وشعبها ودولتها.

ويُعدّ هذا التحدّي من أكبر التحدّيات التي تَفرض على القيادة التصدّي له بجميع الوسائل الشرعيّة المتاحة، على المستويات المحليّة والإقليميّة والدوليّة.

إنّ حكومة الرئيس أحمد الشرع ورثت بلداً ممزقاً مدمَّراً، كان النظام الطائفي قد عمل على إفساده وفق رؤية تدميريّة استراتيجيّة، حتى أصبح فاقداً لقدرته على ممارسة سيادته، ومُحتلّاً فعليّاً بنفوذٍ إيرانيّ وروسيّ فيما سبق.

إنّ ما تقوم به سوريا وفق العقل الاستراتيجيّ الحالي يندرج في إطار الممارسة السياسيّة الشرعيّة الحذرة، القائمة على دفع المفاسد وجلب المصالح، مع مراعاة حسابات الدولة الوليدة المحاطة بألغامٍ محليّة وإقليميّة ودوليّة. وقد خضعت هذه الممارسة لظروف استثنائيّة، وإمكانات محدودة، وتوازنات دقيقة مع حلفاء إقليميين مساندين (تركيا والسعودية وقطر…) وغيرهم، غير أنّ هؤلاء يُعَدّون الأبرز، وقد يسّر الله على أيديهم تجاوز كثير من الصعاب.

إنّ السيرة النبويّة الشريفة زاخرةٌ بالفقه السياسي الخاضع لمبدأ التدرّج والمرونة والتفاوض واقتناص الفرص، في إطار عقليّة مسدَّدة بالوحي، كما في صلح الحديبية، والمفاوضات مع غطفان في غزوة الأحزاب، وغير ذلك من الوقائع الكثيرة.

كما أنّ القرآن الكريم أولى عنايةً خاصة بالمآلات والنتائج في قصص الأنبياء واجتهاداتهم، ومن أبرزها قصّة النبيّ الوزير الذي عمل مع ملكٍ كافر، وفي ظلّ نظامٍ بعيدٍ كلَّ البعد عن شريعة السماء، ومع ذلك سعى إلى دفع المفاسد عن شعب مصر والشعوب التي حولها، مع أنهم لم يكونوا على عقيدة التوحيد ولا على شريعة منزّلة.

وحين انتقل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة الدولة، أسّس فقهًا عميقًا في فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد، تجلّى في وثيقة المدينة، وفي سيرته في الجهاد والسِّلم والتحالفات.

إنّ القيادة السياسيّة الحكيمة هي التي تُولي اهتمامًا بالنتائج التي تعود على شعبها ودولتها بالأمن والاستقرار، وتعمل على حلّ الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وتحرص على تطوير «عقل الدولة الاستراتيجيّ» وإخراجه من مرحلة الثورة والمقاومة إلى مرحلة إدارة الدولة والمواطنين، بروحٍ من المقاربات والاجتهادات والموازنات التي تجمع بين الثوابت والمتغيّرات.

وهي قيادة تُدرك درجات دفع المفاسد ومراتب جلب المصالح في إطار فقه السياسة الشرعيّة البعيد عن منطق الأبيض والأسود؛ إذ إنّ الله خلق البشر مختلفين ألواناً وتنوّعاً، ولأنّ الدولة الناشئة تسعى إلى استعادة دورها التاريخي والحضاري، فإنّ من أولويّاتها السعي الجاد لإبعاد سوريا عن أتون الحرب المدمّرة، ولملمة جراحها الجسديّة والنفسيّة، ومعالجة أزماتها المتعدّدة بما يعود بالخير على الإنسان السوري ودولته. وهذا كلّه يعبّر عن عقلٍ استراتيجيّ في القيادة السوريّة، وهو عين الحكمة، وينسجم مع المقاصد الشرعيّة الواضحة التي تفرّق بين فقه الاستضعاف وفقه القوّة.

وإنّ هذا الموضوع في حقيقته يحتاج إلى دراسة موسّعة، وربما إلى كتابٍ مستقلّ، يعالج الإشكال المتعلّق بفكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد على نحوٍ أعمق وأشمل.

 

ثانياً: أمثلة من القرآن والسنة على منهج فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقائدية

توضح تجارب الأنبياء والرسل والرسل من بعدهم أن السياسة الشرعية لا تتعارض مع الثوابت العقدية، بل يمكن توظيفها لتحقيق مصالح الأمة ودرء المفاسد، مع الحفاظ على الدين والمبادئ. ومن أبرز هذه التجارب ما عاشه يوسف عليه السلام في وزارة مصر، حيث أدرك كيفية إدارة الدولة وتنظيم شؤون الناس بما يخدم مصالحهم دون الإخلال بعقيدته، وماذا في صلح الحديبية الذي أبرمه النبي ﷺ مع قريش، حيث تم التوازن بين الثوابت الدينية والمصلحة العامة للأمة، فتجاوز بعض التفاصيل الشكلية لتحقيق غاية استراتيجية كبرى.

وتعد هذه الأمثلة القرآنية والسنّية بمثابة نماذج حية لفهم منهج فك الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل العقائد، بما يتيح استنباط الضوابط الاجتهادية للتعامل مع الواقع السياسي المعاصر.

1- فك الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية في دعوة يوسف الصديق (عليه السلام):

إنّ العلاقة بين المسلمين والمشركين في قصّة يوسف (عليه السلام) كانت واضحة في ثوابته، ودعوته إلى التوحيد في السجن السّياسيّ لدولة الهكسوس: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ۝٣٩ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ  إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ  أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ  ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ۝٤٠﴾ [يوسف: 39-40].

ومع وضوح هذه الثوابت التوحيدية، قدّم يوسف عليه السلام للقيادة المشركة رؤيةً إستراتيجية أنقذت شعب مصر وما حولها من مجاعةٍ محقَّقة، ولم يشترط في ذلك مالاً ولا حتى الخروج من السجن، إذ كان الأمر يتعلّق بحياة شعبٍ كامل، ولا يجوز أن تطغى المصالح الشخصيّة على القضايا التي تمسّ المصالح العامة.

فقد قدّم للملك الكافر والقيادة المشركة تقريراً وافياً لمنع الكارثة الاقتصاديّة من الوقوع، وفسّر لهم الرؤيا، وبادر بوضع خطّة عملٍ لمواجهة سنوات القحط والجفاف، وخطّةٍ اقتصاديّةٍ متكاملة تتناول الحياة الزراعيّة والتنمويّة للأمة خلال خمس عشرة سنة مقبلة، وقدم نصحه وإرشاده وخبرته وعلمه في شؤون الزراعة والادخار والتموين.

قدّم يوسف عليه السلام مشورته وخبرته لمن احتاج إليها قبل أن يُطلب منه ذلك، وقدمها لمن أساؤوا إليه وظلموه وألقَوه في السجن بسبب عفّته وأمانته؛ قدّمها لهم وهو لا يزال في سجنهم، قبل أن يُخرجوه منه. وهذا مثالٌ واضح على السعي إلى دفع المفاسد وجلب المصالح وفق فقهِ فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد؛ فلم يقل: هذه دولة كافرة وحاكمها وشعبها كذلك، وبالتالي لا يجوز التعاون معها فيما يحقّق المصالح ويدفع المفاسد عن بني الإنسان.

ولمّا رأى الملك أنّ مصلحة بلاده وشعبه، وسبيل الخروج من الأزمات الاقتصاديّة القادمة، أن يُعيِّن يوسف وزيرًا في الدولة لما يتحلّى به من صفاتٍ قياديّةٍ وأخلاقيّة، ومعرفةٍ إداريّةٍ واقتصاديّة تؤهّله لإنقاذ البلاد والعباد، قال له: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54].

فلم يتردّد يوسف عليه السلام في العمل مع هذا الملك، وفي إطار دولة تحكم بالقوانين الوضعيّة، بل حرص على دفع المفاسد وجلب المصالح، والتكيّف مع الوضع القائم بما يحقّق رسالة التوحيد وإفراد الله بالعبادة، من خلال التعاون المثمر، فقال: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ۝٥٥﴾ [يوسف: 55].

لقد أراد يوسف عليه السلام أن يقوم بعملٍ كبير ويتحمّل مسؤوليته، فَرَشَّح نفسه لأخطر المناصب وأعلاها شأنًا، وأشقّها عملاً وجهداً ودأباً وسهراً، وأكثرها نفعاً لعامة الناس وضعفائهم وفقرائهم؛ منصبٍ يتكفّل بإطعام شعوبٍ جائعة في أزماتٍ اقتصاديّةٍ خانقة، وهي تبعةٌ كبيرة ومسؤوليّة جسيمة يهرب منها كثير من الرجال؛ لأنّها قد تكلّفهم رؤوسهم.

ومع ذلك لم يتنازل يوسف عليه السلام عن عقيدته، ولا عن الدعوة إليها، ولا عن تاريخ آبائه وأجداده، ولا عن أخلاقه وعبادته لربّه، بل عاش بين القوم بدينه ونوره في وسط ظلام الشرك والكفر، وساهم في دفع المفاسد وجلب المصالح لتلك الدولة ولشعبها. فهذا نموذجٌ رفيع في فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد.

فكيف بمن يعمل اليوم على دفع المفاسد وجلب المصالح لشعبه في منظومة دوليّة وإقليميّة بالغة التعقيد، مع محافظته على سَمْته وهويّته وتاريخه وحضارته ودينه، سعياً لبيان حقيقة الإسلام وأهله الذين تعرّضوا للتشويه وإلصاق الأكاذيب والافتراءات عبر مسيرة طويلة من أجهزةٍ شريرة؟

وقد سمّى الله عز وجل ما حدث ليوسف عليه السلام من تولّيه الوزارة تمكيناً، فقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ۝٥٦﴾ [يوسف: 56].

إنّ الاقتداء بيوسف عليه السلام في فقه فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد فقهٌ عزيز، وليتها روحٌ تسري في ثقافة رجال الدولة الذين يحرصون على دينهم وعقيدتهم، ويملكون في الوقت نفسه القدرة على قيادة الشعوب، وتوظيف أدوات الدولة لخدمة الصالح العام.

2- فك الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية في صلح الحديبية

يُعَدّ صلح الحديبية من أغزر النماذج النبوية في فقه السياسة الشرعية، وقد أفاض الفقهاء في بيان دلالاته ومراميه. يقول الإمام النووي – رحمه الله – في شرحه لحديث صلح الحديبية:

"وفيه: أنَّ للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين، وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي، وفيه احتمال المفسدة اليسيرة لدفع مفسدة أعظم منها، أو لتحصيل مصلحة أعظم منها إذا لم يمكن ذلك إلّا بذلك".

إنّ باب المعاهدات في الفقه الإسلامي بابٌ عظيم الشأن، وفقهه واسع ومتجذّر. وإنّ السعي لسدّ الذرائع التي تتذرّع بها الدول المعادية لإيجاد مبرّرٍ أمام العالم لممارساتها الوحشيّة ضدّ المسلمين أمرٌ في غاية الأهميّة؛ إذ إنّ هذه الدول تتحيّن أيّ فرصة مناسبة للهيمنة والسيطرة على الثروات، وتمزيق الأوطان، وتدمير مؤسسات الدولة الحيويّة. فإذا لم تملك الدولة من القوّة ما يردّ العدوان، فإنّ عليها أن تتجنّب كل ما من شأنه أن يقدّم مبرّرًا للاحتلال أو لقتالٍ غير متكافئ، وأن تسعى إلى عقد معاهداتٍ مشروعةٍ يكون نفعها أكبر من ضررها، لقطع الطريق على مخاطر أكبر ومفاسد أعظم، مع وجوب العمل الدائم على تقوية الدولة ومؤسساتها.

لقد صالح النبي ﷺ سهيلَ بن عمرو ممثّل قريش في الحديبية على وضع القتال عشر سنين، بعد أن كانت الحرب قاب قوسين أو أدنى؛ فقد تهيّأ المسلمون وبايعوا رسول الله ﷺ تحت الشجرة على القتال حتى الموت، حين صدّهم المشركون عن المسجد الحرام لأداء العمرة، وشاع بينهم أنّ مبعوث رسول الله ﷺ عثمان رضي الله عنه قُتل. غير أنّ المفاوضات سارت في مسار الحكمة وبُعد النظر، وإعمال العقل في مآلات الأمور؛ فتمّ الصلح، وعُقدت الهدنة لعشر سنوات يتوقّف فيها الطرفان عن سفك الدماء.

وقد تضمّنت هذه الاتفاقية شروطًا كان ظاهرها مجحفًا بحقّ المسلمين، حتى أنكَرها بعضُ كبار الصحابة ممّن عُرفوا بقوّة الغَيرة والصلابة في الحق، كعمر بن الخطّاب رضي الله عنه. غير أنّ رسول الله ﷺ – بحكمته، ونور بصيرته، وثاقب فكره، وبُعد نظره، وقبل ذلك وبعده بتأييد الله تعالى له – رأى في هذه المعاهدة تحقيقًا للمصالح ودفعًا للمفاسد لدولته ولدعوته وللمسلمين عموماً.

وقد نزل بسبب هذا الصلح صدر سورة الفتح، فظهر كيف غلّبت السياسة النبويّة الحكيمة ميزانَ المآلات والنتائج على ظرف اللحظة الراهنة، وقدّمت ميزان العقل على مجرّد الانفعال العاطفي، وفقه الصلح على منطق اندلاع الحرب.

وقد حقّق رسول الله ﷺ من خلال هذا الصلح مكاسبَ عظيمة؛ فتحالف مع قبائل جديدة، وانطلق بدعوة الإسلام بين الناس بقدر أكبر من الحرّية، وتفرّغ لجبهات أخرى من أعدائه، وحيّد قوّة معتبرة في الجزيرة، واشتغل بالبناء السياسي والاقتصادي والعسكري والقِيَمي، بما مهّد الطريق لاحقًا لفتح مكة.

إنّ صلح الحديبية يمدّ القادة السياسيّين بتجربة ثريّة في باب السياسة الشرعيّة القائمة على مبدأ تحقيق المصلحة ومنع المفسدة. وإذا تعارضت المصالح بعضها مع بعض، أو المفاسد فيما بينها، أو تعارضت المصالح والمفاسد معًا؛ كان الواجب إعمال فقه الموازنات بينها.

ويقوم فقه الموازنات على جملةٍ من المعايير التي يجب مراعاتها، من أبرزها:

تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما.
ارتكاب أخفّ الضررين لدفع أشدّهما.
تحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
اعتبار درء المفسدة مقدّمًا على جلب المصلحة.
التضحية بالمصلحة الشكليّة من أجل المصلحة الجوهريّة، وبالمصلحة الطارئة لتحصيل المصلحة الدائمة، وبالمصلحة التي تخصّ عدداً محدوداً من الناس من أجل المصلحة التي تعود على جمهورٍ أوسع.
ولهذا رأينا رسول الله ﷺ يقبل بعض مطالب المشركين؛ فقبل أن تُكتب في صدر الوثيقة عبارة: «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» بدل «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وقَبِل أن تُحذف كلمة «رسول الله» ويُكتب بدلها «محمد بن عبد الله». وبهذا علّم الأمّةَ كيف توازن وتقود المفاوضات، وتقدّم جوهر المصلحة على ظاهر العبارات.

وقد ذهب الإمام ابن القيم – رحمه الله – إلى أنّ مصالحة المشركين على بعض ما فيه ضيمٌ على المسلمين جائزةٌ للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شرّ منه؛ ففيها دفعٌ لأعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، كما ذكر ذلك في كتابه زاد المعاد. وقد بُحثت في صلح الحديبية فوائدُ فقهيّةٌ كثيرة، والحديث عنها يطول، ويمكن الرجوع إلى مصادرها ومراجعها لمن أراد التوسّع.

 

ثالثاً: قادة بلاد الشام والمعاهدات مع الأعداء بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية

لقد واجه قادة بلاد الشام على مر التاريخ تحديات كبيرة تتعلق بإدارة الدولة، وحماية الأمة، وتحقيق مصالح المسلمين، في ظل تهديدات خارجية مستمرة، سواء من القوى الصليبية، أو البيزنطية، أو غيرها من القوى الإقليمية. وكان من أبرز الأسئلة التي يواجهها القائد المسلم: كيف يمكن عقد المعاهدات والصلوح مع الأعداء دون إخلال بالعقيدة، أو التفريط في حقوق المسلمين، مع تحقيق المصلحة العامة ودرء المفاسد الكبرى؟

فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية في تجربة الملك العادل نور الدين زنكي (رحمه الله)
تُعَدُّ سيرة الملك العادل نور الدين زنكي من السير الملهمة في مجالي العمل الجهادي والسياسي معاً. فقد كادت دولة نور الدين أن تسقط أمام تحالف الحشود الصليبية التي كانت تقودها مملكة بيت المقدس، ومعها الإمبراطورية البيزنطية بقيادة الإمبراطور مانويل. وبدأت هذه الحشود تزحف باتجاه مملكة نور الدين، مما أثار مخاوفه، فكتب إلى ولاة الأعمال وقادة المعاقل يُعلِمهم بما وقع من تحرك الروم، ويحثّهم على التيقّظ والتأهّب للجهاد، والاستعداد للنكاية بمن يُظفر بهم من الأعداء. ومن ثم توجّه إلى حلب والمناطق التابعة لدولته لشحذ الهمم وبثّ الطمأنينة في نفوس السكان.

وفي الوقت نفسه، بدأت رُسُل نور الدين تتردد على معسكر الإمبراطور في عملٍ دبلوماسيٍّ وسياسيٍّ كبير، مع الاستعداد الجادّ للحرب. وتواصل قدوم الأمراء وولاة الأعمال بجنودهم، ومع هذه الكثرة العددية، إلا أنّ نور الدين استهدف زعزعةَ التحالف البيزنطي مع مملكة بيت المقدس وأنطاكية ضده، حتى لا يجد نفسه بين عدوّين: الصليبيين في الجنوب، والبيزنطيين في الشمال. وقد استطاعت الدبلوماسية النورية أن تصل إلى صلحٍ مع الدولة البيزنطية، مع العلم أنّ البيزنطيين كانت لهم خبرةٌ طويلة في مجال الدبلوماسية، وكذلك الدولة النورية التي نسجت علاقات دبلوماسية مع العباسيين، والفاطميين، ومملكة بيت المقدس الصليبية؛ أي مع معظم القوى الكبرى في المنطقة، سواء الإسلامية أو المسيحية.

والملاحظة المهمّة في فقه نور الدين السياسي هي مثابرته في المفاوضات مع استعدادٍ عسكريٍّ كبير؛ حشدٌ للجيوش، واستعدادٌ للقتال، واستنفارٌ للأمة للتصدّي. وقد تخلّل الاتصالات الدبلوماسية تبادلٌ للهدايا ومحاولاتٌ لتوطيد الصلات السياسية بين حلب والقسطنطينية. ومهما يكن من أمر، فإن الاتفاق بين الطرفين تضمّن ما يلي:

إطلاق نور الدين محمود سراح ستة آلاف من الأسرى النصارى الذين كانوا في سجونه منذ الحرب الصليبية الثانية.
تعهّد الملك نور الدين زنكي بمساندة مانويل في حروبه ضدّ سلاجقة الروم.
وقد اتفقت المصادر العربية والبيزنطية والصليبية على هذا الشرط الثاني. وفرح المسلمون بهذا الاتفاق برحيل الإمبراطور بعد الصلح إلى بلاده، من غير أن يؤذي أحدًا من المسلمين. وقد ترتّبت على هذه المصالحة نتائج إيجابية عديدة، ومن أهمها:

إنهاء التحالف البيزنطي - الصليبي، بحيث أصبح على الصليبيين أن يعتمدوا على أنفسهم أو على الدعم الأوروبي في صراعهم مع الزنكيين.
حفظ وحدة الشام، وهي تُعدّ الأساس المهم لأي وحدة لاحقة بينها وبين مصر.
إعادة التوازن بين الصليبيين والزنكيين بخروج البيزنطيين من الساحة، ومن ثم عاد التنافس بين الطرفين على السيطرة على مصر في سياقٍ أكثر توازناً.
لقد استطاعت المهارة السياسية النورية أن تدقَّ إسفيناً بين التحالف البيزنطي والصليبي، ولم يكن ذلك بلا ثمن؛ بل تحقّق عبر تنازلاتٍ غير يسيرة. فقد اتّخذ نور الدين خطوة لا يمكن تقييمها إلا بوصفها من القرارات المصيرية الصعبة؛ إذ كان يدرك عداء البيزنطيين لسلاجقة الروم، ويقدّر أن معركته الحالية والمرحلية هي ضد الصليبيين لا ضد البيزنطيين، فوازن بين احتمال إفشال مشاريعه على يد الحملة الصليبية - البيزنطية المشتركة، وبين الوقوف في صفّ سلاجقة الروم. فاختار الخيار الثاني، وتفاهم مع الإمبراطور البيزنطي ضد السلاجقة، فقبل الإمبراطور، وانسحب من الحلف الصليبي، فتوقفت الحملة وزال الخطر المباشر.

ومن أعظم النتائج التي ترتّبت على هذه الخطوة أنّ سلاجقة الروم جرى عمليّاً استبعادهم من الصراع الدائر في المشرق؛ إذ إنّ الإمبراطور البيزنطي سرعان ما قاد حملة ضدهم، وتعرّض قلج أرسلان الثاني لضغطٍ ثلاثي من ياغي أرسلان الدانشمندي، والزنكيين، والدولة البيزنطية. ولما لم يكن بمقدوره أن يحارب على جميع الجبهات، مال إلى السِّلم، وبدأ بالجانب الإسلامي؛ فتمّ الصلح أولًا بينه وبين نور الدين محمود.

وقد أحسن نور الدين في أدائه السياسي مع مانويل؛ إذ تمثّل دهاؤه السياسي في عدم إثارته الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية، واتجاهه لعقد اتفاقٍ سلميٍّ معها، تفادياً لتحالفٍ صليبي–بيزنطي ضده، قد يفضي إلى خسائر فادحة للطرفين. ولا شكّ أنه استثمر خبرة دولته الدبلوماسية في إدارة تلك المفاوضات، واستطاع تحجيم خطر الإمبراطورية البيزنطية عبر الاتصالات الدبلوماسية، وقد ساند هذا النجاح السياسيَّ الكبيرَ وجودُ قوّةٍ عسكرية ضاربة لدى الدولة النورية.

كان الملك نور الدين زنكي – رحمه الله – على عقيدةٍ صحيحة، وتديّنٍ سليم، وحرصٍ ظاهر على تحكيم الشريعة. وقد ظهرت آثار ذلك في عهده تمكينًا وأمناً واستقراراً، ونصراً وفتحاً مبيناً، وعزّاً وشرفاً، وبركةً في العيش، ورَغَداً في الحياة، وانتشاراً للفضائل وانزواءً للرذائل.

قال عنه ابن الأثير: "قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين من قبل الإسلام، ومنه إلى يومنا هذا، فلم أرَ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سيرةً من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرّياً للعدل والإنصاف منه، قد قصَر ليله ونهاره على عدلٍ ينشره، وجهادٍ يتجهّز له، ومَظلِمةٍ يزيلها، وعبادةٍ يقوم بها، وإحسانٍ يوليه، وإنعامٍ يُسْدِيه".

ولا شكّ أنّ سيرته تُعين على فهم منهج فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل العقيدة في الواقع العملي؛ إذ تجمع بين سلامة المعتقد ورسوخ التديّن من جهة، وبين براعة الإدارة السياسية والعسكرية من جهة أخرى.

ومن أراد التوسّع في ذلك، فليراجع مثلاً كتابات: عصر الدولة الزنكيّة، ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي التي كتبتها في سنوات سابقة، بفضل الله وتوفيقه.

فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل العقيدة في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي
من المسلمين لا يعرف صلاح الدين الأيوبي، وهو القائد الكرديّ المجاهد، الذي أجرى الله على يديه الفتح الكبير والنصر التاريخيّ الفذّ في حطّين، وحرّر بيت المقدس من الاحتلال الصليبي الذي استمرّ عقوداً، حيث ذاق فيها المسلمون ألوان القهر والعذاب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض؟

وقد قال فيه العماد الأصفهاني عند وفاته:

مَـنْ في الجِهادِ صِفاحُهُ ما أُغْمِدَتْ

  بالنَّصرِ حتّى أُغْمِدَتْ صَفَحاتُهُ

مَـنْ في صُدورِ الكُفرِ صَدْرُ قَناتِهِ

  حتّى تَوَارَتْ بالصَّفيحِ قَناتُهُ

لَذُّ المتاعِبِ في الجِهادِ، ولَمْ يَزَلْ

  مُذ عاشَ، قَطُّ بالصَّفيحِ قَناتُهُ

مَسْعودَةٌ غَدَواتُهُ، مَحمودَةٌ

  رَوْحاتُهُ، مَيْمونَةٌ ضَحَواتُهُ

في نُصْرَةِ الإسلامِ يَسْهَرُ دائِمًا

  لِيَطولَ في رَفْضِ الجِنانِ سُباتُهُ

وقد سجّلت هذه الأبيات – وغيرها – صورةً ناصعة لتفاني القائد صلاح الدين في خدمة الإسلام، ورفع راية الجهاد، والتصدّي للغزاة. وقد استطاع صلاح الدين، ومعه مستشاروه من كبار القادة والعلماء، أن يقودوا الحرب والسِّلم معًا؛ ففاوضوا وهادنوا حين اقتضت المصلحة الشرعية، وقاتلوا حين وجب القتال. ومحلّ الشاهد هنا ما يتصل بصلح الرَّمْلة مع المحتلّ لأراضي المسلمين.

فقد كانت ردّة فعل الغرب الصليبي على انتصارات صلاح الدين إرسالَ الحملة الصليبية الثالثة، التي عمل قادتها على استرداد بيت المقدس بأيّ ثمن. فوجد الناصر صلاح الدين نفسه في موقفٍ شديد التعقيد. وبعد قتالٍ طويل، لم ينجح ريتشارد قلب الأسد في تحقيق هدفه الرئيس، واضطرّ في النهاية إلى فتح باب المفاوضات مع صلاح الدين. وهكذا كانت الحرب تشتعل، ثم تعود المفاوضات، في دورة متكرّرة؛ وقد تمكن الصليبيون خلال تلك الفترة من السيطرة على يافا وعكّا وجزءٍ لا يُستهان به من بلاد الشام وسواحلها.

ومع اشتداد المرض على ريتشارد، أخذ يرسل الرسل إلى صلاح الدين يطلب الفاكهة والثلج، وقد ذكر المؤرخون أنّه اشتَهى الكمثرى والخوخ، فكان صلاح الدين – بتسامحه وأخلاقه – يمدّه بما يطلبه، على الرغم من أن الحرب بينهما سجال. ومن ثم جَدَّد ريتشارد عرض الصلح على صلاح الدين، مدفوعاً بعدة عوامل، وإن من أبرزها:

أنّ المرض ألمّ به واشتدّ عليه، فتدهورت صحته حتى عجز عن القيادة الفاعلة والتخطيط السليم.
انقطاع النجدات العسكرية القادمة من أوروبا لقوات الحملة الثالثة في الشام.
يأسُ ريتشارد من استرداد بيت المقدس.
وغير ذلك من الأسباب التي فُصِّلتها في كتابي "صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس".

وفي المقابل، لم يستطع ريتشارد أن يحقّق نصراً حاسماً، وبدأت بعض الحصون والمدن – ومنها عكّا – تترنّح، وظهرت علامات السآمة والتعب على عساكره، مع تزايد المخالفات في صفوفهم، في حين كان العدوّ في ازديادٍ عدديٍّ وإمداداته متتابعة، وإمدادات صلاح الدين في نقصان.

كلّ ذلك دفع ريتشارد في النهاية إلى القبول بالصلح؛ فاستمرّت المفاوضات بينه وبين صلاح الدين خمسة عشر شهرًا، واقتضت اثنين وأربعين وفدًا تفاوضيًّا، كانت المفاوضات خلالها تنقطع حينًا وتُستأنف حينًا آخر. وكان البادئ بطلب الصلح في أغلب الأحيان هو ملك الإنجليز ريتشارد قلب الأسد.

وقد مرّت المفاوضات بمراحل متعدّدة، وكانت المرحلة السادسة – وهي الأخيرة – طويلةً ومعقّدة؛ إذ استمرّت قرابة خمسة أشهر. وفي يوم 22 شعبان سنة 588هـ / 2 أيلول (سبتمبر) 1192م حمل رُسُل صلاح الدين العرض النهائي، فقبِله ريتشارد قلب الأسد، ووقّع عليه، وأثبت المندوبون أسماءهم إلى جانب اسمه على المعاهدة التي نصّت على ما يلي:
يكون للصليبيين الشريطُ الساحليّ من صور شمالًا إلى يافا جنوبًا، بما في ذلك: قيسارية، وحيفا، وأرسوف.
تبقى عسقلان في أيدي المسلمين، على أن تُخَرَّب تحصيناتها.
يتقاسم المسلمون والصليبيون كُلًّا من اللُّد والرملة مناصفة.
يحقّ للنصارى زيارة بيت المقدس بحرّية.
للمسلمين والنصارى الحقّ في اجتياز بلاد بعضهم بعضًا بأمان.
مدة المعاهدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
واشترط صلاح الدين إدخال مناطق الحشّاشين في بنود الصلح، بمعنى: أن المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء تُعدّ جزءًا من الأراضي الإسلامية التي شملتها المعاهدة. وفي المقابل اشترط ريتشارد قلب الأسد إدخال كلٍّ من صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس في الصلح.
ولما تمّت الهدنة أذِن صلاح الدين للصليبيين بزيارة بيت المقدس، فاختلط عسكر المسلمين بعسكر الصليبيين، وخرج جماعة من المسلمين إلى يافا للتجارة، كما قَدِم خلقٌ كثير من الصليبيين إلى القدس للحجّ، وأنفذ صلاح الدين لهم الخفراء يحفظونهم، وكان غرضه من ذلك أن يقضوا وطرهم من الزيارة ثم يرجعوا إلى بلادهم آمنين.
نتائج الحملة الصليبية الثالثة وأهمّ الأحداث قبيل وفاة صلاح الدين
من أبرز نتائج الحملة الصليبية الثالثة ..
رحيل ريتشارد قلب الأسد إلى بلاده بعد صلح الرملة انتهت الحملة الصليبية الثالثة؛ إذ لن يتوجّه إلى الشرق الأدنى الإسلامي حشدٌ كهذا من الملوك والأمراء مرةً أخرى. ومع أنّ أوروبا الغربية توحّدت – إلى حدّ كبير – في هذا المسعى، وجهّزت حملة تُعَدّ من أكبر الحملات الصليبية، إلا أنّ النتائج التي تحققت كانت محدودة؛ فالدفاع عن صور على يد كونراد دي مونتفرات، ونجدة طرابلس من قِبَل الأسطول الصقلي، جرى كلاهما قبل وصول معظم أفراد الحملة. أما إسهام قادة الحملة الثالثة فلم يتعدَّ الاستيلاء على عكا وعدد من المدن الساحلية حتى يافا، بالإضافة إلى جزيرة قبرص. وأمّا الهدف الرئيس – وهو استرداد بيت المقدس – فلم يتحقق، بل كان من آثار الحملة توقّفُ نشاط صلاح الدين التوسّعيّ في الفتح.
يعدّ المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ الحروب الصليبية؛ لأنها لم تُحقّق نتائج تتناسب مع الجهد الهائل المبذول فيها، فضلًا عن عجزها عن تحقيق الهدف الأساس الذي قامت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين.
ساهمت الظروف السياسية والعسكرية التي واجهت هذه الحملة في نهايتها الفاشلة؛ إذ ليس في طاقة جيشٍ منقسم القيادة، ممزّق بوَطيس المنازعات السياسية، يقاتل في أرضٍ بعيدةٍ عنه، أن ينتصر على جيوش جمعت بينها وحدة الصفّ والهدف، وانضوت تحت قيادة واحدة قوية مثل صلاح الدين.
من عوامل الفشل كذلك أن ملكي إنكلترا وفرنسا حملا معهما إلى الشرق خلافاتهما السياسية المحلية، رغم تعهّدهما بتجاوزها قبل التحرك من أوروبا الغربية؛ فطغت تلك النزاعات على وحدة القرار العسكري.
اختلف الطابع الروحي للحملة الثالثة عن الأولى؛ إذ قلّ تأثير البابوية في توجيهها مقارنةً بالحملة الصليبية الأولى، وطغى عليها الطابع السياسي بما يحمله من مصالح متناقضة وخلفيات متضاربة.
استمرّ تماسك الجبهة الإسلامية بعد أن اختفت – إلى حدّ كبير – المنازعات الدينية والسياسية، على الرغم من تراجع القوة العسكرية للمسلمين بفعل الإرهاق والتعب؛ فقد اضطرت الجيوش الإسلامية إلى القيام بعمليات عسكرية شبه مستمرة على مدى ثلاث سنوات، في ظروف شديدة الصعوبة. ومع ذلك، ظهرت بعض التشنّجات الداخلية التي سرعان ما امتصّها صلاح الدين بحكمته، ومنها النزاع الذي وقع بين العناصر التركية والعناصر الكردية في جيشه. ولولا رحمة الله، ثمّ حنكة القيادة، لكانت الخسائر فادحة وبصورة غير متصوَّرة. غير أن حسن قيادة صلاح الدين وصمود المسلمين في وجه هذه الحملة الشرسة أربك ملوك أوروبا وأفشل مخططاتهم، ومنعهم من استرجاع بيت المقدس، وهو ما يُعدّ انتصارًا استراتيجيًا كبيرًا لصلاح الدين رغم ما لحق المسلمين من خسائر.
تميّزت هذه الحملة الصليبية بقدرٍ ملحوظ من التفاهم والاحتكاك المباشر مع المسلمين؛ فوثقت الصلة بين الطرفين، وتجاوزت جانب القتال إلى طرح مشاريع للمعاهدات، وتبادل الهدايا، وإرسال الفواكه والثلج لريتشارد قلب الأسد في مرضه، بل وقيام طبيب صلاح الدين الخاص بمداواته.
وقد ترتّب على هذا الاختلاط والاحتكاك آثارٌ حضارية مهمّة في اللاتين المتواجدين في بلاد الشام وفي الغرب الأوروبي، وإن من أبرزها:

نقلهم عن المسلمين كثيرًا من العلوم والمعارف التي كانت سائدة في العالم الإسلامي آنذاك؛ وقد ألّفوا فيها كتبًا احتوت على قدرٍ من التجديد والابتكار، ووُضعت فيها قوانين ونظريات جديدة.
نقلهم عن المسلمين عددًا من الصناعات والفنون، مثل صناعة النسيج والصباغة، والمينا، والمعادن، والزجاج، فضلًا عن فن العمارة. وكان لهذا النقل أثرٌ عميق في تطوّر الحياة الصناعية والتجارية والفنية في أوروبا. يقول غوستاف لوبون: إن تأثير الحروب الصليبية في الصناعة والفنون لم يكن أقلّ من تأثيرها في سائر نواحي الحياة؛ فبفضلها أخذت أوروبا عن المسلمين صناعة النسائج الحريرية والصباغة المتقنة، ولم يلبث فن العمارة أن تحوّل في أوروبا تحولًا تامًا.
تأثرت الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية تأثرًا عميقًا أدّى إلى نموّ الحضارة الأوروبية وازدهارها. ولولا الحروب الصليبية – كما يرى بعض المنصفين – لتأخّر هذا النموّ زمنًا طويلًا. وقد اعترف عدد من المستشرقين المنصفين بهذه الحقيقة قبل أن يقرّرها مؤرخو المسلمين. يقول غوستاف لوبون – في معنى كلامه –: إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة التي أسفرت عنها الحروب الصليبية، تجلّت لنا أهميتها؛ فقد كان اتصال الغرب بالشرق، على مدى قرنين من الزمان، من أقوى العوامل في نموّ الحضارة الأوروبية. وهكذا أدّت الحروب الصليبية إلى نتائج غير تلك التي كان الصليبيون ينشدونها؛ فبينما كان الشرق المسلم يتمتع بحضارة زاهرة، كانت أوروبا غارقة في ظلمات التخلّف.
ذلك ما أفادته أوروبا من الحروب الصليبية؛ فمع خسائرها البشرية والمادية الفادحة، وعجزها عن تحقيق هدفها الرئيس باستعادة بيت المقدس، إلا أنها كسبت – من حيث لا تشعر – مكاسب حضارية كبيرة أسهمت في نهوضها وتسريع نموّها الحضاري.
أمّا المسلمون، فلم يكن لدى الصليبيين ما يمكن أن يُقتدى به في السلوك أو الأخلاق؛ فقد وصفهم عدد من معاصريهم – حتى من بني ملتهم – بأنهم كانوا في كثير من الأحيان كـ«الوحوش الضارية»، ينهبون الأصدقاء والأعداء، ويقتلونهم على حدّ سواء. ويذكر أسقف عكّا الصليبي جاك دو فيتري أنّ ما يُرى من الفرنج في أرض الميعاد إنما هو طوائف من الزنادقة والملحدين واللصوص.
وقد جرت – خلال تلك الحقبة – جولات متعدّدة من التفاوض وعقد الاتفاقات بين المسلمين والفرنج، كان معظمها بطلب من الفرنج أنفسهم، ولم يتردّد الزعماء المسلمون في عقدها؛ لما فيها من مصالح، من قبيل: تحييد بعض الإمارات الصليبية، وتخفيف الضغط العسكري، وتيسير حركة المسلمين بين مصر وبلاد الشام، وتأمين طرق التجارة، وضمان سلامة قوافل الحجاج إلى الحرمين.
وأما الصلح الأخير، وهو صلح الرملة، فقد حُدِّد بثلاث سنوات. ورأى صلاح الدين ومستشاروه أنّ المصلحة تقتضي عقده بسبب سوء الأوضاع الصحية التي ألمّت بجنده، إضافة إلى الإرهاق والتعب الشديد الذي أصابهم. فاعتبروه فرصة للاستعداد لجولات ومعارك قادمة. يقول ابن شداد: "ورأى السلطان في ذلك مصلحة؛ لما غشي الناس من ضعف، وقلة النفقات، والشوق إلى الأوطان... فرأى أن يجمَّهم مدةً حتى يستريحوا، وينسوا هذه الحالة التي صاروا إليها، ويعمر البلاد، ويشحن القدس بما يقدر عليه من الأسلحة، ويتفرغ لعمارته".
ويذكر ابن شداد كذلك أن صلاح الدين لم يكن راضياً عن هذا الصلح من حيث الأصل، لكنه رأى أن المصلحة الشرعية تقتضي القبول به، لسآمة العسكر، وكثرة المخالفة، وضعف الموارد. ويرى ابن شداد أن الصلح كان في مصلحة المسلمين؛ لأن صلاح الدين توفي بعد عقده بزمنٍ يسير، ولو أن وفاته وقعت أثناء اشتداد المعارك بين المسلمين والفرنج لكان الخطر على الإسلام عظيمًا، وما كان الصلح – في هذه النظرة – إلا توفيقًا وسعادة.
مقتل ريتشارد قلب الأسد:
بعد صلح الرملة أبحر ريتشارد من عكّا عائدًا إلى بلاده، فغرقت سفينته في البحر، ونجا بنفسه حتى بلغ الساحل، ثم توغّل في أرض النمسا متنكّرًا، حتى انكشف أمره في إحدى الحانات بالقرب من مدينة فيينا في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1192م، فاقتيد إلى ليوبولد دوق النمسا، الذي اتّهمه بقتل المركيز كونراد دي مونتفرات، وأراد بيعه، فتقدّم خصومه لشرائه، ثم لم يلبث أن سلّمه إلى هنري السادس إمبراطور الدولة الجرمانية المقدسة. فبقي في أَسره إلى أن دُفعت عنه فديةٌ كبيرة، ثم أُطلِق سراحه في آذار/ مارس 1194م، وظل يقاتل خصومه من الأمراء حتى أصيب ولقى حتفه.

تحصين بيت المقدس، وإصلاح أحوالها بعد الصلح
قال العماد الأصفهاني – في وصف ما قام به صلاح الدين بعد السلم – ما خلاصته: إنّ السلطان عاد بعد الهدنة إلى القدس ليتفقد أحوالها، ويستعرض رجاله فيها، وانشغل بتشييد أسوارها وتحصينها، وتخليد آثاره فيها وتحسينها، وتعميق خنادقها، وتوثيق طرقها، وزاد في أوقاف المدرسة سوقًا بدكاكينها، وأرضًا ببساتينها، ورتّب أحوال الصوفية في رعايتها، وجعل لها وقفًا يكفل كفايتها، وعيّن الكنيسة التي في شارع قمامة للبيمارستان، ونقل إليها العقاقير والأدوية على اختلاف أنواعها وألوانها، وأدار سور القدس على قبة صهيون، وضَمَّها إلى المدينة، وأمر بإجراء الخنادق حول الجميع. ثم صمّم العزم على الحجّ، فلم يوافقه القدر؛ فتأسف على فواته بعد أن هيّأ مقدماته، وأقام شهر رمضان في القدس، وأفاض فيه الإحسان. ومن ثم فوّض ولاية القدس وأعمالها إلى عز الدين جرديك، بعد أن استعفى منها حسام الدين سياروخ، وولّى مملوكه علم الدين قيصر ما دون القدس من الأعمال، كعمل الخليل وغزة والداروم وعسقلان.

 

رابعاً: فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد في تجربة سوريا الجديدة

لا أحد من المحبين لنجاح التغيير الجديد في سوريا يقول إن حكومة أحمد الشرع وقيادته معصومة أو غير قابلة للنقد والنصح، ولا يدّعي أنها لم تقع في أخطاء. حتى الرئيس نفسه وفرق القيادة لا يزعمون ذلك، بل هم حريصون على تجاوز الأخطاء وإصلاح ما يمكن إصلاحه. وأبواب التعبير مفتوحة في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، لكنّنا هنا بصدد بيان فقه الدولة الجديدة والممارسة السياسية، وما تحتويه من فقه الموازنات الدقيقة بين تعدد الطوائف، والتركيبات الاجتماعية والدينية والثقافية الداخلية، وامتداداتها الإقليمية والدولية، وموقع سوريا الاستراتيجي في مواجهة الكيان الغاصب الذي يسعى للهيمنة على دمشق، واستغلال أي ضعف للحكومة الجديدة، بما في ذلك الاعتداءات السابقة على الجيش السوري قبل تولي أحمد الشرع الحكم.

لقد أدركت القيادة في سوريا أن إدارة الدولة ليست بالصراخ، ولا برفع الصوت، ولا بالخطب الرنانة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، بل هي منظومة قوانين معقدة تتداخل فيها المصالح والتحالفات والثقافات. لذلك، اتخذت القيادة خطوات متقدمة في العقل الاستراتيجي السياسي، فتعاملت مع تركيا باعتبارها واقعًا جغرافيًا ووجودًا سياسيًا، وقوة اقتصادية وعسكرية وإقليمية، لتكون من أسباب الاستقرار الداخلي للبلاد بعد الله.

كما أنّ السعودية وقطر دعمتا الحكومة السورية الجديدة لأسباب تاريخية وحضارية وثقافية وسياسية واقتصادية وأمنية، وامتدت علاقاتها مع سوريا عبر الزمن، منذ تأسيس دولة الخلافة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة في قلب الجزيرة العربية. وإن هذه الدول اليوم تمتلك خبرة دبلوماسية عميقة، وعلاقات سياسية واستثمارية، وتشكل شرايين المال وإعادة الإعمار؛ لذلك كان التواصل معها ضرورة استراتيجية، باعتراف القيادة السورية، لضمان المساندة الفعّالة على الأرض.

وهذا جعل النظام السوري الجديد ينضم – سواء طوعًا أو كرهاً – إلى معسكر تركيا والسعودية وقطر وحلفائها. سوريا كانت مدمرة اقتصاديًا وعسكريًا، وفارغة من سكانها، فالملايين من المهجّرين والمغتربين بحاجة إلى ضمانات العودة إلى وطنهم، مع توفير سبل العيش الكريم.

تحركت القيادة السورية وفق مبدأ فن الممكن في السياسة، لتكون جزءًا من تحالف إقليمي ودولي ومحلي ترعاه تركيا والسعودية وقطر، وهم من ساعدوا على لقاءات متكررة للرئيس السوري مع الرئيس الأمريكي، وكانت السعودية سبّاقة في ذلك. كما سعت القيادة للتوازن مع الاتحاد الأوروبي، خصوصًا بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وأظهرت وجهًا حضاريًا ومدنيًا وحقوقيًا، دون أن يتعارض ذلك مع ثوابت الشريعة، مع السعي لمعالجة آثار الماضي الأسود مع روسيا.

كما فتح الرئيس السوري صفحة جديدة من التعاون مع العدو اللدود فلاديمير بوتين، بينما كانت الصين في الحسبان، لكنها لم تحقق تقدمًا ملموسًا مثل الحلفاء السابقين. وإن هذه الخطوات تُظهر كيف يعمل الرئيس أحمد الشرع وفرق قيادته على تجاوز الحقول المزروعة بالألغام وإكراهات السياسة الدولية.

كل هذه المقاصد والمساعي تساهم في لملمة شتات وطن جريح، فيه تيارات متلاطمة وطرق متداخلة، ومخاطر لا تُحصى. فالشريعة الإسلامية فتحت مجالاً واسعًا في فقه السياسة الشرعية، مؤكدةً على الإصلاح التدريجي، وأن الأحكام المتعلقة بالعدل والرحمة والأمن والعمران، وتوحيد الشعب، وتقديم الخدمات التعليمية والصحية والرياضية والثقافية والدينية، جميعها من مقاصد الشريعة القائمة على دفع المفاسد وجلب المصالح للشعوب والدول.

إنّ لله سنناً في حركة المجتمعات، وبناء الدول، والتدافع الحضاري، كالابتلاء، والأخذ بالأسباب، والتدرج في التغيير، وتغيير النفوس، والتمكين، وتحقيق النصر. فعندما تجهل القيادة سنن قيام الدول، تخطئ في تنزيل النصوص، وتفشل في مواجهة التحديات بالعلم والبصيرة والهدى والحكمة ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِي خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269].

إنّ أحمد الشرع اليوم، كرجل دولة، في أشدّ الحاجة إلى فقهاء النهوض الذين كان لهم عبر التاريخ قدرة على فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد، أمثال العلماء الذين رافقوا نور الدين زنكي، أو صلاح الدين الأيوبي، أو محمد الفاتح.

هؤلاء العلماء، وأمثالهم، ينظرون إلى أن مفهوم السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة لا يتعارض مع القيم الإنسانية، ولا مع التعاون الإقليمي والدولي، ولا مع مؤسسات الدولة المعروفة، بل تقوم الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المصالح على المستويات المحلية، والإقليمية، والدولية.

نسأل الله عزّ وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يأخذ بيد الشعب السوري وقيادته إلى شطّ الأمان والاستقرار، وأن يقدّموا نموذجًا حضاريًا متميزًا في الجمع بين الثوابت والمتغيرات، والأصالة والمعاصرة، وأن يحفظهم من كيد الأشرار، ومن الأيدي العابثة، ومن أقلامهم اللعينة وأفكارهم المسمومة وفسادهم العريض.

وهكذا، حاولت هذه الورقة، في حدود ما يسمح به الجهد البشري، أن تضع إطارًا معرفيًا وشرعيًا يساعد على فهم طبيعة العلاقة بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد في السياق السوري المعاصر، وأن يسهم هذا الإطار في إعادة ضبط هذه العلاقة على أساس من العقل الاستراتيجي الذي عرّفناه بوصفه قدرة منهجية واعية على قراءة الواقع، واستشراف مآلاته، وبناء قرارات تراعي أصول الشريعة وقواعد الاجتهاد، وسنن الاجتماع، وقوانين السياسة.

وليس المقصود من هذا الطرح ـ بحال من الأحوال ـ إضعاف شأن العقيدة، أو التقليل من مركزيتها في حياة المسلم، أو صرفها عن مقامها الذي حفظته النصوص وأجمع عليه العلماء، كما لا يراد منه إعطاء غطاء شرعي لأي تنازل عن الثوابت العقدية أو القطعيات الدينية تحت دعوى "فقه الموازنات" أو "المرونة السياسية".

بل المقصود هو ضبط مواضع العقدي بميزانه الشرعي، ووضع السياسي في مساحته الاجتهادية، حتى لا يختلط الأصل بالفرع، ولا تُحمَّل المواقف السياسية ما لم تُحمِّلها الشريعة، ولا يُكَفَّر أو يُتَّهَم مسلم في نيته ودينه بسبب اجتهاد سياسي قابل للأخذ والرد.

كما أنّ ما عرضته الورقة من أمثلة تاريخية أو نماذج شرعية لا يُقصد به القياس الحرفي أو الإسقاط الآلي، وإنما الاستفادة من السنن العامة التي دلّت عليها ممارسات الأنبياء والصالحين في الموازنة بين المبادئ والمصالح، مع الاعتراف التامّ باختلاف السياقات واختلاف الواقع، وعدم جواز تعميم الأحكام دون مراعاة شروطها وضوابطها.

وتؤكد الورقة أن الاجتهاد السياسي، مهما اتسعت دائرته، يظل محكوماً بثلاثة ضوابط لا يجوز تجاوزها:
حفظ الثوابت العقدية والنصوص القطعية.
تحقيق المصالح الراجحة ودرء المفاسد الكبرى وفق فقه منضبط.
النظر في المآلات ومعرفة أثر القرارات على حاضر الأمة ومستقبلها.
وإذا كان في هذا البحث ما أصاب فبفضل الله وتوفيقه، وإن كان فيه خطأ أو نقص فهو من نفسي وقصوري، وهو قابل للمراجعة والتقويم والزيادة. نسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الورقة لبنةً في سبيل ترشيد الخطاب السياسي والشرعي في سوريا وغيرها من بلدان المسلمين، وأن يعين العاملين على الحق، ويرزقنا جميعًا بصيرة نافذة، وعملاً صالحًا، وفهمًا صحيحًا، وأن يجنبنا الزلل والغلو والتقصير.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022