من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(الصراط المستقيم)
الحلقة: الخامسة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
إننا بدون فهم معنى (الصراط المستقيم) وتحديد مدلوله لا نستطيع فهم الوسطيَّة على معناها الصحيح. وقد ورد لفظ الصراط المستقيم، في القرآن الكريم عشرات المرات، وجاء أيضاً بلفظ: {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *}[الفتح: 2]، و{صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ *} [الأعراف: 16] و{صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا}[الأنعام: 153] ونحو ذلك .
ففي سورة الفاتحة نجد قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6] ثم يفسِّره بأنه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}[الفاتحة: 7].
وفي البقرة جاء قوله تعالى: { يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 142] وجاء بعد هذه الآية مباشرة: { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة: 143] وسيأتي بيان العلاقة بين هاتين الآيتين، وبين عيسى عليه السلام، في سورة آل عمران يقول لقومه: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *} [آل عمران: 51].
ونجد: أن سورة الأنعام من أكثر السور التي ورد فيها الحديث عن الصراط المستقيم: { مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 39]. { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 87]. { وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا } [الأنعام: 126] { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } [الأنعام: 153]. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 161].
وفي سورة إبراهيم سمَّاه: صراط العزيز الحميد: { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * } [إبراهيم: 1]. وفي سورة طه وصفه بالسويِّ فقال: { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى *}[طه: 135].
وفي سورة الحج أضافه للحميد، فقال: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِبِّ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ *} [الحج: 24]. وفي سورة المؤمنون عرَّفه دون وصف ، أو إضافة: {وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ *} [المؤمنون: 74]. وفي سورة مريم يقول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا *}[مريم: 43].
وقول الله في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام: 153].
هذه بعض الآيات التي وردت في: {الصِّرَاطَ} فما معناه؟
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6] أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} اعوجاج فيه، وذلك في لغة جميع العرب، ومنه قول الشاعر:
أمير المؤمنين على صراطٍ إذا اعوجَّ المواردُ مستقيمِ
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: قال جبريل لمحمد (ص): قل يا محمد : يقول ألهمنا الطريق {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}، وهو دين الله الذي لا عوج له.
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: وإنما وصفه الله بالاستقامة ؛ لأنه صواب لا خطأ فيه.
وقال: وكلُّ حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم فَضَالٌّ عند العرب، لإضلاله وجه الطريق.
وقال ابن ـ كثير رحمه الله ـ:
واختلفت عبارات المفسرين من السلف، والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيءٍ واحد، وهو: المتابعة لله ورسوله.
وإليك أقوال المفسرين في الصراط المستقيم:
فقد روى الطبريُّ عن عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (ص) أنه قال: ذكر القرآن، فقال: «هو الصراط المستقيم».
وقال عليٌّ: الصراط المستقيم: كتاب الله تعالى.
وبمثل ذلك فسَّره عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقال جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}، قال: هو أوسع ممَّا بين السماء، والأرض. وقال ابن عباس: ذلك الإسلام. وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: هو الطريق.
وقال القاسمي ـ رحمه الله ـ: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث له مهم ننشره عنه هنا لما فيه من الفوائد الجلية: قال رحمه الله: ينبغي أن يعلم: أن الاختلاف الواقع من المفسرين، وغيرهم على وجهين: أحدهما ليس فيه تضادٌّ ولا تناقض، بل يمكن أن يكون كلٌّ منهما حقّاً، وإنما هو اختلاف تنوع، أو اختلاف في الصفات، أو العبادات، وعامة الاختلاف الثابت بين مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب. فالله سبحانه وتعالى إذا ذكر في القرآن اسماً مثل قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فكلٌّ من المفسرين يعبِّر عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها بعض صفاته، وكلُّ ذلك حق بمنزلة ما يسمي الله ورسوله، وكتابته بأسماء كلِّ اسم منها يدل على صفة من صفاته.
فيقول بعضهم: الصراط المستقيم هو كتاب الله، أو اتباع كتاب الله.
ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام، أو دين الإسلام.
ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو السنة، والجماعة.
ويقول الآخر: الصراط المستقيم طريق العبودية، أو طريق الخوف، والرضا، والحب، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة، أو العمل بطاعة الله، ونحو هذه العبارات والأسماء، ومعلوم: أنَّ المسمى هو واحد، وإن تنوعت صفاته، وتعددت أسماؤه.
ثم قال في موضع اخر: فإن الصراط المستقيم أن تفعل في كلِّ وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علمٍ، وعملٍ، ولا تفعل ما نهيت عنه، وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهى عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسر بالقران، والإسلام، وطريق العبودية، وكل هذا حقٌّ، فهو موصوف بهذا، وبغيره.
قال القاسمي ـ رحمه الله ـ: الصراط المستقيم أصله: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ولا انحراف. ويستعار لكلِّ قولٍ، أو عملٍ يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة، فالطريق الواضح للحسِّ كالحق للعقل في أنه إذا سير بهما أبلغنا السالك النهاية الحسنى.
وقال ابن عاشور رحمه الله: والصراط في هذه الآية (آية الفاتحة) مستعار ـ لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضا الله ؛ لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه. والمستقيم: اسم فاعل من استقام، مطاوع قوَّمته، فاستقام، والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيماً، وهو الجادة ؛ لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضلُّ فيه سالكه، ولا يتردَّد، ولا يتحيَّر. والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخالطه شبهة باطل، فهو كالطريق الذي لا تتخلَّلُه بنياتٌ، ثم قال: والأظهر عندي: أن المراد بالصراط المستقيم: المعارف الصالحات كلها من اعتقادٍ، وعمل.
هذه بعض أقوال المفسرين في معنى الصراط المستقيم، كما ورد في سورة الفاتحة، وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها الصراط المستقيم سبق ذكر بعضها؛ فإن معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره، ولإيضاح ذلك أذكر تفسير بعض هذه الآيات باختصار:
قال تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}[الأنعام:87 ].
قال مجاهد ـ رحمه الله ـ: وسدَّدناهم، فأرشدناهم إلى طريق غير معوج وذلك دين الله الذي لا عوج فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه ربنا لأنبيائه، وأمر به عباده».
وفي قوله تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}[الأنعام:126 ].
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: هو صراط ربك، يقول: طريق ربك، ودينه الذي ارتضاه لعباده. يعني: قويماً {مُسْتَقِيمًا} اعوجاج به عن الحق.
وفي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام: 16 ].
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: يقول: قل لهم: إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، وهو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له.
وفي سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ *} [الأعراف: 16]. قال الطبري رحمه الله ـ: يقول: لأجلسن لبني آدم صراطك المستقيم، يعني: طريقك القويم، وذلك دين الله الحق، وهو الإسلام، وشرائعه.
وفي قوله تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا *} [مريم: 43] قال الطبري رحمه الله ـ: يقول: أبصرك هدي الطريق المستوي الذي لا تضل فيه؛ إن لزمته، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه.
وفي قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ *} [المؤمنون: 74] الطبري ـ رحمه الله ـ: يقول عن محجَّة الطريق، وقصد السبيل، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلين.
وبهذا يتَّضح: أن معنى الصراط في جميع هذه الآيات معنىً واحد، وإن اختلفت العبارة، والسياق.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf