من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
(الحكم العسكري الفرنسي بالجزائر)
الحلقة: الثامنة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
في (22 ديسمبر 1833م) تشكلت لجنة ثانية موسعة تتألف من (19) شخصية عسكرية ومدنية برئاسة الدوق ديكازيس ؛ الذي كان عضواً بمجلس الشيوخ الفرنسي، وبعد عقد (56) جلسة أكد أعضاء اللجنة الثانية اقتراحات اللجنة الأولى، ونصحوا الحكومة الفرنسية ببسط السيادة الفرنسية على القطر الجزائري بأكمله، والعمل على استغلال الأرض والسيطرة على جميع ثروات البلاد، وباختصار، فإن اللجنة لم تكن محايدة، ولكنها كانت وسيلة لتنفيذ برنامج الحكومة في الجزائر، وكما قال حمدان خوجة: فقد أجمع أعضاء اللجنة على مواصلة الاحتلال وعدم التخلي عن الفريسة، لأن الجزائر تقدم لفرنسا منافع كثيرة في الميادين الاقتصادية والسياسية والحربية، فهي سوق لترويج بضائعها ومنفى للمشوشين من أبنائها، ومركز استراتيجي تستعمله في حروبها وفي نشر سلطانها على البحر الأبيض المتوسط.
واشتمل التقرير الذي قدمته اللجنة الثانية للحكومة الفرنسية بتاريخ (10 مارس 1834م) اشتمل على اقتراحات ذات أبعاد خطيرة تتمثل في:
أ ـ خلق منصب الحاكم العام بإدخال عناصر جزائرية إلى المجلس البلدي.
ب ـ إنشاء مجالس بلدية في كل من الجزائر، ووهران، وعنابة.
ج ـ إنشاء ميزانية خاصة بالجزائر
د ـ تخفيض عدد أفراد الجيش إلى (21000) جندي.
ونستخلص مما تقدم أن الجزائر أصبحت تحكم بطريقه عسكرية خاضعة لوزارة الحربية الفرنسية، أي أنها لا تنطبق عليها القوانين الفرنسية بصفة طبيعية ؛ لأن عندها نظاماً عسكرياً خاصاً بالجزائر.
كما أن السياسة الرسمية لفرنسا أصبحت على أساس وجود حاكم عام ينفذ السياسة العسكرية لوزارة الحرب الفرنسية، وحسب النصوص القانونية التي وردت في الأمر الرئاسي الصادر بتاريخ (22 جويلية 1834م)، فإن الحاكم العام يعين من طرف مجلس الوزارة بناء على اقتراح من وزير الحربية الفرنسي، وفي البداية أعطيت له كل الصلاحيات، بحيث يقوم بإعداد الميزانية التي تدخل في إطار ميزانية وزارة الحرب بعد تقديمها إلى البرلمان الفرنسي، كما أنه يشرف على قضايا جمع الضرائب وفرضها ومعاقبة من لا يدفعها، كما يختص بقضايا العدالة وإشرافه على أعمال رجال القضاء، وبصفته الحاكم العام فإنه المسؤول الأول عن قضايا الأمن والشرطة وكل المسائل العسكرية، وانطلاقاً من هذا التنظيم الجديد المتمثل في خضوع الجزائر لوزارة الحرب الفرنسية حتى سنة (1870م) ووجود حاكم عام يشرف على تنفيذ أوامر وزارة الحرب في باريس، فإن الحكومة الفرنسية قد تركت الجزائر لوزارة الحرب، لكي توجهها حسبما تقتضي مصلحة القادة العسكريين ومصلحة المغامرين الأجانب ؛ الذين جاؤوا من جميع أنحاء أوروبا للاستيلاء على خيرات الجزائر وتسخير أبناء هذا البلد لخدمة الغزاة بأبخس الأثمان.
وتحقيقاً لهذه الأهداف، تقرر أن يستعين الحاكم العام بستة شخصيات عسكرية ومدنية لإقامة إدارة قوية قادرة على التحكم في مجرى الأمور في الجزائر، وإخضاع الجزائريين بالقوة إلى رغبات الأوروبيين، وفي هذا الإطار العام قام الحاكم العام بتعيين:
أ ـ قائد للجيش لكي يساعده في الميدان العسكري.
ب ـ قائد للبحرية مسؤول عن القوات الفرنسية في قطاعه.
ج ـ مسؤول عن القضايا المالية والإدارية في الميدان العسكري.
وفي الحقيقة أن الحاكم العام لم يكن هو المسؤول المباشر عن هؤلاء المسؤولين من الناحية العملية، لأن وزارة الحرب الفرنسية هي التي كانت تأمرهم بما ينبغي عمله في كل خطة، لكن الحاكم العام كان يشرف بطريقة مباشرة وبتنسيق مع وزارة الحرب، على المساعدين الثلاثة المدنيين، وهم:
أ ـ المسؤول الإداري المدني: هو الشخص القوي في الجزائر بعد الحاكم العام. إن سلطاته تعادل سلطة عامل العمالة في فرنسا، حيث كانت تسميته في هذا المنصب تأتي من طرف الملك، بناء على اقتراح من وزير الحرب في فرنسا، ويعتبر هو المحرك الرئيسي للإدارة الاستعمارية ؛ لأنه يشرف على توجيه كبار الموظفين الذين يخضعون لتعليماته وأحكامه.
ب ـ النائب العام: ويمكن وصفه هنا بالشخصية القوية التي تسيطر على القضاء والقضاة.
ج ـ المدير المالي: الذي كان يعتبر بمثابة وزير المالية في الإدارة الاستعمارية ؛ إذ إنه كان يشرف على إعداد الميزانية وجمع الضرائب، ويتمتع بحق الأمر بالصرف في الجزائر.
وأما الهيئة الثالثة التي كانت تقوم عليها الإدارة الاستعمارية بالإضافة إلى الحاكم العام وكبار الموظفين المساعدين له، فكانت تتمثل في مجلس الإدارة ؛ الذين يمكن اعتباره هو السلطة العليا لاتخاذ القرارات الجماعية. وفي إمكان الحاكم العام توسيعه وتعيين أعضاء اخرين فيه، ويختص هذا المجلس بدراسة قضايا الميزانية في الجزائر، والجباية المالية في الميدان الجمركي، والأمن والعبادات، ومجلس الإدارة هو الذي كان يحدد سياسة فرنسا في الجزائر، وطبعاً فإن وزارة الحربية الفرنسية هي التي ترجع إليها الكلمة الأخيرة في كل مسألة يناقشها مجلس الإدارة، ويعرضها عليها للموافقة وإبداء الرأي، قبل تنفيذها.
وتقرر في الأمر الرئاسي الصادر في (15 أبريل 1845م) تقسيم الجزائر إلى ثلاث مقاطعات هي: الجزائر، ووهران، وقسنطينة، وبهذا الأسلوب تقلصت سلطات الحاكم العام، وأصبحت حكومة باريس تسيطر على مجرى الأمور بحيث إن رئيس الدولة الفرنسي هو الذي يصدر المراسيم المتعلقة بالجزائر، ووزير الحرب الفرنسي هو الذي يصدر التعليمات والقرارات الخاصة بالجزائر، وتمشياً مع هذا التنظيم الجديد، تم تعيين مدير إداري، ومدير للشؤون الداخلية، والأشغال العمومية ومدير للمالية والتجارة، ووكيل للجمهورية، ومدير للشؤون العربية، والجميع يعملون تحت إشراف مدير الشؤون المدنية، لكن التغيير الجذري في وضعية الجزائر حدث في عام (1848م) حيث وقعت الثورة، وشارك المعمرون الفرنسيون فيها بوفد وطالبوا بإدماج الجزائر في فرنسا بصفة رسمية وإعطائهم (4) مقاعد في البرلمان الجديد، وبالفعل فقد تمكنوا من القيام بضغوط على الحكومة الجديدة وتعيين (4) نواب لكي يمثلوهم في البرلمان الفرنسي، وقد تحصلوا على هذا المكسب السياسي بمقتضى الدستور الجديد الصادر بتاريخ (4 نوفمبر 1848م) والذي نصت المادة (109) منه على اعتبار الجزائر أرضا فرنسية.
وفي الحقيقة إن استراتيجية الجيش الفرنسي في الجزائر كانت تقوم منذ البداية على تحطيم النظام وقوانين العمل الجزائرية في كل منطقة يتم احتلالها، وذلك بقصد تكسير العلاقات العائلية، وإقامة نظام جديد يحل محل النظام المألوف عند الجزائريين.
وتحت غطاء المحافظة على الأمن، وتوسيع نفوذ الدولة الفرنسية، وتوسيع الأراضي الفائضة عن احتياجات كل عرش، قامت السلطات العسكرية بالاستيلاء على أراضي الأعراش، لأن وجود الأراضي في حوزة جماعات جزائرية يمنع أو يحول دون توسع الاستيطان الأوروبي في الجزائر، كما أن فلسفة فرنسا في الجزائر، كانت تقوم على أساس أن التحكم في الجزائريين وإخضاعهم لنفوذها يتوقف على تحويلهم من مالكين إلى أجراء، يعملون لتنمية ثروات المعمرين الأوروبيين.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي: