من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(أقوال المفسرين في آية الخيرية)
الحلقة: السابعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }[البقرة: 143] وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ والوسط هنا: الخيار، والأجود، كما يقال لقريش: أوسط العرب نسباً، وداراً؛ أي: خيرها. وتفسيره لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: يعني: خَيْـرَ الناس ، والمعنى: أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس، إلى أن قال: كما في الآية الأخرى،{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: خياراً.
وقال الطبري ـ رحمه الله ـ مقرراً خيرية هذه (الأمة الوسط): فإن سأل سائل، فقال: وكيف قيل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ}، ؟ وقد زعمت: أن تأويل هذه الآية: هذه الأمة خير الأمم التي مضت، وإنما يقال: كنتم خير أمة لقوم كانوا خياراً، فتغيروا عما كانوا عليه؟! قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أنتم خير أمة، كما قيل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ } [الأنفال: 26] وقد قال في موضوع آخر: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] فإدخال (كان) في مثل هذا ، وإسقاطها بمعنىً واحد ؛ لأن الكلام معروف معناه. ولو قال أيضاً في ذلك قائل: بمعنى{كُنْتُمْ}، كان تأويله: خلقتم خير أمة، أو: وجدتم خير أمة؛ كان معنىً صحيحاً، وفي تفسيره لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال: وأما التأويل؛ فإنه جاء بأن الوسط: العدل، وذلك معنى الخيار ؛ لأن الخيار من الناس عدولهم.
وممَّا سبق يتضح: أنَّ الخيرية مما فسر به معنى الوسطيَّة التي ذكرها الله من خصائص هذه الأمة، فما هي هذه الخيرية التي نعرف بها وسطية هذه الأمة؟
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم ـ جل ثناؤه ـ بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمَّةٍ تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم.
قال أبو السعود ـ رحمه الله ـ: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي: إيماناً متعلقاً بكل ما يجب أن يؤمن به من رسولٍ، وكتابٍ، وجزاءٍ، وإنما لم يصرِّح به تقصيلاً لظهور: أنه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقةً. وقال القاسمي ـ رحمه الله ـ: ثمَّ بيَّن وجه الخيريَّة بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }[آل عمران: 110] فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممَّن قال تعالى فيهم: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}[النساء: 150].
وقال محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ: والحقَّ أقول: إنَّ هذه الأمَّة ما فتئت خير أمَّةٍ أخرجت للناس حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... ثم قال: وقد بيَّن الفخر الرازي كون وصف الأمة هنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان علَّة لكونها خير أمَّةٍ أخرجت للناس، فقال: واعلم: أنَّ هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم.
وتحقيق الكلام: أنه ثبت في أصول الفقه: أنَّ ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدلُّ على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف، ههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم، وهذه الطاعات، أعني: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات.
وقد وردت بعض الأحاديث التي تدلُّ على خيرية هذه الأمة، منها:
1 ـ روى الترمذي في تفسيره لهذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تُتِمُّون سبعين أمة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله».
2 ـ وقال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط أحدٌ من الأنبياء»، فقلنا: يا رسول الله! ما هو؟ فقال: «نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسمِّيت: أحمد، وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم» .
فهذه الأحاديث مع آية آل عمران تبيِّن خيرية هذه الأمة، التي جعلها الله أمة وسطاً، وقد جمع المفسرون بين معنيي الخيرية، والوسطيَّة؛ حتى جاء أحدهما تفسيراً للاخر، كما مرَّ معنا.
ولأهمية بيان معنى الخيريَّة، سأذكر أبرز أوجه هذه الخيرية؛ ليتضح لنا معنى الوسطيَّة.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي